فصل: تفسير الآيات (3- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (3- 6):

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)}
ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العلم بها هو خالقه، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته: عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهاً، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح: لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفاً {هو الذي} دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين: أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه- على تقدير تسليم الاختيار- غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات: الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات: {هو الله} أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً، وعلق بهذا المعنى قوله: {في السماوات} لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه.
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال: {وفي الأرض} أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء» ومحجوج بحديث: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل {ليس كمثله شيء} أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و«قد كان الله ولا شيء معه»، وحديث «ليس فوقك شيء» رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه- والله الموفق.
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء: {يعلم سركم}.
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال: {وجهركم} ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال: {ويعلم ما تكسبون} فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم، فلما تظاهرت الأدلة وتظافرت الحجج وهم عنها ناكبون، وصل بذلك في جملة حالية قولَه، معرضاً عنهم إيذاناً باستحقاقهم شديد الغضب: {وما تأتيهم} أي هؤلاء الذين هم أهل للإعراض عنهم، وأعرق في النفي بقوله: {من آية} أي علامة على صحة ما دعاهم إليه رسولهم صلى الله عليه وسلم، وبعض بقوله: {من آيات ربهم} أي المحسن إليهم بنصب الأدلة وإفاضة العقول وبعث الرسول {إلاّ كانوا عنها معرضين} أي هذه صفتهم دائماً قصداً للعناد لئلا يلزمهم الحجة، ويجوز أن يكون ذلك معطوفاً على {يعدلون}.
ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم، وهو سبب لتعذيبهم قال: {فقد كذبوا} أي أوقعوا تكذيب الصادق {بالحق} أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله. لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها {لما جآءهم} أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره، وذلك أدل ما يكون على العناد.
ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى، وهي الاستهزاء، قال: {فسوف يأتيهم} أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه {أنباء ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {به يستهزئون} أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه، وهو أبعد شيء عن الهزء، والنبأ: الخبر العظيم، وهو الذي يكون معه الجزاء، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل- كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً.
ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، فعجب من تماديهم مع ما علموا من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً: {ألم يروا} ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله: {كم أهلكنا}.
ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} وبيَّنَ {كم} بقوله: {من قرن} أي جماعة مقترنين في زمان واحد، وهم أهل كل مائة سنة- كما صححه القاموس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لغلام: «عش قرناً»، فعاش مائة. هذا نهاية القرن، والأقرب أنه لا يتقدر، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل: انقضى القرن، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله: {مكناهم} أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال {في الأرض} أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة {ما لم نمكن} أي تمكيناً لم نجعله {لكم} أي نخصكم به، فالآية من الاحتباك أو شبهه، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله: {وأرسلنا السماء} أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب {عليهم}. ولما كان المراد المطر، كان التقدير: حال كونه {مدراراً} أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر، قالوا: ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
ولما ذكر نفعهم بماء السماء، وكان غير دائم، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال: {وجعلنا الأنهار تجري} ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال: {من تحتهم} أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر.
ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي، فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم، فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك: {فأهلكناهم} أي بعظمتنا {بذنوبهم} أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم.
ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال: {وأنشأنا} ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي فيما كانوا فيه {قرناً} ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله: {آخرين} ولم ينقص ملكُنا شيئاً، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم، وهذه الآية مثل آية الروم {أو لم يسيروا في الأرض} [الروم: 9]- الآية، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله: {فما كان الله ليظلمهم} [الروم: 9] و[التوبة: 70]- إلى آخر الآيتين.

.تفسير الآيات (7- 10):

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)}
ولما كانت ترجمة ما مضى: ثم هم يعدلون بربهم غيرَه ويكذبونك فيما جئت به من الحق مع ما أوضحت عليه من الحجج ونصبت من الدلائل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم، كان المقام يقتضي أن يقول لسان الحال: أنزل عليهم يا رب ما ينتقلون به من النظر بالفكر إلى العيان كما اقترحوا عليّ، فأخبره أنهم لا يؤمنون بذلك، بقوله عطفاً على {وما تأتيهم من آية} تحقيقاً له وتصويراً في جريته: {ولو نزلنا} أي على ما لنا من العظمة {عليك كتاباً} أي مكتوباً من السماء {في قرطاس} أي ورق، إجابة لما أشار عليهم اليهود باقتراحه، ثم حقق أنه واضح الأمر، ليس بخيال ولا فيه نوع لبس بقوله: {فلمسوه} أي زيادة على الرؤية. وزاد في التحقيق والتصوير ودفع التجوز بقوله: {بأيديهم لقال} وأظهر ولم يضمر تعليقاً للحكم بالوصف وتنبيهاً على أن من الموجودين من يسكت ويؤمن ولو بعد ذلك فقال: {الذين كفروا} أي حكماً بتأبد كفرهم ستراً للآيات عناداً ومكابرة، ولعله أسقطُ منهم إشارة إلى عموم دعوته، أي من العرب ومن غيرهم من أمة دعوتك ولاسيما اليهود المشار إلى تعنتهم وكذبهم بقوله: {يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} [النساء: 153] {إن} أي ما {هذا إلاّ سحر} أي تمويه وخيال لا حقيقة له، وزادوا في الوقاحة فقالوا: {مبين} أي واضح ظاهر، قال صاحب كتاب الزينة: معنى السحر في كلام العرب التعليل بالشيء والمدافعة به والتعزير بشيء لا محصول له، يقال: سحره- إذا علله وعزره وشبه عليه حتى لا يدري من أين يتوجه ويقلب عن وجهه، فكأن السحرة يعللون الناس بالباطل ويشبهون الباطل في صورة الحق ويقلبونه عن جهته.
ولما بين ما يترتب على الإجابة إلى ما أشار إلى أن اليهود اقترحوه من إنزال الكتاب، أخبر أنهم اقترحوا ظهور الملك لهم، وبين لوازمه، فإنهم قالوا: لو بعث الله رسولاً لوجب كونه ملكاً ليكون أكثر علماً وأقوى قدرة وأظهر امتيازاً عن البشر، فتكون الشبهة في رسالته أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم كان الأولى تحصيله بما هو أسرع إيصالاً إليه، فقال: {وقالوا لولا} أي هلا ولِمَ لا {أنزل عليه ملك} أي من المساء ظاهراً لنا يكلمنا ونكلمه ولا يحتجب عنا.
ولما ذكر قولهم مشيراً إلى شبهتهم، نقضه بقوله: {ولو} أي والحال أنا لو {أنزلنا} وأسقط أداة الاستعلاء لعدم الاحتياج في رد كلامهم إلى ذكرها. ولئلا يكون فيه تسليهم لما لوحوا إليه من إنكارهم نزول الملك عليه بالوحي {ملكاً} أي كما اقترحوه، فلا يخلو إما أن يكون على صورته أولاً، فإن كان على صورته التي خلق عليها لم يثبتوا لرؤيته، ولو كان كذلك {لقضي الأمر} أي بهلاكهم، وبناه للمفعول إشارة على طريق كلام القادرين إلى غاية السرعة لسهولة الأمر وخفة مؤنته، فإنه لا ينظره أحد منهم إلاّ صعق، ولئن أعطيناهم قوة يثبتون بها لنظره ليكونن قضاءٌ للأمر وانفصال للنزاع من وجه آخر، وهو أن ذلك كشف للغطاء وفوات للإيمان بالغيب، وقد جرت عادتنا بالإهلاك عند ذلك، فإذا هم هالكون على كل من هذين التقديرين، وهو معنى قوله مهولاً لرتبته بحرف التراخي: {ثم لا ينظرون} أي على حالة من هاتين، وأما إن جعلناه على صورة يستطيعون نظرها فإنا نجعله على صورة رجل، فإنها أكمل الصور؛ وحينئذٍ يقع لهم اللبس الذي وقع لهم بدعائك، وهو معنى {ولو جعلناه} أي مطلوبَهم {ملكاً} أي يمكن في مجاري العادات في هذه الدار رؤيتهم له وبقاؤهم بعد رؤيته {لجعلناه رجلاً} أي في صورة رجل، ولكنه عبر بذلك إشارة إلى تمام اللبس حتى أنه لا يشك أحد يراه في كونه رجلاً، كما كان جبريل عليه السلام ينزل في بعض الأوقات على النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فإذا رآه بعض الصحابة رضي الله عنهم لم يشك أنه دحية رضي الله عنه {و} لو جعلناه رجلاً {للبسنا عليهم ما يلبسون} أي لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطونه على أنفسهم وعلى غيرهم في قولهم: إن الرسالة لا تصح من البشر، فلو كان هذا الذي يقول: إنه رسول رسولاً لكان ملكاً، فوقع اللبس عليهم بأنه لما كان هذا الذي يقول: إنه رسول، ملكاً كان رجلاً، ويجوز أن يقرر ذلك على وجه آخر، وهو أن يكون {ولو نزلنا} في حيز {كانوا عنها معرضين}، أي أعرضوا عنا لو نزلناها عليك في غير قرطاس، ولو نزلنا عليك من السماء كتاباً في قرطاس فجعلنا لهم في ذلك بين حس البصر واللمس لأعرضوا، وقال الذين أبَّدْنا كفرَهم عناداً ومكابرة: ما هذا إلاّ سحر ظاهر، ويكون {وقالوا} معطوفاً على {لقال الذين كفروا} ويكون ذلك قبل اقتراحهم لذلك بما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الإسراء بقوله: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} [الإسراء: 90]- إلى آخرها، فيكون إخباراً بمغيب.
ولما قطع الرجاء لهداية من حكم بشقاوته، وكان طلبهم لإنزال الملك ونحوه إنما هو على سبيل التعنت والاستهزاء، وكان ذلك يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم غاية المشقة، التفتت النفس إلى الإراحة منهم وتوقعته لما تقدم من مظاهر العظمة، فأخبره أنه فاعل ذلك في سياق متكفل بتسليته، وأن ذلك لم يزل سنته فيمن فعل فعلهم، فقال- عاطفاً على قوله: {فسوف يأتيهم أنباؤا} [الأنعام: 5]-: {ولقد} أي هذا منهم إنما هو استهزاء بك {ولقد استهزئ} أي أوقع الهزء وأوجد من الأمم، وبني للمفعول لأن المنكي الاستهزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه كان يقع لهم ذلك من الأعلى والأدنى {برسل}.
ولما كان القرب في الزمن في مثل هذا مما يسلي، وكان كل من الاستهزاء والإرسال لم يستغرق الزمن، أدخل الجار فاقل: {من قبلك} فأهلكنا من هزأ بهم، وهو معنى {فحاق} أي فأحاط {بالذين سخروا منهم} أي من أولئك الرسل {ما كانوا به يستهزئون} أي من العذاب الذي كانوا يتوعدون به، وكان سبباً لهزئهم.

.تفسير الآيات (11- 13):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
ولما علم الله تعالى أنهم يقولون في جواب هذا: إن هذا إلا أساطير الأولين، أمره صلى الله عليه وسلم بعد ما مضى من التعجيب من كونهم لم ينظروا بقلوبهم أو أبصارهم مصارع الماضين في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا} [الأنعام: 6] أن يأمرهم بأن يشاهدوا مصارع من تمكن في قلوبهم علم أنهم أهلكوا بمثل تكذيبهم من قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ليغنيهم ذلك عن مشاهدة ما اقترحوا فقال تعالى: {قل سيروا} أي أوقعوا السير للاعتبار ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم {في الأرض} الآية، وهي كالدليل على قوله تعالى: {لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [الأنعام: 6].
ولما كان السياق للتهديد بالتحذير من مثل أخذ الأمم الماضية، وكان قد سلف أنه لا تقدمهم عن آجالهم، أمهلهم في النظر فإنه أقوى في التهديد، وأدل على القدرة، وأدعى إلى النصفة ولاسيما والسورة من أوائل القرآن نزولاً وأوائله ترتيباً فقال: {ثم انظروا} وأشار إلى أن هذا أهل لأن يسأل عنه بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين} أي أنعموا النظر وبالغوا في التفكر وأطيلوا التدبر إذا رأيتم آثار المعذبين لأجل تكذيب الرسل، فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار وقوي الاستبصار، وذلك إشارة إلى أن الأمر في غاية الانكشاف، فكلما طال الفكر فيه ازداد ظهوراً.
ولما أمرهم سبحانه بالسير، سألهم هل يرون في سيرهم وتطوافهم وجولانهم واعتسافهم شيئاً لغير الله؟ تذكيراً لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولاً وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانياً، استعطافاً لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته، وتقبيحاً لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره. فقال مقرراً لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد، ومبكتاً بسفههم وشدة جهلهم وعمههم: {قل لمن} ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود {ما في السماوات والأرض}.
ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة، أشار إلى ذلك بقوله معرضاً عن انتظار جوابهم توبيخاً لهم بعدم النصفة التي يدعونها: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلماً ولا كفوء له، لا لغيره، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك، لاسيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسن أن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان، فكان الإقرار بن ضروري، لا خلاف فيه.
ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسنة لذيذة طيبة شهية، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته، وكان ذلك أهلاً لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان، قال دالاً على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفاً: {كتب} أي وعد وعداً هو كالمكتوب الذي ختم، وأكد غاية التأكيد، أو كتب حيث أراد سبحانه.
ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال: {على نفسه الرحمة} أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات.
ولما كان ذلك مطمعاً للظالم البطر، ومعجباً محيراً مؤسفاً للمظلوم المنكسر، قال محذراً مرحباً مبشراً ملتفتاً إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالاً على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار، فيكون قادراً على الإعادة، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالماً بجميع المعلومات، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع: {ليجمعنكم} أي والله محشورين شيئاً فشيئاً {إلى يوم القيامة} للعدل بين جميع العباد كائناً {لا ريب فيه} أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية.
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق: الشقي والسعيد القريب والبعيد، كان كأنه قيل: فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به، فقال جواباً: {الذين خسروا أنفسهم} أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم {فهم} أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد {لا يؤمنون} فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى: إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم.
ولما استنارت الأدلة استنارة الشمس وانتصبت البراهين حتى لم يبق أصلاً نوع لبس، عم بالخبر عما تقدم مما يشاهدونه وغيره، فقال ذاكراً الزمان بعد المكان، وقدمه لأنه أظهر، والمعلم الكامل هو الذي يبدأ بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، فتم بذلك الخبر عن الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات: {وله} أي وحده {ما سكن} أي حل وتحيز وحصل {في الليل والنهار} أي ما من شأنه أن يسكن فيهما وإن كان متحركاً، ولكنه عبر بذلك دون التحرك لأنها دار الموت، ودخل في ذلك النور والظلمة اللذان أشرك بهما من أشرك.
ولما دل ما مضى على القدرة التامة، وانقسم إلى متحرك وساكن، وكانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، دل عليه بقوله: {وهو} أي لا غيره {السميع} أي البالغ السمع لكل متحرك {العليم} أي العام العلم بالبصر والسمع وغيرهما بكل متحرك وبكل ساكن من أقوالكم وأفعالكم وغيرهما، فلا تطمعوا في أن يترك شيء من مجازاتكم، والعليم هنا أبلغ من البصير، وذلك مثل ما تقدم في قوله: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم} [المائدة: 76] وهو ترجمة قوله: {يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} [الأنعام: 3].