فصل: تفسير الآيات (125- 127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (125- 127):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته، علم أن الأمر أمره، والقلوب بيده، فتسبب عن ذلك قوله: {فمن يرد الله} أي الذي له جميع الجلال والإكرام {أن يهديه} أي يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم {يشرح صدره} أي يوسعه بأن يجعله مهيئاً قابلاً بالنور {للإسلام} قال الإمام أبو جعفر النحاس: روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «يا رسول الله! وهل ينشرح الصدر؟ فقال: نعم، يدخل القلب نور، فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت» وفي رواية: الفوت {ومن يرد} أي الله، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع {أن يضله} أي يخلق الضلال ويديمه في قلبه {يجعل صدره} أي الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار {ضيقاً حرجاً} أي شديد الضيق فيكون مرتجساً أي مضطرباً، روي أن عمر رضي الله عنه أحضر أعرابياً من كنانة من بني مدلج فقال له: ما الحرجة؟ فقال: شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية، وساق البغوي القصة ولفظه: وقال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء- ثم اتفقا- فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان والخير؛ وزاد البغوي: يقال سيبويه: الحرج- بالفتح المصدر، ومعناه: ذا حرج، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق، وقال المهدوي: هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه، وقال في النساء في قوله تعالى: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت} [النساء: 65] أي ضيقاً، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد: إنه الشك، وقول الضحاك: إنه الإثم، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم؛ وقال النحاس: {حرجاً مما قضيت} أي شكاً وضيقاً، وأصل الحرج الضيق- انتهى. وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها- بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل- تأكيد أخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه، فمعنى الفتح: ضيقاً- بكسر الضاد وإسكان الياء ومعناه- إن كسرتَ حرجاً- ضيقاً بإعادة اسم الفاعل، ومادة حرج بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد، وهي- بأي ترتيب كان وهي خمسة: حرج جحر رجح حجر جرح- تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق، فيرجع إلى الصلابة الحرجُ بمعنى الضيق، والحرجة للغيضة، ولحرج للقلادة من الودع، والحرجوج للريح الشديدة الباردة، والناقة الحرجوج للوقادة القلب، ويجوز رجوعها إلى الحدة، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره، ولضيقه عن أسرّة الأحياء، ومنه أيضاً جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض، ويرجع إلى الثقل الحرجُ بمعنى الإثم، وينشأ عن ذلك البعث المفضي إلى الحيرة، ومنه حرجت عينه، أي حارت فلا تطرف، ويلزم الثقل أيضاً الجرحُ بمعنى الطعن النافذ في البدن، ومن ذلك اجترح- إذا اكتسب مالاً، لأنه من آثاره، ومنه الرجحان بمعنى الثقل، والحكم الراجح الذي يوجب رزانة صاحبه، ومنه الأرجوحة لأن كلاًّ من طرفيها يرجح بالآخر، ويرجع إلى المنع الحجرُ بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد، والحجر في المال، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك- ولو قدر باع- امتنع منك، وكان التأنيث فيه لقربه، ويرجع إلى الشخوص الحرجُ للناقة الطويلة؛ وقال الإمام أبو الفتح بن جني رحمه الله في كتابه: المحتسب في توجيه القراءات الشواذ عند قوله تعالى في هذه السورة {وحرث حرج} فيمن قرأ بتقديم الراء: إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال- والله أعلم- نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته، وكله إلى التماسك والضيق، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله، ومنه الحجر وبابه لضيقه، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه، ومنه رجح الميزان- لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعاً بينه وبينها، فإن قلت: فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر؟ قيل: كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض، فأما الآخر فلا يقال له: راجح، وإذا ثبت ذلك- وقد ثبت- فكذلك قوله تعالى: {وحرث حرج} في معنى حجر، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلاّ من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم- انتهى.
ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبداً؛ كانت ترجمته قوله: {كأنما يصعد} أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود {في السماء} في خفاء حياء من مزاولة ما لا يمكن، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته حركته الطبيعية القسرية، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئاً ثقيلاً ويصعد به في جدار أملس، فيصير يتكلف ذلك فيقع، ثم يتكلف الصعود ايضاً فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط، وربما سقط دونه، فهو مما يمتنع عادة، فلا يزال مرتجساً أي مضطرباً ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده كما يأتي.
ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر، والمستقذر ينفر منه، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالاً، وهو أن يقال: هل هذا- وهو جعل الضال على هذه الصفة- خاص بأهل هذا الزمان، أجيب بما حاصله: لا، {كذلك} أي مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان {يجعل الله} أي بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة {الرجس} أي الاضطراب والقذر {على الذين لا يؤمنون} من أهل كل زمان لإرادته سبحانه دوام ضلالهم، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الضلال دليلاً على حذفه ثانياً، وذكر الرجس ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر.
ولما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي له- مع استجماع الكمالات كلها- صفة العطف والإحسان واللطف، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة رجس تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج، وكان التقدير: فهذا حال أهل الضلال، فعطف عليه قوله: {وهذا} أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية {صراط} أي طريق {ربك} أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط {مستقيماً} أي لا عوج فيه أصلاً، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر عندنا وعند المعتزلة، فلتكن الجزئيات كذلك لأن الخلق لا يتصور بغير علم، وليس غير الله محيط العلم؛ قال الإمام: فالآية التي قبلها من المحكمات، فيجب إجراؤها على ظاهرها، ويحرم التصرف فيها بالتأويل.
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل، بل لابد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل: {قد فصلنا} أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة {الآيات} أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر {لقوم يذكرون} أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره- ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام- ليذكروا أنه قال: ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه.
ولما كان التذكر- عند الآيات لا يكون إلاّ من أهل العنايات في طرق الهدايات، قال مرغباً في التذكر فإنه سبب الفيض الإلهي على القلوب المهيأة له: {لهم} أي المتذكرين {دار السلام} أي الجنة، أضافها سبحانه إليه زيادة في الترغيب فيها، وخص هذا الاسم الشريف لأنه لا يلم بها شيء من عطب ولا خوف ولا نصب؛ ثم زاد الترغيب فيها بقوله: {عند ربهم} أي في ضمان المحسن إليهم وحضرته بما هيأهم له ويسره لهم {وهو} أي وحده {وليهم} أي المتكفل بتولي أمورهم، لا يكلهم إلى أحد سواه، وهذا يدل على قربه منهم، والعندية تدل على قربهم منه لما شرح من صدورهم بالتوحيد؛ ولما كان ذلك ربما قصر على التذكر، بين أن المراد منه التأدية إلى الأعمال فإنها معيار الصدق وميزانه فقال: {بما} أي بسبب ما {كانوا} أي كما جبلهم عليه، فما كان ذلك إلاّ بفضله {يعملون}.

.تفسير الآيات (128- 130):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
ولما فصل سبحانه أحوال الفريقين، وحض على التذكر تنبيهاً على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب، لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلاّ عاتبه أو عاقبه، هذا مركوز في كل عقل؛ ذكر سبحانه ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة، وأبهمه في أولها، وبيّن في أثنائها بعض أحواله مراراً في وجوه من أفانين البيان، وهو يوم الحشر، فذكر هنا سبحانه بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب، لطفاً بهم واستعطافاً إلى المتاب، فقال جامعاً الفريقين {ويوم} أي اذكر في تذكرك يوم {يحشرهم} أي أهل ولايتنا وأهل عداوتنا {جميعاً} لا نذر منهم أحداً {يا} أي فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتاً وتوبيخاً حين لا يكون لهم مدافعة أصلاً: {معشر الجن} أي المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم {قد استكثرتم} أي طلبتم وأوجدتم الكثرة {من الإنس} أي من إغواء المؤنسين الظاهرين حتى صار أكثرهم أتباعكم، فالآية من الاحتباك: عبر بما يدل على الستر أولاً دلالة على ضده- وهو الظهور- ثانياً، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانياً دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة- أولاً. {وقال} هو عطف على جواب الجن المستتر عن العامل في {يا معشر} الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات التي تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة: فقالوا: ربنا هم ضلوا، لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا، فاستوجبوا العذاب بمفردهم، وستر جواب الجن لأنه- مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه- مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم، وذكره بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه، لأنه خبر من لا يخلف الميعاد، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما يأتي تفصيله بقوله: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]- الآية، وقوله: {فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً} الآية {أولياؤهم} أي الجن {من الإنس} أي الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال، معترفين مستعطفين {ربنا} أيها المربي لنا المحسن إلينا {استمتع} أي طلب المتاع وأوجده {بعضنا ببعض} نحن بهم فيما قالوا، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم {وبلغنا} أي نحن وهم {أجلنا} وأحالوا الأمر على القدر فقالوا: {الذي أجلت لنا} وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به، فاستوجبنا العذاب كلنا.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فما قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له؟ فقيل: {قال} أي المخاطب لهم عن الله {النار مثواكم} أي منزلكم جميعاً من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر {خالدين فيها} أي إلى ما لا آخر له، لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو إلى ما لا آخر له، فالجزاء من جنس العمل.
ولما كان من المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه، بين سبحانه أن ملكه ليس كذلك، بل هو على غاية الكمال، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل، وجميع ما يبدو منه حسن، فعلق دوام عذابهم على المشيئة فقال: {إلا ما شاء} ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية، عبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} أي الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك، هيهات هيهات! انقطعت دون ذلك الآمال، فظلت ناكسة أعناق الرجال، وبيده إزار العز، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل، وأنزله في مهاوي الخزي، وقد تقرر أنه سبحانه لا يشاء انقطاع شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال، وفي سوقه معلقاً هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه.
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال، أتبعه اللطف بالمخاطب به صلى الله عليه وسلم فقال: {إن ربك} أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك.
ولما كان السياق- في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم- للحكمة والعلم، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم، قدم وصفها فقال: {حكيم} أي فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضاً {عليم} أي بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك.
ولما استبان بهذا أنه ولّى الكفرة من ظالمي الجن ظالمي الإنس وسلطهم عليهم، أخبر تعالى أن هذا عمله مع كل ظالم من أي قبيل كان سواء كان كافراً أو لا فقال: {وكذلك} أي ومثل تلك التولية التي سلطنا بها الجن على الإنس بما زاد عذاب الفريقين {نولي} أي نتبع في جميع الأزمان من جميع الخلق {بعض الظالمين} أي الغريقين في الظلم {بعضاً} أي بأن نجمع بين الأشكال، في الأوصاف الباطنة والخصال، ونسلط بعضهم على بعض في الضلال والإضلال، والأوجاع والأنكال {بما كانوا} بجبلاتهم {يكسبون} أي بسبب اجتماعهم في الطباع التي طبعناهم عليها يجتمعون وينقاد بعضهم لبعض، بحسب ما سببنا من الأسباب الملائمة لذلك الظلم الذي يسرناه لهم، حتى صارت أعمالهم كلها في غير مواضعها، فيظلم بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً، وهم لا يزدادون إلا الالتئام حتى يستحق الكل ما كتبنا لهم من عذاب؛ روى الطبراني في الأوسط ن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ يقول: أنتقم ممن أبغض بمن أبغض ثم أصيّر كلاًّ إلى النار» وعن مالك بن دينار قال: رأيت في بعض كتب الله المنزلة أن الله تعالى يقول: افني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي. أو يقال: فقد أخبرنا أن الله عزّ وجلّ ولى المؤمنين بسبب محاسن أعمالهم، ومثل ما ولاهم ليعزهم يولي بعض الظلمة بعضاً ليهينهم بسبب ما كانوا يتعاطونه من مساوئ الأعمال ورديء الخلال وغث الخصال فيؤديهم إلى مهلك الأوجاع والأوجال، أو يقال: فقد بان أن كلاًّ من ظالمي الإنس والجن كان ولياً لكل، وكما جعلنا بعضهم أولياء بعض في الدنيا نفعل إذا حشرناهم في النار فنجعل بعضهم أولياء- أي أتباع بعض، ليستمتع بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً إن قدروا، وهيهات منهم ذلك هيهات! شغلهم البكاء والعويل والندم والنحيب.
ولما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته، فقال مبدلاً من الأولى إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع: {يا معشر الجن} قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم {والإنس} وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم إلى التوبة: {ألم يأتكم رسل} ولما صار القبيلان بتوجيه الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال: {منكم} وإن كان الرسل من الإنس خاصة.
ولما كان النظر في هذه السورة إلى العلم غالباً لإثبات تمام القدرة الذي هو من لوازمه بدليل {يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، {أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53] {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59] وغيرها، ولذلك أكثر فيها من ذكر التفصيل الذي لا يكون إلاّ للعالم، كان القص- الذي هو تتبع الأثر- أنسب لذلك فقال {يقصون} بالتلاوة والبيان لمواضع الدلائل {عليكم آياتي} أي يتبعون بالعلامات التي يحق لها بما لها من الجلال والعظمة أن تنسب إلى مواضع شبهكم، فيحلونها حلاً مقطوعاً به {وينذرونكم} أي يخوفونكم {لقاء يومكم هذا} أي بما قالوا لكم أنه يطلبكم طلباً حثيثاً وأنتم صائرون إليه في سفن الأيام ومراكب الآثام وأنتم لا تشعرون سيراً سريعاً {قالوا} معذرين من أنفسهم بالذل والخضوع {شهدنا} بما فعلت بنا أنت سبحانك من المحاسن وما فعلنا نحن من القبائح {على أنفسنا} أي بإتيان الرسل إلينا ونصيحتهم لنا بدليل الآية الأخرى {قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} [الزمر: 71] وبين أن ضلالهم كان بأردإ الوجوه وأسخفها الدنيا، بحيث إنهم اغتروا بها مع دناءتها لحصورها عن الآخرة مع شرفها لغيابها فقال: {وغرتهم} أي شهدوا هذه الشهادة والحال أنهم قد غرتهم {الحياة الدنيا} أي الحاضرة عندهم إذ ذاك الدنية في نفسها لفنائها، عن اتباع الرسل دأب الجاهل في الرضى بالدون والدابة في القناعة بالحاضر، فشهادتهم ضارة بهم، ولكن لم يستطيعوا كتمانها، بل {وشهدوا} أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال {على أنفسهم} أيضاً بما هو أصرح في الضرر عليهم من هذا، وهو {أنهم كانوا} جبلة وطبعاً {كافرين} أي غريقين في الكفر، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً.