فصل: تفسير الآيات (64- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 73):

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
قوله: {ثم توليتم} والتولي قال الأصفهاني: أصله الإعراض عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمر والدين- انتهى. وهو هنا الإعراض المتكلف بما يفهمه التفعل- قاله الحرالي. وذلك لأن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه فرجعت بذلك إلى نحو من الفطر الأولى لم ترجع عنه إلاّ بمنازعة من الهوى شديدة.
ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك} أي التأكيد العظيم عن الوفاء به {فلولا} أي فتسبب عن توليكم أنه لولا {فضل الله} أي الذي له الجلال والإكرام مستعل {عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة والإكرام بالهداية والنصر على الأعداء {ولكنتم من الخاسرين} بالعقوبة وتأبد الغضب، وأيضاً فلما كان يمكنهم أن يدعوا الإيمان والعمل الصالح عقبت تلك بآية الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق إشارة إلى أنه ليس المنجي الإيمان في الجملة بل الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما آتاهم في التوراة إيماناً مصحوباً بالقوة، ومما آتاهم صفة عيسى ومحمد عليهما السلام والأمر باتباعهما، فهو مما أخذ عليهم به العهد وقد كفروا به فلم يصح لهم إيمان ولا عمل، لأن التفرقة بين ما أتى منه سبحانه زنذقة.
ثم جاءت قصة المعتدين في السبت مؤكدة لذلك إذ كان حاصلها أنهم لما ضيعوا أمراً واحداً من أوامره واستخفوا به وهو تحريم السبت عذبهم بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين فقال: ولقد وأقرب من ذلك أن يقال إنه سبحانه لما ذكرهم بنعمة العفو الحافظ لهم من الخسران قرعهم بحلافة أخرى لهم خذل بها فريقاً منهم حتى غلبهم الخسران فما ضروا إلاّ أنفسهم مقسماً على أنهم بها عالمون ولها مستحضرون فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره: لقد علمتم جميع ذلك من عهودنا وما ذكرنا من الإيقاع بمن نقض من شديد وعيدنا ومن التهديد على ذلك بضرب الذلة وما تبعها من أنواع النكال و{لقد} أي وعزتي لقد {علمتم الذين اعتدوا} أي تعمدوا العدوان {منكم في السبت} بأن استحلوه وأصل السبت القطع للعمل ونحوه {فقلنا} أي فتسبب عن اعتدائهم أن قلنا بما لنا من العظمة. {لهم كونوا} بإرادتنا {قردة خاسئين} أي صاغرين مطرودين جمع خاسئ من الخسئ وهو طرد بكره واستخباث، وسبب ذلك أن الله تعالى أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فألزمهم الله إياه وجعله لهم محنة وحرم عليهم فيه العمل، فاصطادوا على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم وحمله سبحانه فتجاهروا بالمعصية مسخ منهم من عصى بالمباشرة ومن سكت عن النهي عن المنكر {فجعلناها} أي فتسبب عن قولنا إنهم كانوا قردة كما قلنا، فجعلنا هذه العقوبة {نكالاً} أي قيداً مانعاً {لما بين يديها} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها {وما خلفها} ممن جاء بعدهم، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، والنكال إبداء العقوبة لمن يتّعظ بها، واليد ما به تظهر أعيان الأشياء وصورها أعلاها وأدناها، فلذلك ثنيت لأنها يد عليا هي اليمنى ويد دنيا هي اليسرى، والخلف ما يخلفه المتوجه في توجهه فينطمس عن حواس إقباله شهوده- قاله الحرالي.
وقال {وموعظة} من الوعظ وهو دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها {للمتقين} وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور وأن النقم تقع في غيرهم وعظاً لهم.
ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه عامة ثم خاصة اتبعه بيان جساوتهم في مصالح أنفسهم لينتج أنهم أسفه الناس فقال {وإذ قال موسى لقومه} بني إسرائيل {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يأمركم أن تذبحوا بقرة} لتعرفوا بها أمر القتيل الذي أعياكم أمره، وتاؤها ليست للتأنيث الحقيقي بل لأنها واحدة من الجنس فتقع على الذكر والأنثى. ولما كان من حقهم المبادرة إلى الامتثال والشكر فلم يفعلوا بيّن فظاظتهم على طريق الاستئناف معظماً لها بقوله حكاية عنهم {قالوا أتتخذنا هزواً} أي مكان هزء ومهزوءاً بنا حين نسألك عن قتيل فتأمرنا بذبح بقرة، فجمعوا إلى ما أشير إليه من إساءتهم سوء الأدب على من ثبتت رسالته بالمعجزة فرد كلامه كفر، فذكرهم بما رأوا منه من العلم بالله المنافي للهزء بأن قال {أعوذ بالله} أي أعتصم بمن لا كفوء له من {أن أكون من الجاهلين} فإنه لا يستهزئ إلا جاهل، والعوذ اللجاء من متخوَّف لكاف يكفيه، والجهل التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم- قاله الحرالي. {قالوا} تمادياً في الغلظة {ادع لنا ربك} أي المحسن إليك فكان تخصيصهم له بالإضافة غاية في الجفاء {يبين} من التبيين وهو اقتطاع الشيء، والمعنى مما يلابسه ويداخله- قاله الحرالي. والمراد المبالغة في البيان بما يفهمه صيغة التفعيل {لنا ما هي} تلك البقرة {قال إنه يقول} ولما كانوا يتعنتون أكد فقال {إنها بقرة لا فارض} أي مسنة فرضت سنها أي قطعتها {ولا بكر} أي فتية صغيرة {عوان} أي نصف وهو خبر مبتدأ محذوف، وبين هذا الخبر بقوله: {بين ذلك} أي سني الفارض والبكر {فافعلوا ما تؤمرون} فإن الاعتراض على من يجب التسليم له كفر فلم يفعلوا بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن {قالوا ادع لنا ربك} تمادياً في الجفاء بعدم الاعتراف بالإحسان {يبين لنا ما لونها} بعد بيان سنها، واللون تكيف ظاهر الأشياء في العين- قاله الحرالي.
{قال} وأكد لما مضى من تلددهم فقال {إنه يقول} وأكد إشارة إلى مزيد تعنتهم فقال {إنها بقرة صفراء} وأكد شدة صفرتها بالعدول عن فاقعة إلى قوله معبراً باللون {فاقع لونها} أي خالص في صفرته. قال الحرالي: نعت تخليص للون الأصفر بمنزلة قانئ في الأحمر فهي إذن متوسطة اللون بين الأسود والأبيض كما كانت متوسطة السن، {تسر الناظرين} أي تبهج نفوسهم بأنك إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها- قاله وهب {قالوا ادع لنا ربك} المحسن إليك بالإجابة في كل ما سألته {يبين لنا ما هي} ثم عللوا تكريرهم لذلك بقولهم {إن البقر} أي الموصوف بما قدمته {تشابه} أي وقع تشابهه {علينا} وذكر الفعل لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحدة فإن العرب تذكره نقل عن سيبويه؛ ثم أدركتهم العناية فقالوا {وإنا إن شاء الله} أي الذي له صفات الكمال وأكدوا لما أوجب توقفهم من ظن عنادهم وقدموا التبرك بالمشية لذلك على خبر إن {لمهتدون} أي إلى المراد فتبركوا بما لا تكون بركة إلا به {قال إنه يقول إنها} أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها {بقرة لا ذلول} من الذل وهو حسن الانقياد- قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله: {تثير الأرض} أي يتجدد منها إثارتها بالحرث كل وقت من الإثارة قال الحرالي: وهي إظهار الشيء من الثرى، كأنها تخرج الثرى من محتوى اليبس؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه بالاسم المبالغ فيه، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً، فإنها لو كانت كذلك كانت وحشية لا يقدر عليها أصلاً.
ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل عبر فيه بالفعل وأصحبه لا عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى فقال واصفاً للبقرة {ولا تسقي الحرث} أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت، ويجوز أن يكون إثبات لا فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف للاذلول، وحذف لا قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى، والمراد أنها لم تذلل بحرث ولا سقي ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء كما آذن به الوصف بذلول، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير {مسلّمة} أي من العيوب {لا شية} أي علامة {فيها} تخالف لونها بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها {قالوا الآن} أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي {جئت بالحق} أي الأمر الثابت المستقر البين من بيان وصف البقرة فحصلوها {فذبحوها} أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها {وما كادوا} أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة {يفعلون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم- يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق، وهو دليل جواز النسخ قبل الفعل، أو يقال إنه لما كان السبت إنما وجب عليهم وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كما يأتى إن شاء الله تعالى بيانه عند قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل: 124] كان أنسب الأشياء تعقيبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت، ويجوز أن يقال إنه لما كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان وكان في قصة البقرة التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها، ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات العجم، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر، ولعل تخصيص لحم البقر بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي: وفي ذلك تشامّ بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث- يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة في شعرة، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً} [الشورى: 11]- انتهى. ولما قسمت القصة شطرين تنبيهاً على النعمتين: نعمة العفو عن التوقف عن الأمر ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق، وتنبيهاً على أن لهم بذلك تقريعين: أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال والثاني على قتل النفس وما تبعه، ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر. وقال الحرالي: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر تدارئهم في القتيل ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة- انتهى.
فقال تعالى: {وإذ} أي واذكروا إذ، وأسند القتل إلى الكل والقاتل واحد لأن ذلك عادة العرب، لأن عادة القبيلة المدافعة عن أحدهم فقال {قتلهم نفساً} فأقبل عليهم بالخطاب توبيخاً لهم وإشارة إلى أن الموجودين منهم راضون بما مضى من أسلافهم وأن من ودّ شيئاً كان من عملته.
ولما كانوا قد أنكروا القتل سبب عنه قوله مشيراً إلى إخفائه بالإدغام {فادارأتم فيها} أي تدافعتم فكان كل فريق منكم يردّ القتل إلى الآخر فكان لكم بذلك ثلاثة آثام: إثم الكبيرة وإثم الإصرار وإثم الافتراء بالدفع؛ قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، كأنه يشير إلى ما أذكره عنها قريباً.
ولما كان فعلهم في المدارة فعل غافل عن إحاطة علم الخالق سبحانه قال يحكي حالهم إذ ذاك {والله} أي والحال أن الذي له الأمر كله {مخرج} بلطيف صنعه وعظيم شأنه {وما كنتم تكتمون} وفي تقديمه أيضاً زيادة تبكيت لهم بتوقفهم في ذبح بقرة أمروا بذبحها لمصلحة لهم عظيمة بعد مبادرة بعضهم إلى قتل إنسان مثله بعد النهي الشديد عنه وقال منبهاً بالالتفات إلى أسلوب العظمة على ما في الفعل المأمور به منها {فقلنا} أي بما لنا من العظمة {اضربوه} وأضمر ذكر البقرة ولم يظهر دلالة على اتحاد هذا الشق الأول من القصة الذي جعل ثانياً بالشق الذي قبله في أنهما قصة واحدة فقال {ببعضها} قال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة: قلنا اضربوا المقتول ببعض البقرة فضربوه به فحيي، يعني والدليل على هذا المحذوف قوله: {كذلك} أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة {يحيي الله} أي الذي له صفات الكمال {الموتى} مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد- انتهى. روي أنهم لما ضربوه قام وقال: قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخدا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك؛ وهذه الخارقة كما أَخْبَرَ نَبِيَّنا صلى الله عليه وسلم ذراعُ الشاة المسمومة بأنه مسموم لما سمته اليهودية التي كانت في قومها هذه الآية، وجعل هذا التنبيه على البعث في قصصهم، لأنه من أعظم الأدلة عليه، وقد وقع منهم ما ساغ معه عدهم منكرين وهو قولهم للمشركين: دينكم خير من دين محمد، أو أن هذا تنبيه مقصود به حث العرب على سؤال من استنصحوهم في السؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم لكونهم أهل العلم الأول، فهو ملزِم لهم باعتقاد البعث أو اعتقاد كذب اليهود، وعبر بالاسم العلم لأن الإحياء من أخص الآيات بصفة الإلهية كما أن الإرزاق أخص الآيات بالربوبية {ويريكم آياته} فيما يشهد بصحته {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا برؤية تلك الآيات الشاهدة له على رجاء من أن يحصل لكم عقل فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.

.تفسير الآيات (74- 82):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلاً عن الوقوع أشار إليه بقوله: {ثم قست} من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر {قلوبكم} ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال {من بعد ذلك} أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيراً لهم بطول إمهاله لهم سبحانه مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيراً من مثل ما أحل بأهل السبت {فهي} أي فتسبب عن قسوتها أن كانت {كالحجارة} التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين.
ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال {أو} قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام- انتهى. وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال {أشد قسوة} لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك.
ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيراً إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله: {وإن من الحجارة} وزاد في التأكيد تأكيداً لذلك قوله: {لما يتفجر} أي يتفتح بالسعة والكثرة {منه الأنهار} ذكر الكثير من ذلك وتذكيراً بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال: {وإن منها لما يشقق} أي يسيراً بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين- قاله الحرالي. {فيخرج منه الماء} الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك وقلوبكم لانتقاد لشيء من الأوامر فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه.
ولما كان التقدير: فما أعمالكم- أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب- مما يرضي الله؟ عطف عليه {وما} ويجوز أن يكون حالاً من قلوبكم أي قست والحال أنه ما {الله} أي الذي له الكمال كله {بغافل} والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به {عما تعملون} فانتظروا عذاباً مثل عذاب أصحاب السبت إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه بقوله تعالى:
{تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسبباً عنه أنه قال في السفر الخامس منها ما نصه: فإذا وجدتم قتيلاً في الأرض التي يعطيكم الله ربكم مطروحاً لا يعرف قاتله يخرج أشياخكم وقضاتكم ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأية قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلاً لم يعمل به عمل ولم يحرث به حرث، فينزل أشياخ تلك القرية العجل إلى الوادي الذي لم يزرع ولم يحرث فيه حرث يذبحون العجل في ذلك الوادي ويتقدم الأحبار بنو لاوى الذين اختارهم الله ربكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب وعن قولهم يقضي كل قضاء ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي ويحلفون ويقولون: ما سفكت أيدينا هذا الدم وما رأينا من قتله فاغفر يا رب لآل إسرائيل شعبك الذين خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم وأنتم فافحصوا عن الدم واقضوا بالحق وأبعدوا عنكم الإثم واعملوا الحسنات بين يدي الله ربّكم- انتهى. وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع هذا الأصل المذكور في القرآن العظيم والله أعلم.
ولما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم منكراً للطمع في إيمانهم بعد ما قرر أنه تكرر من كفرانهم فقال: {أفتطمعون} والطمع تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب له {أن يؤمنوا} أي هؤلاء الذين بين أظهركم وقد سمعتم ما اتفق لأسلافهم من الكثافة وهم راضون بذلك وإلا لآمنوا بمجرد هذا الإخبار عن هذه القصص من هذا النبي الأمي الذي يحصل التحقيق بأنه لا معلم له بها إلاّ الله معترفين {لكم وقد} أي والحال أنه قد {كان فريق} أي ناس يقصدون الفرقة والشتات {منهم} قال الحرالي: من الفرق وهو اختصاص برأي وجهة عمن حقه أن يتصل به ويكون معه- انتهى. و{يسمعون كلام الله} المستحق لجميع صفات الكمال والكلام قال الحرالي: هو إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار- انتهى.
{ثم يحرفونه} أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، وفي ذكر الفريق مع المعطوفات عليه تأكيد لعظيم تهمّكهم في العصيان بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقاً في الكفر والعدوان والتبرء من جلباب الحياء، وقوله: {من بعد ما عقلوه} مع كونه توطية لما يأتي من أمر الفسخ مشيراً إلى أن تحريفهم لم يكن في محل إشكال لكونه مدركاً بالبديهة، وأثبت الجار لاختلاف أحوالهم.
ولما كان هذا مع أنه إشارة إلى أنهم على جبلات إبائهم وإلى أن من اجترأ على الله لم ينبغ لعباد الله أن يطمعوا في صلاحه لهم، لأنه إذا اجترأ على العالم بالخفيات كان على غيره أجرأ مشيراً إلى أنه لا يفعله عاقل ختمه بقوله: {وهم يعلمون} أي والحال أنهم مع العقل حاملون للعلم فاهمون له غير غافلين بل متعمدون.
ولما كان الكلام مرشداً إلى أن التقدير فهم لجرأتهم على الله إذا سمعوا كتابكم حرفوه وإذا حدثوا عباد الله لا يكادون يصدقون عطف عليه قوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا} بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا} نفاقاً منهم {آمنا وإذا خلا بعضهم} أي المنافقين {إلى بعض قالوا} لائمين لهم ظنّاً منهم جهلاً بالله لما وجدوا كثيراً من أسرارهم وخفي أخبارهم مما هو في كتابهم من الدقائق وغير ذلك عند المؤمنين مع اجتهاده في إخفائها أن بعضهم أفشاها فعلمت من قبله {أتحدثونهم} من التحديث وهو تكرار حدث القول أي واقعه {بما فتح الله} ذو الجلال والجمال {عليكم} من العلم القديم الذي أتاكم على ألسنة رسلكم أو بما عذب به بعضكم. والفتح قال الحرالي توسعة الضيق حساً ومعنى {ليحاجوكم} أي المؤمنون {به عند ربكم} والمحاجة تثبيت القصد والرأي بما يصححه. ولما كان عندهم أن إفشاءهم لمثل هذا من فعل من لا يفعل قالوا إنكاراً من بعضهم على بعض {أفلا تعقلون} ويمكن أن يكون خطاباً للمؤمنين المخاطبين يتطمعون، أي أفلا يكون لكم عقل ليردكم ذلك عن تعليق الأمل بإيمانهم. ولما كان ظنهم هذا أقبح الفساد لأنه لو لم يكن علمه من قبل الله لم يقدر غيره أن يعبر عنه بعبارة تعجز الخلائق عن مماثلتها وصل به قوله موبخاً لهم {أولا} أي ألا يعلمون أن علم المؤمنين لذلك لم يكن إلا عن الله لما قام عليه من دليل الإعجاز أو لا {يعلمون أن الله} الذي له الإحاطة بكل شيء {يعلم ما يسرون} أي يخفون من قولهم لأصحابهم ومن غيره {وما يعلنون} أي يظهرون من ذلك فيخبر به أولياءه.
ولما ذكر سبحانه هذا الفريق الذي هو من أعلاهم كفراً وأعتاهم أمراً عطف عليه قسماً أعتى منه وأفظ لأن العالم يرجى لفته عن رأيه أو تخجيله بالحجاج بخلاف المقلد العاتي الكثيف الجافي فقال {ومنهم أميون} ويجوز أن يراد بهم من لا يحسن الكتابة ومن يحسنها وهو غليظ الطبع بعيد عن الفهم، لأن الأمي في اللغة من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتابة وهو باق على جبلته وحال ولادته والغبي الجلف الجافي القليل الكلام، فالمعنى أنهم قسمان: كتبة وغير كتبة، وهم المراد بالأميين، وهؤلاء مع كونهم لا يحسنون الكتاب يجوز أن يتعلموا القراءة تلقيناً ولا يفهمون المعاني، ويجوز أن يكون المعنى أنهم قسمان: علماء نحارير عارفون بالمعاني وجهلة غبيون لا حظ لهم من التوراة إلا القراءة الخالية عن التدبر المقرونة بالتمني ولذلك قال: {لا يعلمون الكتاب} أي بخلاف القسم الذي أكد فيه كونهم من أهل العلم.
ولما كان المراد سلب العلم عنهم رأساً أبرز الاستثناء مع كونه منقطعاً في صورة المتصل فقال: {إلاّ أماني} جمع أمنية، وهي تقدير الوقوع فيما يترامى إليه الأمل، ويقال إن معناه يجري في التلاوة للفظ كأنها تقدير بالإضافة لمن يتحقق له المعنى- قاله الحرالي. أي إن كانت الأماني مما يصح وصفه بالعلم فهي لهم لا غيرها من جميع أنواعه. ولما أفهم ذلك أن التقدير ما هم ألا يقدرون تقديرات لا علم لهم بها عطف عليه قوله: {وإن هم إلا يظنون} تأكيداً لنفي العلم عنهم. ولما أثبت لهذا الفريق القطع على الله بما لا علم لهم به وكان هذا معلوم الذم محتوم الإثم سبب عنه الذم والإثم بطريق الأولى لفريق هو أردؤهم وأضرهم لعباد الله وأعداهم فقال: {فويل} والويل جماع الشر كله- قاله الحرالي. {للذين يكتبون} أي منهم ومن غيرهم {الكتاب} أي الذي يعلمون أنه من عندهم لا من عند الله {بأيديهم} وأشار إلى قبح هذا الكذب وبعّدَ رتبته في الخبث بأداة التراخي فقال {ثم يقولون} لما كتبوه كذباً وبهتاناً {وهذا من عند الله} الملك الأعظم ثم بين بالعلة الحاملة لهم على ذلك خساستهم وتراميهم إلى النجاسة ودناءتهم فقال: {ليشتروا به} أي بهذا الكذب الذي صنعوه {ثمناً قليلاً} ثم سبب عنه قوله: {فويل لهم مما كتبت أيديهم} من ذلك الكذب على الله {وويل لهم مما يكسبون} أي يجدون كسبه مما اشتروه به، وجرد الفعل لوضوح دلالته على الخبث بقرينة ما تقدم وإذا كان المجرد كذلك كان غيره أولى قال الحرالي: والكسب ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار على إحساس بمنة فيه وقوة عليه- انتهى. وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنه لإعجازه لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه فيلبس به- فللّه المنّة علينا والفضل.
ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير: فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى: {وقالوا لن تمسّنا} من المس وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره {النار} أي المعدة في الآخرة {إلا أياماً} ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم: {معدودة} أي منقضية، لأن كل معدود منقض. قال الحرالي: والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران.
ولما ادعوا ذلك ادعوا أن المسلمين يخلفونهم بعد ذلك فيها، روى البخاري في الجزية والمغازي والطب والدارمي في أول المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود، فجمعوا له فقال: إن سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت وبررت، قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسؤوا فيها! والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك» ولما ادعوا ذلك كان كأنه قيل: فيما ذا نرد عليهم؟ فقال {قل} منكراً لقولهم {اتخذتم} في ذلك {عند الله} أي الذي له الأمر كله {عهداً فلن} أي فيتسبب عن ذلك أنه يوفي بعهده، لأنه {يخلف الله} الذي له صفات الكمال {عهده أم} لم يكن ذلك فأنتم {تقولون على الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما لا تعلمون} ومعنى الإنكار في الاستفهام أنه ليس واحد من الأمرين واقعاً، لا اتخذتم عهداً ولا قلتم ذلك جهلاً، بل قلتموه وأنتم تعلمون خلافه، ولما انتفى الأمران علم أن الكائن غير ما ادعوه فصرح به في قوله: {بلى} أي لتمسنكم على خلاف ما زعمتموه، فإنّ بلى كلمة تدل على تقرير يفهم من إضراب عن نفي كأنها بل وصلت بها الألف إثباتاً لما أضرب عن نفيه- قاله الحرالي.
ونعم جواب لكلام لا جحد فيه. ولما أضرب سبحانه عما قالوه من القضاء في الأعيان قاضياً عليهم بالخسران علل ذلك بوصف هم به متلبسون معلماً بأن من حق الجاهل بالغيب الحكم على الأوصاف التي ناط علام الغيوب بها الأحكام فقال: {من كسب سيئة} أي عملاً من حقه أن يسوء {وأحاطت به خطيئة} بحيث لم يكن شيء من أحواله خارجاً عن الخطيئة بل كانت غامرة لكل ما سواها من أعماله، ولا يكون ذلك إلاّ للكفر الهادم لأساس الأعمال الذي لا يتأتى بقاء الأعمال بدونه. ولما كان إفراد الضمير أنصّ على جزاء كل فرد والحكم بالنكال على الكل أنكأ وأروع وأقبح وأفظع وأدل على القدرة أفرد ثم جمع فقال آتياً بالفاء دليلاً أن أعمالهم سبب دخولهم النار: {فأولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار هم} خاصة {فيها خالدون}.
ولما بان بهذا مالهم ولكل من شاركهم في هذا الوصف عطف عليه ما لمن ادّعوا أنهم يخلفونهم في النار ولكل من شاركهم في وصفهم الذي استحقوا به ذلك فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالوحدانية بألسنتهم {وعملوا الصالحات} بياناً لأن قلوبهم مطمئنة بذلك {أولئك} العالو المراتب الشريفو المناقب، ولم يأت بالفاء دلالة على أن سبب سعادتهم إنما هو الرحمة {أصحاب الجنة} لا غيرهم {وهم} أي خاصة {فيها خالدون}.