فصل: تفسير الآيات (140- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (140- 141):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}
ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم، وأشار إلى معانيها، جمعها- وصرح بما أثمرته من الخيبة- في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال: {قد خسر} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين قتلوا} قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف {أولادهم سفهاً} أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً.
ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، قال مصرحاً بما أفهمه: {بغير علم} أي وأما من قتل ولده بعلم- كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً- فليس حكمه كذلك؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال: {وحرموا ما رزقهم الله} أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم، من تلك الأنعام والغلات، بغير شرع ولا نفع بوجه {افتراء} أي تعمداً للكذب {على الله} أي الذي له جميع العظمة.
ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات: النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين، كانت نتيجته قوله: {قد ضلوا} أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله: {وما كانوا} أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق {مهتدين} أي لم يكن في كونهم وصف الهداية، بل زادوا بذلك ضلالاً؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه: حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} إلى قوله: {وما كانوا مهتدين}. وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب.
ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لاسيما في هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس- إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم، قال في موضع الحال من {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام} [الأنعام: 136] مبيناً عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عوداً على بدء وعللاً بعد نهل، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم: {وهو} أي لا غيره {الذي أنشأ} أي من العدم {جنات} أي من العنب وغيره {معروشات} أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه، أي لا تصلح إلا معروشة، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها {وغير معروشات} أي غير مرفوعات على الخشب، أي لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها، ومتى ارتفعت عن الأرض تلفت، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له، لا يكون إلا ما يريد.
ولما ذكر الجنات الجامعة، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات فقال: {والنخل} أي وأنشأ النخل {والزرع} حال كونه {مختلفاً أكله} أي أكل أحد النوعين، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جداً {والزيتون والرمان}.
ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل: {متشابهاً} أي كذلك {وغير متشابه} أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء- إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه، ولعله جمع الأولين لأن كلاًّ منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم، والتفاوت العظيم في المقدار، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه، والثاني يسرع فساده، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك.
ولما كان قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} [الأنعام: 99] في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تديناً فقال تعالى هنا: {كلوا} وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية؛ وقال أبو حيان في النهر: لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب، قال {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [الأنعام: 99] إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال: كلوا، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله: {من ثمره}، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال: {إذا أثمر} فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب. انتهى. وعبر ب {إذا} دون إن تحقيقاً لرجاء الناس في الخصب وتسكيناً لآمالهم رحمة لهم ورفقاً بهم إعلاماً أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة.
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئاً من أموالهم لأحد بأهوائهم، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقاً وجعل له مصارف بقوله: {وآتوا حقه} ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال: {يوم حصاده} أي قطعه جذاذاً كان أو حصاداً، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع، والحق أعم من الواجب والمندوب، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية: العنب المشار إليه بالعرش وما بعده، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليه الحصاد مجازاً.
ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال: {ولا تسرفوا} وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً، ويؤيده {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]، {ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29]، ثم علله بقوله: {إنه لا يحب المسرفين} أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم، وقيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: ولا سرف في الخير.

.تفسير الآيات (142- 144):

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
ولما كان السياق للمآكل من الحرث والأنعام من حلال وحرام، وفرغ من تقرير أمر الحرث الذي قدم في الجملة الأولى لأنه مادة الحيوان، قال: {ومن} أي وأنشأ من {الأنعام حمولة} أي ما يحمل الأثقال {وفرشاً} أي وما يفرش للذبح أو للتوليد، ويعمل من وبره وشعره فرش؛ ولما استوفى القسمين أمر بالأكل من ذلك كله على وجه يشمل غيره مخالفة للكفار فقال: {كلوا مما رزقكم الله} أي لأنه الملك الأعظم الذي لا يسوغ رد عطيته {ولا تتبعوا} ولعله شدد إشارة إلى العفو عن صغيرة إذا ذكّر الإنسان فيها رجع ولم يعتد في هواه {خطوات الشيطان} أي طريقه في التحليل والتحريم كما قال في البقرة {كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168] وعبر بذلك لأنه- مع كونه من مادة الخطيئة دال على أن شرائعه شريعة الأندراس، لولا مزيد الاعتناء من الفسقة بالتتبع في كل خطوة حال تأثيرها لبادر إليها المحو لبطلانها في نفسها، فلا أمر من الله يحييها ولا كتاب يبقيها، وإنما أسقط هنا {حلالاً طيباً} لبيانه سابقاً في قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118]، {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]، ولاحقاً في قوله: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} [الأنعام: 125]؛ ثم علل نهيه عن اتباعه فقال: {إنه لكم عدو} أي فهو لذلك لا يأمركم بخير {مبين} أي ظاهر العداوة لأن أمره مع أبيكم شهير.
ولما رد دين المشركين وأثبت دينه، وكانوا قد فصلوا الحرمة بالنسبة إلى ذكور الآدمي وإناثه، ألزمهم تفصيلها بالنسبة إلى ذكور الأنعام وإناثه، ففصل أمرها في أسلوب أبان فيها أن فعلهم رث القوى هلهل النسيج بعيد من قانون الحكمة، فهو موضع للاستهزاء وأهل للتهكم، فقال بياناً ل {حمولة وفرشاً} {ثمانية أزواج} أي أصناف، لا يكمل صنف منها إلا بالآخر، أنشأها بزواج كل من الذكر والأنثى الآخر، ولحق بتسميتهم الفرد بالزوج- بشرط أن يكون آخر من جنسه- تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر.
ولما كان الزوج يطلق على الاثنين وعلى ما معه آخر من نوعه، قال مبيناً أن هذا هو المراد لا الاثنان مفصلاً لهذه الثمانية: {من الضأن} جمع ضائن وضائنة كصاحب وصحب {اثنين} أي ذكراً وأنثى كبشاً ونعجة {ومن المعز} جمع ماعز وماعزة كخادم وخدم في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وتاجر وتجر في قراءة غيرهم {اثنين} أي زوجين ذكراً وأنثى تيساً وعنزاً.
ولما كان كأنه قيل: ما المراد بهذا التفصيل قبل سؤالهم عن دينهم، قال: {قل} أي لهم مستفهماً؛ ولما كان هذا الاستفهام بمعنى التوبيخ والتهكم والإنكار، أتى فيه ب {أم} التي هي مع الهمزة قبلها بمعنى أيّ ليتفهم بها عما يعلم ثبوت بعضه وإنما يطلب تعيينه، فقال معترضاً بين المعدودات تأكيداً للتوبيخ، لأن الاعتراضات لا تساق إلاّ للتأكيد: {ءآلذكرين}.
ولما كان المستفهم عنه بنصبه ما بعده لا ما قبله، قال: {حرم} أي الله، فإن كان كذلك لزمكم تحريم جميع الذكور {أم الأنثيين} ليلزمكم تحريم جميع الإناث، واستوعب جميع ما يفرض من سائر الأقسام في قوله: {أما} أي أم حرم ما {اشتملت} أي انضمت {عليه} وحملته {أرحام الأنثيين} أي من الذكور والإناث، ومتى كان كذلك لزمكم تحريم الكل فلم تلزموا شيئاً مما أوجبه هذا التقسيم فلم تمشوا على نظام.
ولما علم أنه لا نظام لهم فعلم أنهم جديرون بالتوبيخ، زاد في توبيخهم فقال: {نبئوني} أي أخبروني عما حرم الله من هذا إخباراً جليلاً عظيماً؛ ولما كان هذا الإخبار الموصوف لا يكون بشيء فيه شك، قال: {بعلم} أي أمر معلوم من جهة الله لا مطعن فيه {إن كنتم صادقين} أي إن كان لكم هذا الوصف.
ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس،- ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر- نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال: {ومن الإبل اثنين} أي ذكراً وأنثى {ومن البقر اثنين} أي كذلك {قل} أي لهؤلاء الذين اختلقوا جهلاً وسفهاً ما تقدم عنهم {ءآلذكرين} أي من هذين النوعين {حرم} أي حرمهما الله {أم الأنثيين} أي حرمهما {أما} أي الذي {اشتملت عليه} أي ذلك المحرم على زعمكم {أرحام الأنثيين} أي حرمهما الله.
ولما كان التقدير: أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي؟ عادله توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم بقوله: {أم كنتم شهدآء} أي حاضرين {إذ وصاكم الله} أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه {بهذا} أي كما جزمتم عليه به، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه، ولا محرم ولا محلل غير الله، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق: لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة، سبب عنه قوله معمماً ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد: {فمن أظلم} ووضع موضع منكم قوله معمماً ومعلقاً للحكم بالوصف: {ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك {كذباً} كعمرو بن لحي الذي غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وكل من فعل مثل فعله.
ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها، جعل غاية فعلهم مقصوداً لهم تهكماً بهم فقال: {ليضل الناس} ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ، قال: {بغير علم}.
ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا، كشفه سبحانه بقوله استئنافاً: {إن الله} وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال: {لا يهدي القوم الظالمين} أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين! وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21].