فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 34):

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا، والتوسع فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم: {قل} منكراً موبخاً {من حرم زينة الله} أ ي الملك الذي لا أمر لأحد معه {التي أخرج لعباده} أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها.
ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها، أتبعها المآكل والمشارب فقال: {والطيبات} أي من الحلال المستلذ {من الرزق} كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار: لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق، قال مستأنفاً لجواب من يقول: لمن؟: {قل هي} أي الزينة والطيبات {للذين آمنوا} وعبر بهذه العبارة ولم يقل: ولغيرهم، تنبيهاً على أنها لهم بالاصالة {في الحياة الدنيا} وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا {خالصة} أي لا يشاركهم فيها أحد، هذا على قراءة نافع بالرفع، والتقدير على قراءة غيره: حال كونها خالصة {يوم القيامة} وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن.
ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول: إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا؟ {كذلك} أي مثل هذا التفصيل البديع {نفصل الآيات} أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض {لقوم يعلمون} أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح.
ولما بين أن ما حرموه ليس بحرام فتقرر ذلك تقرراً نزع من النفوس ما كانت ألفته من خلافه، ومحا من القلوب ما كانت أشربته من ضده؛ كان كأنه قيل: فماذا حرم الله الذي ليس التحريم إلا إليه؟ فأمره تعالى بأن يجيبهم عن ذلك ويزيدهم بأنه لم يحرم غيره فقال: {قل إنما حرم ربي} أي المحسن إليّ بجعل ديني أحسن الأديان {الفواحش} أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن الإسرار بها غير مراد بالنهي قال: {ما ظهر منها} بين الناس {وما بطن}.
ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال: {والإثم} أي مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء، فإن الإثم الذنب والجزاء؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بأنه من أسرع الذنوب عقوبة، خصة بالذكر فقال: {والبغي} وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب، حقق معناه العرفي الشرعي فقال: {بغير الحق} أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل، فمتى كان فيه شائة باطل كان بغياً، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقية، وتكون تسميته بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً- بإدخاله تحت اسم البغي- من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 148] ويمكن أن يكون تقييده تأكيداً لمنعه بأنه لا يتصور إلا موصوفاً بأنه بغير الحق كما قال تخصيصاً وتنصيصاً تنبيهاً على شدة الشناعة: {وأن تشركوا بالله} أي الذي اختص بصفات الكمال {ما لم ينزل به سلطاناً} فإنه لا يوجد ما يسميه أحد شريكاً إلا وهو مما لم ينزل به الله سلطاناً بل ولا حجة به في الواقع ولا برهان، ولعله إنما قيده بذلك إرشاداً إلى أن أصول الدين لا يجوز اعتمادها إلا بقاطع فكيف بأعظمها وهو التوحيد! ولذلك عقبه بقوله: {وأن} أي وحرم أن {تقولوا على الله} أي الذي لا أعظم منه ولا كفوء له و{ما لا تعلمون} أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من الأصول أو لا.
ولما تقدم أن الناس فريقان: مهتد وضال، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل: فلم يهلك من يخالفه؟ فقيل وعظاً وتحذيراً: إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، ولا يفعلون شيئاً منه إلا بإرادته، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر، ولهم أجل لابد من استيفائه، وليس ذلك خاصاً بهم بل {ولكل أمة أجل} وهو عطف على {فيها تحيون وفيها تموتون} [الأعراف: 25] {فإذا جاء أجلهم}.
ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم، قدمه فقال: {لا يستأخرون} أي عن الأجل {ساعة} عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله: {ولا يستقدمون} أي على الأجل المحتوم، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم، لم يتجدد له علم، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [الأعراف: 24] وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمماً، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت.

.تفسير الآيات (35- 37):

{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه، فهو أبعد من خطوره في البال؛ قدم قوله: {قال فيها تحيون} [الأعراف: 25] ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم {أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26] ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه.
ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى: {كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 2] و{لتنذر} [الأعراف: 2] و{اتبعوا ما أنزل إليكم} [الأعراف: 3] وقوله: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم} [الأعراف: 6] وقوله: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29]، {إنما حرم ربي الفواحش} [الأعراف: 33] والتحذير من الشياطين بقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] وبقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]، {لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] وغيره، فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الاتباع في الدارين {يا بني آدم}.
ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ لا يوجب عليه، أشار إلى ذلك بحرف الشك فقال: {إما} هي إن، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً {يأتينكم رسل} ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر وأقوى في الحجة قال: {منكم} أي من نوعكم من عند ربكم.
ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 7] ويأتي في {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52] وغيرها، كان التعبير بالقص- الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام- أليق فقال: {يقصون عليكم آياتي} أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول.
ولما كان لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل، ربط الجزاء بالفاء فقال: {فمن اتقى} أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم {وأصلح} أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم {فلا خوف} أي غالب {عليهم} أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه {ولا هم} أي بضمائرهم {يحزنون} أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف.
ولما ذكر المصدق، أتبعه المكذب فقال {والذين كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر، نفى ذلك بقوله: {واستكبروا عنها} أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه.
ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه، أعري عن الفاء قوله: {أولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار} ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به، قال مصرحاً بذلك: {هم} أي خاصة ليخرج العاصي من غير تكذيب ولا استكبار {فيها} أي النار خاصة، وهي تصدق بكل طبقة من طبقاتها {خالدون} فقد تبين أن إثبات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع، وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع، فالمقام في الموضعين خطر، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير أمره، فإذا بان له صدقه تبعه، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً- الله الموفق.
ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه، وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً، وأخبر أن المكذبين أهل النار، علل ذلك بقوله: {فمن أظلم} أي أشنع ظلماً {ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعلى {كذباً} أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد {أو كذب بآياته} أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد.
ولما كان الجواب: لا أحد أظلم من هذا، بل هو أظلم الناس، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال: {أولئك} أي البعداء من الحضرات الربانية {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها، تأكيداً لرد اعتراض من قال: إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا؟ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم {يتوفونهم} أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم {قالوا أين ما كنتم} عناداً كمن هو في جبلته {تدعون} أي دعاء عبادة {من دون الله} أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم {قالوا ضلوا} أي غابوا {عنا} فلا ناصر لنا.
ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم، قال مترجماً عن ذلك: {وشهدوا على أنفسهم} أي بالغوا في الاعتراف {أنهم كانوا كافرين} أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس.

.تفسير الآيات (38- 39):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
ولما كان كأنه قيل: لقد اعترفوا، والاعتراف- كما قيل- إنصاف، فهل ينفعهم؟ قيل: هيهات! فات محله بفوات دار العمل لا جرم! {قال} أي الذي جعل الله إليه أمرهم {ادخلوا} كائنين {في أمم} أي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التأنيث على ضعف عقولهم فقال: {قد خلت} ولما كان في الزمن الماضي من آمن، أدخل الجار فقال {من قبلكم} ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال: {من الجن والإنس} ثم ذكر محل الدخول فقال: {في النار}.
ولما جرت عادة الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له: {كلما دخلت أمة} أي منهم في النار {لعنت أختها} أي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت آثارها واتبعت منارها، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى- وهكذا، واستمر ذلك منهم {حتى إذا اداركوا} اي تداركوا وتلاحقوا، يركب بعضهم بعضاً- بما يشير إليه الإدغام {فيها جميعاً} لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة {قالت أخراهم} أي في الزمن والمنزلة، وهم الأتباع والسفل {لأولاهم} أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين {ربنا} أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة {هؤلاء} أي الأولون {أضلونا} أي لكونهم أول من سن الضلال {فآتهم} أي أذقهم بسبب ذلك {عذاباً ضعفاً} أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال، «ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ومنه «لا تقتل نفس ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها» لأنه أول من سن القتل، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم: {من النار}.
ولما كان كأنه قيل: لقد قالوا ما له وجه، فبم أجيبوا؟ قيل: {قال} أي جواباً لهم {لكل} أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع {ضعف} وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتأييده بالمناضله عنه والدفاع؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم الضعف لسبب هذه الدقيقة قال: {ولكن لا تعلمون} أي بذلك.
ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين، عطف عليه جواب الأولين فقال: {وقالت أولاهم} أي أولى الفرق والأمم {لأخراهم} مسببين عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه {فما كان لكم علينا} أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال {من فضل} أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر {فذوقوا} أي بسبب ذلك {العذاب} في سجين {بما} اي بسبب ما {كنتم تكسبون} لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر.