فصل: تفسير الآيات (21- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 26):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
ولما كان التقدير: خسروا ففاتهم الإيمان، لأنهم ظلموا بكتمان الشهادة، فكان الظلم سبب خسرانهم، فمن أظلم منهم! عطف عليه ما يؤذن بأنهم بدلوا كتابهم، أو نسبوا إليه ما ليس فيه، فقال واضعاً للظاهر موضع ضميرهم لذلك: {ومن أظلم ممن افترى} أي تعمد {على الله كذباً} كهؤلاء الذين حرفوا كتابهم ونسبوا إلى الله ما لم يقله، زيادة كتبوها بأيديهم لا أصل ها، إضلالاً منهم لعباده {أو كذب بآياته} أي الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات كالمشركين، لا أحد أظلم منهم فهم لا يفلحون {إنه لا يفلح الظالمون} أي فكيف بالأظلمين!.
ولما كان معنى هذا أنهم أكذب الناس، دل عليه بكذبهم يوم الحشر بعد انكشاف الغطاء فقال: {ويوم} أي اذكر كذبهم على الله وتكذيبهم في هذه الدار، واذكر أعجب من ذلك، وهو كذبهم في عالم الشهادة عند كشف الغطاء وارتفاع الحجب يوم {نحشرهم} أي نجمعهم بما لنا من العظمة وهم كارهون صاغرون {جميعاً} أي أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم، وأشار إلى عظمة ذلك اليوم وطوله ومشقته وهوله بقوله بأداة التراخي: {ثم نقول} أى بما لنا من العظمة التي انكشفت لهم أستارها وتبدت لهم بحورها وأغوارها توبيخاً وتنديماً {للذين أشركوا} أي سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه بالفعل من الأصنام أو عزير أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك، أو بالرضى بالشرك، فإن الرضى بالشيء فعل له لاسيما إن انضم إليه تكذيب المحق والشهادة للمبطل بأن دينه خير {أين شركاؤكم} أضافهم إلى ضميرهم لتسميتهم لهم بذلك {الذين كنتم تزعمون} أي أنهم شركاؤنا بالعبادة أو الشهادة بما يؤدي إليها، ادعوهم اليوم لينقصوكم مما نريد من ضركم، أو يرفعوكم مما نريد من وضعكم، وسؤالهم هذا يجوز أن يكون مع غيبة الشركاء عنهم وأن يكون عند إحضارهم لهم، فيكون الاستفهام عما كانوا يظنون من نفعهم، فكأن غيبته غيبتهم.
ولما كان إخبارهم بغير الواقع في ذلك اليوم مستبعداً بعد رفع الحجاب عن الأهوال وإظهار الزلازل والأوجال. أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم لم تكن فتنتهم} أي عاقبة مخالطتنا لهم بهذا السؤال وأمثاله من البلايا التي من شأنها أن يميل ما خالطته فتحيله- ولو أنه جبل- عن حاله بما ناله من قوارعه وزلزاله إلاّ كذبهم في ذلك الجمع، وهو معنى قوله: {إلاّ أن قالوا} ثباتاً منهم فيما هم عريقون فيه من وصف الكذب: {والله} فذكروا الاسم الأعظم الذي تندك لعظمته الجبال الشم، وتنطق بأمره الأحجار الصم، الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى التي ظهر لهم كثير منها في ذلك اليوم، وأكدوا ذلك بذكر الوصف المذكر بتربيتهم ودوام الإحسان إليهم فقالوا: {ربنا} فلم يقنعوا بمجرد الكذب حتى أقسموا، ولا بمجرد القسم حتى ذكروا الاسم الجامع والوصف المحسن {ما كنا مشركين} أي إن تكذيبهم لك أوصلهم إلى حد يكذبون فيه في ذلك اليوم بعد كشف الغطاء تطمعاً بما لا ينفعهم، كما ترى الحائر المدهوش في الدنيا يفعل مثل ذلك فهو إيئاس من فلاح الجميع: المشركين وأهل الكتاب، أو يكون المعنى تنديماً لهم وتأسيفاً: أنه لم يكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به في لزومه والافتخار به والقتال عليه- لكونه دين الآباء- إلاّ جحوده والبراءة منه والحلف على الانتفاء من التدين به، والمعنى على قراءتي النصب والرفع في فتنة على جعلها خبراً أو اسماً واحداً، فمعنى قراء النصب: لم يكن شيء إلاّ قولهم- أي غير قولهم الكذب- فتنتهم، أي لم يكن شيء فتنتهم إلاّ هذا القول، فهذا القول وحده فتنتهم، فنفى عن فتنتهم وسلب عنها كل شيء غير قولهم هذا، فالفتنة مقصورة على قولهم الكذب، والكذب قد يكون ثابتاً لغيرها، أي إنهم يكذبون من غير فتنة، بل في حال الرخاء، وهذا بعينه معنى قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص برفع فتنة، أي لم تكن فتنتهم شيئاً غير كذبهم، فقد نفيت فتنتهم عن كل شيء غير الكذب، فانحصرت فيه، ويجوز أن يكون ثابتاً في حال غيرها- على ما مر، وهذا التقدير نفيس عزيز الوجود دقيق المسلك- يأتي إن شاء الله تعالى عند {وما كان صلاتهم عند البيت} [الأنفال: 35] في الأنفال ما ينفع هنا فراجعه.
ولما كان هذا من أعجب العجب، أشار إليه بقوله: {انظر} وبالاستفهام في قوله: {كيف كذبوا} وبالإشارة إلى أنهم فعلوه مع علمهم بما انكشف لهم من الغطاء أنه لا يجديهم بقوله: {على أنفسهم} وهو نحو قوله: {فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18]- الآية.
ولما كان قولهم هذا مرشداً إلى أن شركاءهم غابوا عنهم، فلم ينفعوهم بنافعة، وكان الإعلام بفوات ما أنهم مقبل عليه فرح به، ساراً لخصمه جالباً لغمه، صرح به في قوله: {وضل} أي غاب {عنهم} إما حقيقة أو مجازاً، أو هما بالنظر إلى وقتين، ليكون إنكاراً {ما كانوا يفترون} أي يتعمدون الكذب في ادعاء شركته عناداً لما على ضده من الدلائل الواضحة.
ولما علم أن هذه الآيات قد ترابطت حتى كانت آية واحدة، وختم بأن مضمون قوله: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} [الأنعام: 5]- الآية، قد صار وصفاً لهم ثابتاً حتى ظهر في يوم الجمع، قسم الموسومين بما كانت تلك الآية سبباً له، وهو الإعراض عن الآيات المذكور في قوله: {إلاّ كانوا عنها معرضين} [الأنعام: 4]، فكان كأنه قيل: فمنهم من أعرض بكليته، فعطف عليه قوله: {ومنهم من يستمع إليك} أي يصغي بجهده كما في السيرة عن أبي جهل بن هشام وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق أن كلاًّ منهم جلس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يستمع القرآن.
لا يعلم أحد منهم بمجلس صاحبه، فلما طلع الفجر انصرفوا فضمهم الطريق فتلاوموا وقالوا: لو رآكم ضعفاؤكم لسارعوا إليه، وتعاهدوا على أن لا يعودوا، ثم عادوا تمام ثلاث ليال، ثم سأل الأخنس أبا سفيان عما سمع فقال: سمعت أشياء عرفتها وعرفت المراد منها، وأشياء لم أعرفها ولم أعرف المراد منها، فقال: وأنا كذلك، ثم سأل أبا جهل فأجاب بما يعرف منه أنه علم صدقه وترك تصديقه حسداً وعناداً، وذلك هو المراد من قوله: {وجعلنا} أي والحال أنا قد جعلنا {على قلوبهم أكنة} أي أغطية، جمع كنان أي غطاء {أن} أي كراهة أن {يفقهوه} أي القرآن {وفي آذانهم وقراً} أي ثقلاً يمنع من سمعه حق السمع، لأنه يمنع من وعيه الذي هو غاية السماع، فهم لا يؤمنون بما يسمع منك لذلك.
ولما ذكر ما يتعلق بالسمع، ذكر ما يظهر للعين، معبراً بما يعم السمع وغيره من أسباب العلم فقال: {وإن يروا} أي بالبصر أو البصيرة {كل آية} أي من آياتنا سواه {لا يؤمنوا بها} لما عندهم من العناد والنخوة في تقليد الآباء والأجداد {حتى} كانت غايتهم في هذا الطبع على قلوبهم أنهم مع عدم فقههم {إذا جاءوك يجادلونك} أي بالفعل أو بالقوة، والغاية داخلة، وكأنه قيل تعجباً: ماذا يقولون في جدالهم؟ فقال مظهراً للوصف الذي أداهم إلى ذلك: {يقول الذين كفروا} أي غطوا لما هو ظاهر لعقولهم وهو معنى الطبع {إن} أي ما {هذا} أي الذي وصل إلينا {إلا أساطير} جمع سطور وأسطر جمع سطر وهي أيضاً جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور، وبالهاء في الكل {الأولين} وقد قال ذلك النضر بن الحارث، فصدق قوله إخبار هذه الآية {وهم} حال من فاعل {يستمع} أي يستمعون إليك والحال أنهم {ينهون عنه} أي عن الاستماع أو عن اتباع القرآن {وينأون} أي يبعدون {عنه} أي كما وقع لأبي جهل وصاحبيه في المعاهدة على ترك المعاودة للسماع وما يتبعه {وإن} أي وما {يهلكون} أي بعبادتهم ومكابدتهم {إلاّ أنفسهم} أي وما هم بضاريك ولا بضاري أحد من أتباعك فيما يقدح في المقصود من إرسالك من إظهار الدين ومحو الشرك وإذلال المفسدين {وما يشعرون} أي وما لهم نوع شعور بما يؤديهم إليه الحال، بل هم كالبهائم، بل هي أصلح حالاً منهم.

.تفسير الآيات (27- 30):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}
ولما جعل عدم إيمانهم في هذه بشيء من الآيات موصلاً لهم إلى غاية من الجهل عظيمة موئسة من ادعائهم في هذه الدار، وهي مجادلتهم له صلى الله عليه وسلم، وختم الآية بما رأيت من عظيم التهديد استشرفت النفس إلى معرفة حالهم عند ردهم إلى الله تعالى والكشف لهم عما هددوا به، فأعلم نبيهم صلى الله عليه وسلم أن حالهم إذ ذاك الإيمان، حيث يسر غاية السرور تصديقهم له، وتمنيهم متابعته لما يركبهم من الذل ويحيط بهم من الصغار، ولا يزيدهم ذلك إلاّ ضرراً وعمى وندماً وحسرة، فكأنه قيل: فلو رأيت حالهم عند كشف الغطاء- وهو المطلع- لرأيتهم يؤمنون: {ولو ترى إذ} أي حين {وقفوا} في الحشر، وبني للمجهول لأن المنكىّ الإيقاف، لا كونه من معين {على النار} أي عندها ليدخلوها مشرفين على كل ما فيها من أنواع النكال، وذلك أعظم في النكاية أو على الجسر وهو على الصراط وهي تحتهم، أو عرفوا حقيقتها ومقدار عذابها من قولك: أوقفته على كذا- إذا عرفته إياه {فقالوا} تمنياً للمحال {يا ليتنا نرد} أي إلى الدنيا.
ولما كان التقدير بشهادة قراءة من نصب الفعلين- جواباً للتمني- أو أحدهما: فنطيع، عطف على الجملة قوله: {ولا} أي والحال أنا لا، أو ونحن لا {نكذب} إن رددنا {بآيات ربنا} أي المحسن إلينا {ونكون من المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، والتقدير عند ابن عامر في نصب الثالث: ليتنا نرد، وليتنا لا نكذب فنسعد وأن نكون، وعلى قراءة حمزة والكسائي وحفص بنصب الفعلين: ليتنا نرد فنسعد، وأن لا نكذب وأن نكون، والمعنى: لو رأيت إيقافهم ووقوفهم في ذلك الذل والانكسار والخزي والعار وسؤالهم وجوابهم لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً ومنظراً كريهاً شنيعاً، ولكنه حذف تفخيماً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، وجاز حذفه للعلم به في الجملة.
ولما أخبرنا- في قراءة الرفع- عن أنفسهم بما تمنوا لأجله الرد، وتضمنت قراءة النصب الوعد، فإنه كما لو قال قائل: ليت الله يرزقني مالاً فأكافئك على صنيعك، فإنه ينجر إلى: إن رزقني الله مالاً كافأتك، فصار لذلك مما يقبل التكذيب، أضرب عنه سبحانه تكذيباً لهم بقوله: {بل} أي ليس الأمر كما قالوا، لأن هذا التمني ليس عن حقيقة ثابتة في أنفسهم من محبة مضمونه وثمرته، بل {بدا} أي ظهر {لهم} من العذاب الذي لا طاقة لهم به {ما كانوا يخفون} أي من أحوال الآخرة ومرائهم على باطل! ولما كان إخفاؤهم ذلك في بعض الزمان قال: {من قبل} أي يدعون أنه خفي، بل لا حقيقة له، ويسترون ما تبديه الرسل من دلائله عناداً منهم مع أنه أوضح من شمس النهار بما يلبسون من الهيبة فلذلك تمنوا ما ذكروا {ولو ردوا} أي إلى الدنيا {لعادوا لما نهوا عنه} أي من الكفر والفضائح التي كانوا عليها وستر ما اتضح لعقولهم من الدلائل {وإنهم لكاذبون} أي فيما أخبروا به عن أنفسهم من مضمون تمنيهم أنهم يفعلونه لو ردوا، وأكد طبعهم على الكفر بقوله عطفاً على قوله: {لعادوا}: {وقالوا} أي بعد الرد ما كانوا يقولونه قبل الموت في إنكار البعث {إن هي} أي ما هذه الحياة التي نحن ملابسوها {إلاّ حياتنا الدنيا} أي التي كنا عليها قبل ذلك {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بمبعوثين} أي بعد أن نموت، وما رؤيتنا لما رأينا قبل هذا من البعث إلاّ سحر لا حقيقة له، ولم ينفعهم مشاهدة البعث بل ضرتهم، هذا محتمل وظاهر، ولكن الأنسب لسياق الآيات قبل وبعد أن يكون هذا حكاية لقولهم له صلى الله عليه وسلم في هذه الدار عطفاً على قوله: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] على الوجه الأول، وقوله: {ولو ترى} متصل بذلك، أي قالوا هذا القول لما أخبرتهم بالبعث، فساءك ذلك من قولهم والحال أنك لو رأيت اعترافهم به إذا سألهم خالقهم لسرك ذلك من ذلهم وما يؤول إليه أمرهم، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم ذلك، وقولُه: {إذ وقفوا على ربهم} مجازاً عن الحبس في مقام من مقامات الجلال بما اقتضاه إضافة الرب إليهم، أي الذي طال إحسانه إليهم وحلمه عنهم، فأظهر لهم ما أظهر في ذلك المقام من تبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم، وأطلعهم بما يقتضيه أداة الاستعلاء- على ما له سبحانه من صفات العظمة من الكبرياء والانتقام من التربية إذ لم يشكروا إحسانه في تربيتهم، وسياق الآية يقتضي أن يكون الجواب: لرأيتهم قد منعتهم الهيبة وعدم الناصر وشدة الوجل من الكلام، فكأن سائلاً قال: المقام يرشد إلى ذلك حتى كأنه مشاهد فهل يكلمهم الله لما يشعر به التعبير بوصف الربوبية؛ قيل: نعم، لكن كلام إنكار وإخزاء وإذلال {قال أليس هذا} أي الذي أتاكم به رسولي من أمر البعث وغيره مما ترونه الآن من دلائل كبريائي {بالحق} أي الأمر الثابت الكامل في الحقية الذي لا خيال فيه ولا سحر {قالوا} أي حين إيقافهم عليه، فكان ما أراد: {بلى}، وزادوا على ما أمروا به في الدنيا القسم فقالوا: {وربنا} أي الذي أحسن إلينا بأنواع الإحسان، وكأن كلامهم هذا منزل على حالات تنكشف لهم فيها أمور بعد أخرى، كل أمر أهول مما قبله، ويوم القيامة- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- ذو ألوان: تارة لا يكلمهم الله، وتارة يكلمهم فيكذبون، وتارة يسألهم عن شيء فينكرون، فتشهد جوارحهم، وتارة يصدقون كهذا الموقف ويحلفون على الصدق.
ولما أقروا قهراً بعد كشف الغطاء وفوات الإيمان بالغيب بما كانوا به يكذبون، تسبب عنه إهانتهم، فلذا قال مستأنفاً: {قال} أي الله مسبباً عن اعترافهم حيث لا ينفع، وتركهم في الدنيا حيث كان ينفع {فذوقوا العذاب} أي الذي كنتم به توعدون {بما كنتم تكفرون} أي بسبب دوامكم على ستر ما دلتكم عليه عقولكم من صدق رسولكم، ولا شك أن الكلام- وإن كان على هذه الصورة- فيه نوع إحسان، لأنه أهون من التعذيب مع الإعراض في مقام {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] ولذلك كان ذلك آخر المقامات.

.تفسير الآيات (31- 34):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}
ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره، فقال تحقيقاً لذلك، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب: {قد خسر} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال: {الذين كذبوا بلقاء الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم {حتى إذا جاءتهم الساعة} أي الحقيقة، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته، وحذرهم منها بقوله: {بغتة} أي باغتة، أو ذات بغتة، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور {قالوا يا حسرتنا} أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام! فإنه لا نديم لنا سواك، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه، لينتهي الإنسان عن أسبابها {على ما فرطنا} أي قصرنا {فيها} أي بسبب الساعة، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا، فأعرضوا عما دعوا إليه من تزكية النفس، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء، فلا رأس مال ولا ربح، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة، ولا خسران أعظم من هذا.
ولما كان هذا أمراً مفظعاً، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال: {وهم} أي وقالوا ذلك والحال أنهم {يحملون أوزارهم} أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل، وحقق الأمر وصوره بقوله: {على ظهورهم} لاعتقاد الحمل عليه، كما يقال: ثقل عليك كلام فلان، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً، فيكلفوا حملها؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام: {ألا ساء ما يزرون}.
فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد، ولم يبق فيه لذي لب وقفة، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال، عكس ما كانوا يقولون: {وما الحياة الدنيا}.
ولما كان السياق للخسارة، وكانت أكثر ما تكون من اللعب- وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع، ويسرع انقضاؤه- قدمه فقال: {إلا لعب ولهو} أي للأشقياء، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه، فيكون سبباً للغفلة عما ينفع، فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس أثاروا الشهوات بالملاهي، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا، فتحققت سرعته، لأن كل آتٍ قريب، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب، يندم الإنسان على ما فرط فيها، كما يندم اللاعب- إن كان له عقل- على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى: وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء، أتبعه قوله مؤكداً: {وللدار الآخرة خير} ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة، خصص فقال: {للذين يتقون} أي يوجدون التقوى، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه، فهو احتباك؛ ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره، تسبب عن إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكراً: {أفلا تعقلون}.
ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم، وأطال في الحث على مجادلتهم، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما هو دأب المعاند المغلوب، وأن ذلك يحزنه صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة، كان الحال محتاجاً إلى التسلية فقال تعالى: {قد نعلم} والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال {إنه ليحزنك} أي يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها {الذي يقولون} أي من تكذيبك، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك، وعلمنا أنه يبلغ منك، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له ويجزي عاصيه، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر، وهو كقوله تعالى في سورة يس {فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} [يس: 76] ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه، فالنهي عنه إنما هو نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين، ومن المعلوم أنهما ضدان، فلا تنال إحداهما إلاّ بضد ما للأخرى، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي».
ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك، سبب عنه قوله: {فإنهم} أي فلا يحزنك ذلك فإنهم {لا يكذبونك} بل أنت عندهم الأمين، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك، والآية من الاحتباك: حذف من الجملة الأولى- إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم وأدباً معه- سبب الحزن، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سمي الأخنس، وكان اسمه أبي، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس به فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش! وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {ولكن}، وقال: {الظالمين} في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، اي الذين كانوا في مثل الظلام {بآيات} أي بسبب آيات {الله} أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله {يجحدون} قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة: أي يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} [الإسراء: 59] ونحوها، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: جحد الشيء جحداً وجحوداً: أنكره وهو عالم به. هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب، أو ما يؤول إليه، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك.
ولما سلاه بوعده النصرة المسببة عن علم المرسل القادر، وبأن تكذيبهم إنما هو له سبحانه، وهو مع ذلك يصبر عليهم ويحلم عنهم، بل ويحسن إليهم بالرزق والمنافع، زاده أن ذلك سنة في إخوانه من الرسل فقال: {ولقد} ولما كان المنكي هو التكذيب لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: {كذبت رسل}.
ولما كان تكذيبهم لم يستغرق الزمان، وكان الاشتراك في شيء يهوّنه، وكلما قرب الزمان كان أجدر بذلك أدخل الجار فقال: {من قبلك} بأن جحد قومهم ما يعرفون من صدقهم وأمانتهم كما فعل بك {فصبروا} أي فتسبب عن تكذيب قومهم لهم أنهم صبروا {على ما كذبوا وأوذوا} أي فصبروا أيضاً على ما أوذوا، ثم أشار إلى الوعد بالنصر بشرط الصبر فقال: {حتى} أي وامتد صبرهم حتى {آتاهم نصرنا} أي فليكن لك بهم أسوة، وفيهم مسلاة، فاصبر حتى يأتيك النصر كما أتاهم، فقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون في قولنا {فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 56] {ولا مبدل لكلمات الله} أي لأن له جميع العظمة فلا كفوء له، ودل سبحانه على صعوبة مقام الصبر جداً بالتأكيد فقال: {ولقد جاءك} ودل على عظيم ما تحملوا بقوله: {من نبإى المرسلين} أي خبرهم العظيم في صبرهم واحتمالهم وطاعتهم وامتثالهم ورفقهم بمن أرسلوا إليهم ونصرنا لهم على من بغى عليهم، ومجيء نبأهم تقدم إجمالاً وتفصيلاً، أما إجمالاً ففي مثل قوله: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146]، {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم} [البقرة: 87] وأما تفصيلاً ففي ذكر موسى وعيسى وغيرهما؛ وفي قوله: {فصبروا} أدل دليل على ما تقدم من أن النهي عن الحزن نهي عن تابعه المؤدي إلى عدم الصبر، والتعبير بمن التبعيضية تهويل لما لقوا، فهو أبلغ في التعزية.