فصل: تفسير الآيات (138- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (138- 141):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
ولما انقضى ما أراهم سبحانه من الأفعال الهائلة التي استخلصهم بها من ذلك الجبار، شرع يذكر ما قابلوه به من الجهل به سبحانه وما قابلهم به من الحلم، ثم ما أحل بهم بعد طول المهلة من ضرب الذلة والمسخ بصورة القردة، فقال عاطفاً على قوله: {فأغرقناهم في اليم} أو قوله: {ثم بعثنا من بعدهم موسى}: {وجاوزنا} أي قطعنا بما لنا من العظمة- وساقه على طريق المفاعلة تعظيماً له، روي أن جوازهم كان يوم عاشوراء، وأن موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوهم {ببني إسرائيل} بعد الآيات التي شاهدوها {البحر} وإنما جعلته معطوفاً على أول القصة لأن هذه القصص كلها بيان لأن في الناس السيئ الجوهر الذي لايغنيه الآيات كما مضى عند قوله: {والبلد الطيب} [الأعراف: 58] وبيان قوله: {أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] إلى آخرها، ويدل على ذلك- مع ما ابتدئت به القصص- ختمها بقوله: {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 176] وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم} [الأعراف: 179] وحسن موقعها بعد قوله: {وتمت كلمت ربك الحسنى} [الأعراف: 137] لأنه لما قيل {بما صبروا} تشوفت النفس إلى فعلهم حال الرخاء هل شكروا؟ فبين أن كثيراً منهم كفروا تصديقاً لقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وما شاكله، وما أحسن تعقيب ذلك- بقوله: {فأتوا} أي مروا- بفاء التعقيب {على قوم} أي ذوي قوة، قيل: كانوا من لخم {يعكفون} أي يدورون ويتحلقون ملازمين مواظبين {على أصنام لهم} أي لا قوة فيها ولا نفع، فهم في عكوفهم عليها مثل في الغباوة، وقيل: إنها كانت تماثيل بقر، وكان ذلك أول أمر العجل.
ولما أخبر سبحانه بذلك، علم السامع أنهم بين أمرين: إما شكر وإما كفر، فتشوف إلى ما كان منهم، فأجاب سبحانه سؤاله بقوله: {قالوا} أي لم يلبث ذكرهم لما أراهم سبحانه من عظمته وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه {اجعل لنا إلهاً} أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم {كما لهم آلهة} وهذا منهم قول من لا يعد الإله- الذي فعل معهم هذه الأفاعيل- شيئاً، ولا يستحضره بوجه.
ولما كان هذا منهم عظيماً، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هم بقوله: {قال إنكم قوم} أي ذوو قيام في شهوات النفوس، وقال: {تجهلون} مضارعاً إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل، واعلم أنه لا تكرير في هذه القصص فإن كل سياق منها لأمر لم يسبق مثله فالمقصود من قصة موسى عليه السلام وفرعون- عليه اللعنة والملام- هذا الاستدلال الوجودي على قوله: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102] ومن هنا تعلم أن سياق قصة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود، واستمر سبحانه في هذا الاستدلال إلى آخر السورة، وما أنسب {وإذ أخذ ربك من بني آدم} [الأعراف: 172] الآية، لقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيراً لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسراءيل في البقرة فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم- والله أعلم.
ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم، علل هذا الإنكار بقوله: {إن هؤلاء} أي القوم {متبر ما هم فيه} أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة، وإذا فسد الظرف فسد المظروف، وإليه الإشارة بجعل {هؤلاء} اسماً لإن، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبراً مقدماً على مبتدئه.
ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة- وهو حق، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه، فقال معبراً بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك، وإن رئي بخلافه: {وباطل} أي مضمحل زائل {ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون} أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله، لا وزن لشيء منها أصلاً ولا اعتبار، و- فيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضاً ثابتاً باقياً لا يجوز عليه البطلان، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار.
ولما كان هذا استدلالاً على أن مثل هذه الأصنام التي مروا عليها لا تصلح لأن تعبد، كان ذلك غير كاف لهم لما- تقرر من جهلهلم، فربما ظنوا أن غيرها مما سوى الله تجوز عبادته، فكأنه قيل: هذا لا يكفي جواباً لمثل هؤلاء فهل قال لهم غير ذلك؟ فقيل: نعم! {قال} منكراً معجباً {أغير الله} أي الذي له جميع العظمة، فهو المستحق للعبادة {أبغيكم} أي أطلب لكم {إلهاً} فأنكر أن يتأله غيره، وحصر الأمر فيه ثم بينه بقوله: {وهو} أي والحال أنه هو وحده {فضلكم} دون غيركم ممن هو في زمانكم أو قبله {على العالمين} أي لو لم يكن لوجوب اختصاصهم له بالعبادة سبب سوى اختصاصه لهم بالتفصيل على سائر عباده الذين بلغهم علمهم ممن هو أقوى منهم حالاً وأكثر عدداً وأموالاً لكان كافياً.
ولما أثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم، وكان المقام للعظمة، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلظ أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم: اذكروا ذلك، أي تفضيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لاسيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله: {وإذ} أي واذكروا إذ {أنجيناكم} أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون، ولها في- كل وقت في تلك الآيات مشاهدون {من آل فرعون} وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من الآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم على جميع الأنام، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله: {يسومونكم} أي ينزلون بكم دائماً {سوء العذاب}.
ولما كان السياق- كما مضى- لبيان إسراعهم في الكفر وشدة علوتهم في قوتهم وجلافتهم، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح- لأنه لا يكون عند الانذباح، وهو في الأصل لمطلق الشق- إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لابد فيه من تفويت ذلك فقال: {يقتلون} أي تقتيلاً كثيراً- {أبناءكم} ودل على حقيقة القتل بقوله: {ويستحيون}.
ولما كان المعنى أنهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار، وكان مظنة العار أكبر- عبر عنهن بقولة: {نساءكم} وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لئلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله: {وفي ذلكم} أي الأمر الصعب المهول {بلاء} أي اختبار لكم ولهم {من ربكم} أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء، فأنه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه {عظيم}.

.تفسير الآيات (142- 144):

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}
ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة، وهم في اتخاذ إله سواه، لا نفع فيه أصلاً، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده، عاطفاً له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله: {وجاوزنا ببني إسرائيل} [الأعراف: 138] {وواعدنا} أي على ما لنا من باهر العظمة {موسى ثلاثين} أي مناجاة ثلاثين {ليلة} أي عقبها {وأتممناها} أي المواعدة {بعشر} أي ليال، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل، وكان موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى وهي عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل وهو بمصر أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر.
ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر، أزال هذا الاحتمال بقوله: {فتم ميقات ربه} أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده بالفاء {أربعين} ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي، قال: {ليلة} فانتفى أن تكون ساعات مثلاً، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له، والميقات هو الأربعون، قاله الفارسي في الحجة، وقدر انتصاب أربعين ب (معدودا هذا العدد) كما تقول: تم القوم عشرين، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله} [البقرة: 28] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40] الآيتين المبدوء بها والمختوم بها، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر، لأن المراد بهذا السياق- كما تقدم- بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً- كما تقدم- على أن المفسد أكثر من المصلح- إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى:
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها} [الأعراف: 94] إلى آخره، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر- والله أعلم، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما علموه من المعياد إنما كان لعشرة أيام، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على {واعدنا}: {وقال موسى} أي لما واعدناه {لأخيه} ثم بينه تصريحاً باسمه فقال: {هارون اخلفني} أي كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله: {في قومي} وأشار إلى حثه على الاجتهاد بقوله: {وأصلح} أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح.
ولما كان عالماً بأنه صلى الله عليه وسلم مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال: {ولا تتبع} أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع {سبيل المفسدين} أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح، ولا هم انتظروا عشرة أيام، فلا أخف منهم أحلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً.
ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: {وكلمه} أي من غير واسطه {ربه} أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر، وليس كمثله شيء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين، والأول أولى.
ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة {قال} مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب- {رب أرني} أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر- {أنظر} أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه علو العظمة لا المسافة- بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان- فقال: {إليك} أي فأراك.
ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا {قال} نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين {لن تراني} ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل: لن أرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: {ولكن انظر إلى الجبل} إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال-: {فإن استقر مكانه} أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: {فسوف تراني} أي بوعد لا خلف فيه {فلما تجلى ربه} أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال-: {للجبل} أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته {جعله دكاً} أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان {وخر} أي وقع {موسى صعقاً} أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني- كما نقل عن الإمام مالك- لا ينبغي له أن يرى الباقي- {فلما أفاق} أي من غشيته {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه {تبت إليك} أي من ذلك {وأنا أول المؤمنين} أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله: {وأنا أول المسلمين} [المائدة: 163] والثانية تومي إلى عدمها وهي {آمن الرسول} [البقرة: 285] إلى قوله: {كل آمن بالله} [البقرة: 285]- والله أعلم-، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} الآية.
ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله: {قال يا موسى} مذكراً له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به- {إني اصطفيتك} أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس {على الناس} أي الذين في زمانك {رسالاتي} أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها {وبكلامي} أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهت عن التدنيس بمعصية.
ولما كان ذلك مقتضياً لغاية الإقبال والنشاط، سبب عنه قوله: {فخذ ما آتيتك} آي مخصصاً لك به {وكن من الشاكرين} أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها.