فصل: تفسير الآيات (164- 167):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (164- 167):

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}
ولما أخبر أن الفسق ديدنهم، أكده بقوله عطفاً على {إذ يعدون} [الأعراف: 163] {وإذ} أي واسألهم عن خبرهم حين {قالت أمة منهم} أي جماعة ممن يعتبر ويقصد من الواعظين الصالحين الذين وعظوا حتى أيسوا لأمة أخرى منهم لا يقلعون عن الوعظ تخويفاً للموعوظين بما يتجاوزون به {لم تعظون قوماً} أي معتمدين على قوتهم {الله} أي الذي له الملك كله {مهلكهم} أي لا محالة لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ {أو معذبهم عذاباً شديداً} أي بعظيم ما يرتكبونه وتماديهم فيه {قالوا} أي الأمة الأخرى من الواعظين: وعظنا {معذرة إلى ربكم} أي المحسن إليكم بالحفظ عما وقعوا فيه من الذنب والإقبال على الوعظ حتى إذا سئلنا عن أمرنا في عصيانهم نقول: فعلنا في أمرهم جهدنا، هذا إن لم يرجعوا {ولعلهم يتقون} أي وليكون حالهم حال من يرجى خوفه لله فيرجع عن غيه.
ولما تراجعوا بهذا الكلام ليكون زاجراً للعاصين فلم يرجعوا، أخبر أنه صدق ظنهم بإيقاع الأمرين معاً: العذاب الشديد والإهلاك فقال: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي فعلوا في إعراضهم عنه فعل الناسي وتركوه ترك المنسيّ، وهو أن الله لا يهملهم كما أن الإنسان لا يمكن أن يهمل أحداً تحت يده، ليفعل ما يشاء من غير اعتراض {أنجينا} أي بعظمتنا {الذين ينهون} أي استمروا على النهي {عن السوء} أي الحرام {وأخذنا} أي أخذ غلبة وقهر {الذين ظلموا} أي بالعدو في السبت {بعذاب بئيس} أي شديد جداً {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفسقون} أي بسبب استمرارهم على تجديد الفسق.
ولما ذكر ما هددهم بهمن العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال: {فلما عتوا} أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء {عن ما نهوا عنه} أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً- إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي: وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل: العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل: المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه: {فعتوا عن أمر ربهم} [الذاريات: 44] أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر- انتهى. وحقيقته: جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة {قلنا لهم} أي بما لنا من القدرة العظيمة {كونوا قردة} أي في صورة القردة حال كونكم {خاسئين} أي صاغرين مطرودين بعدين عن الرحمة كما يبعد الكلب. ولما تبين بما مضى من جرأتهم على المعاصي وإسراعهم فيها استحقاقهم لدوام الخزي والصغار، أخبر أنه فعل بهم ذلك على وجه موجب للقطع بأنهم مرتبكون في الضلال، مرتكبون سيئ الأعمال، ما دام عليهم ذلك النكال، فقال: {وإذ} وهو عطف على {وسئلهم} أي واذكر لهم حين {تأذن} أي أعلم إعلاماً عظيماً جهراً معتنى به {ربك} أي المربي لك والممهد لأدلة شريعتك والناصر لك على من خالفك.
ولما كان ما قيل جارياً مجرى القسم، تلقى بلامه، فكان كأنه قيل: تاذن مقسماً بعزته وعظمته وعلمه وقدرته: {ليبعثن} أي من مكان بعيد، وأفهم أنه بعث عذاب بأداة الاستعلاء المفهمة لأن المعنى: ليسلطن {عليهم} أي اليهود، ومد زمان التسليط فقال: {إلى يوم القيامة} الذي هو الفيصل الأعظم {من يسومهم} أي ينزل بهم دائماً {سوء العذاب} بالإذلال والاستصغار وضرب الجزية والاحتقار، وكذا فعل سبحانه فقد سلط عليهم الأمم ومزقهم في الأرض كل ممزق من حين أنكروا رسالة المسيح عليه السلام، كما أتاهم به الوعد الصادق في التوارة، وترجمة ذلك موجودة بين أيديهم الآن في قوله في آخر السفر الأول: لا يزول القضيب من آل يهودا، لا يعدم سبط يهودا ملكاً مسلطاً واتخاذه نبياً مرسلاً ختى يأتي الذي له الملك- وفي نسخة: الكل- وإياه تنتظر الشعوب، يربط بالحلبة جحشه؛ وقال السمؤال في أوائل كتابه غاية المقصود: نقول لهم: فليس في التوارة التي في أيديكم ما تفسيره: لا يزول الملك من آل يهودا والراسم بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح فلا يقدرون على جحده، فنقول لهم: إذاً علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم- انتهى. ومن أيام رسالة المسيح سلط الله عليهم الأمم ومزقهم في الأرض، فكانوا مرة تحت حكم البابليين، وأخرى تحت أيدي المجوس، وكرة تحت قهر الروم من بني العيص، وأخرى في أسر غيرهم إلى أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فضرب عليهم الجزية هو وأمته من بعده.
ولما كان السياق للعذاب وموجباته، علل ذلك مؤكداً بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك بإذلال أعدائك الذين هم أشد الأمم لك ولمن آمن بك عداوة {لسريع العقاب} أي يعذب عقب الذنب بالانتقام باطناً بالنكته السوداء في القلب، وظاهراً- إن أراد- بما يريد، وهذا بخلاف ما في الأنعام فإنه في سياق الإنعام بجعلهم خلائف.
ولما رهب، رغب بقوله: {وإنه لغفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً لمن تاب وآمن {رحيم} أي مكرم منعم بالتوفيق لما يرضاه ثم بما يكون سبباً له من الإعلاء في الدينا والآخرة.

.تفسير الآيات (168- 169):

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}
ذكر شيء مما هددوا به التوارة على العصيان والبغي والعدوان غير ما تقدم في المائدة عند {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60] وغيرها من الايات- قال في السفر الخامس: وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتق الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها، ويبتلي نسلك من بعدك وتدوم عليك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين الشعوب، وتعبدون هنالك الآلهة الأخرى التي عملت من الحجارة والخشب، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب، ولكن يصير الله قلوبكم هناك فزعة مرتجفة بالغداة تقولون: متى نمسي؟ وبالعشيّ تقولون: متى نصبح؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى ارض مصر في الوف في الطريق الذي قال الرب: لا تعودوا أن تروه، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم- هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض مؤاب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب؛ ثم دعا موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم: قد رأيتم ما صنع الله بأرض مصر بفرعون وجميع عبيده وكل شعبه والبلايا العظيمه التي رأت أعينكم والآيات والأعاجيب التي شهدتموها، ولم يعطكم الرب قلوباً تفهم وتعلم، ولا أعيناً تبصر ولا آذاناً تسمع إلى يومنا هذا، ودبركم في البرية أربعين سنة، لم تبل ثيابكم عليكم ولم تخلق خفافكم أيضاً ولم تأكلوا خبزاً، لتعلموا أني أنا الله ربكم، وأنا الذي أتيت بكم إلى هذه البلاد، فاحفظوا وصايا هذه التوارة واعملوا بها وأتموا جميع الأعمال في طاعة الله وأكملوها، لأنكم قد عرفتم جميعاً أن كنا سكاناً بأرض مصر وجزنا بين الشعوب، ورأيتم نجاستهم وأصنامهم، لعل فيكم اليوم رجلاً أو امرأة أو قبيلة أو سبطاً يميل قلبه عن عبادة الله ربنا ويطلب عبادة آلهة تلك الشعوب، فيسمع هذا العهد فيقول: يكون لي السلام فاتبع مسرة قلبي، هذا لا يريد الرب أن يغفر له، ولكن هناك يشتد غضب الرب وزجره عليه وينزل به كل اللعن الذي في هذا الكتاب، ويستأصل الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب من جميع أسباط بني إسرائيل للشر والبلايا ويقول الحقب الآخر بنوكم الذين يقومون من بعدكم والغرباء، وينظرون إلى ضربات تلك الأرض والأوجاع أنزل الله بها ويقول الشعب: لماذا صنع الرب هكذا؟ ولماذا اشتد غصبة على هذا الشعب العظيم؟ ويقولون: لأنهم تركوا عهد الله إله آبائهم، فاشتد غضب الرب على هذه الأمة وأمر أن ينزل بها كل اللعن الذي كتب في هذا الكتاب، ويجليهم الرب عن بلادهم بغضب وزجر شديد ويبعدهم إلى أرض غريبة كما ترى اليوم، فأما الخفايا والسرائر فهي لله ربنا، والأمور الظاهرة المكشوفة هي لنا.
ولما أخبر سبحانه بالتأذن، كان كأنه قيل: فأسرعنا في عقابهم بذنوبهم وبعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي، فعطف عليه قوله: {وقطعناهم} أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعاً كثيراً بأن أكثرناًُ تفريقهم {في الأرض} حال كونهم {أمماً} يتبع بعضهم بعضاً، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلماً.
ولما كان كأنه قيل: فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير؟ قيل: لا، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأبدان {منهم الصالحون} أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالاً لدعوة كتابهم {ومنهم دون ذلك} أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى {وبلوناهم} أي عاملناهم معاملة المبتلى ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون {بالحسنات} أي النعم {والسيئات} أي النقم {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غيه رغبة أو رهبة.
ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامه، تسبب عنه قوله: {فخلف} أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم خلف} أي قوم هم أسوأ حالاً منهم {ورثوا الكتاب} أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس: والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: ويقال:؛ خلف سوء- أي بالسكون- وخلَف صدق، وقال الزبيدي في مختصر العين: والخلف: خلف السوء بعد أبيه، والخلَف: الصالح، وقال ابن القطاع في الأفعال: وخَلَفَ خَلَفُ سوء: صاروا بعد قوم صالحين، وخَلَف سوء، قال الأخفش: هما سواء، أي بالسكون، منهم من يسكن ومنهم من يحرك فيهما جميعاً، ومنهم من يقول: خلف صدق- أي بالتحريك- وخلف سوء- أي بالسكون- يريد بذلك الفرق بينهما، وكل إذا أضاف، يعني فإذا لم يضف كان السكون- للفساد، والتحريك للصلاح؛ وقال في القاموس: خلف نقيض قدام، والقرن بعد القرن، ومنه: هؤلاء خلف سوء، والرديء من القول، وبالتحريك الولد الصالح، فإذا كان فاسداً أسكنت اللام، وربما استعمل كل منهما مكان الآخر، يقال: هو خلف صدق من أبيه- إذا قام مقامه، أو الخلف بالسكون وبالتحريك سواء، الليث: خلف للاشرار خاصة، وبالتحريك ضده. والمادة ترجع إلى الخلف الذي هو نقيض قدام، كما بنيت ذلك في فن المضطرب من حاشيتي على شرح ألفية العراقي.
ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل: ما فعلوه من الخير فيما ورثوه؟ قال مستأنفاً: {يأخذون} أو يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال: {عرض} وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال {هذا} وصرح بالمراد بقوله: {الأدنى} أي من الوجودين، وهو الدنيا {ويقولون} أي دائماً من غير توبة.
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم: {سيغفر لنا} أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما افهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله: {وإن} أي والحال أنه إن {يأتهم عرض مثله} أي في الدناءة والخسة- والحرمة كالرشى {يأخذوه}.
ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً- للنكير بقوله مستأنفاً: {ألم يؤخذ عليهم} بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله: {ميثاق الكتاب} أي الميثاق المؤكد في التوارة {أن لا يقولوا} أي قولاً من الأقوال وإن قل {على الله} أي الذي له الكمال العظمة {إلا الحق} أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب.
ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله: {ودرسوا ما فيه} أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ {والدار الأخرة} أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة {خير} أي مما يأخذون {للذين يتقون} أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقولة: {أفلا تعقلون} أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب.

.تفسير الآيات (170- 173):

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}
ولما بين ما للمفسدين من كونهم قالوا على الله غير الحق فلا يغفر لهم، بين ما للصالحين المذكورين في قوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] فقال عاطفاً على تقديره: أولئك حبطت أعمالهم فيما درسوا من الكتاب، ولا يغفر لهم ما أتوا من الفساد: {والذين يمسكون} أي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الا ستمرار، وهو إشارة إلى إن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لاسيما عند ظهور الفساد {بالكتاب} أي فلا يقولون على الله إلا الحق، ومن جملة تمسيكهم المتجدد انتقالهم عن ذلك الكتاب عند إتيان الناسخ لأنه ناطق بذلك- والله الموفق.
ولما كان من تمسيكهم بالكتاب عند نزول هذا الكلام انتقالهم عن دينهم إلى الإسلام كما وقع الأمر به في المواضع التي تقدم بيانها، عبر عن إقامة الصلاة المعهودة لهم بلفظ الماضي دون المضارع لئلا يجعلوه حجة في الثبات على دينهم. فيفيد ضد المراد فقال: {وأقاموا الصلاة} وخصها إشارة إلى أن الأولين توكوها كما صرح به في آية مريم، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين، ولما كان التقدير إخباراً عن المبتدإ: سنؤتيهم أجورهم لإصلاحهم، وضع موضعه للتعميم قوله: {إنا لا نضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المصلحين}.
ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته، وكان عذاب الآخرة مستقبلاً وغائباً، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم، ليأخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم، فيكون علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال: {وإذ} أي اذكر لهم هذا، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ {نتقنا} أي قلعنا ورفعنا، وأتى بنون العظمة لزيادة الترهيب {الجبل} عرفه لمعرفتهم به، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون الطور- كما في البقرة- لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلظ القلب.
ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال: {فوقهم} ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله: {كأنه ظلة} أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله: {وظنوا} هو على حقيقته {أنه واقع} ولما كان ما تقدم قد حقق العلو، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء، فقال مشيراً إلى السرعة واللصوق: {بهم} أي إن لم يأخذوا عهود التوارة، قالوا: ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعاً من سقوطه، وهي سنة لهم في سجودهم إلى الآن، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: فقالوا: أخذنا يارب عهودك، قال مشيراً إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل: {خذوا ما آتيناكم} أي بعظمتنا، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال، وأكد ذلك بقوله: {بقوة} أي عزم عظيم على احتمال مشاقه؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسيه في وقت، قال: {واذكروا ما فيه} أي من الأوامر والنواهي وغيرهما- فلا تنسوه {لعلكم تتقون} أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع ما في الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئاً منه، قالوا: ولما قرأ موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض رأسه.
ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب، وكان ذلك كله خاصاً بهم؛ أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الموضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جارياً على المناهج ملائماً للعقول، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأكثر فيها من المواثيق، وزاد في الكشف والبيان، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل، فقال: {وإذ} أي واذكر لهم إذ {أخذ} أي خلق بقوله وقدرته {ربك} أي المحسن إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأس.
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال: {من بني آدم} وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال: {من ظهورهم} كل واحد من ظهر أبيه {ذريتهم} إشارة إلى أنه أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم- بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع، وجعل لهم عقولاً عند من قال: هو على حقيقته كنملة سليمان عليه الصلاة والسلام {وأشهدهم على أنفسهم} أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام الغزالي في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء فإنه قال معنى هذه الآية: والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك.
ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال: {ألست بربكم} أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره {قالوا بلى شهدنا} أي كان علمنا بذلك علماً شهودياً، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه؛ فهو- والله أعلم- من وادي قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد: 15]- الآية و{لله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 49].
ولما كان كأنه قيل: لم فعل ذلك؟ قيل: دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة {أن تقولوا يوم القيامة} أي إن لم ينصب لهم الأدلة {إنا كنا عن هذا} أي وحدانيتك وربوبيتك {غافلين} أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا {أو تقولوا} أي لو لم نرسل إليهم الرسل {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي من قبل أن نوجد {وكنا ذرية من بعدهم} فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} أي من آبائنا؛ قال أبو حيان: والمعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحدهما: كنا غافلين والأخرى: كنا تبعاً لأسلافنا فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا- انتهى. ومما يؤيد معنى التمثيل حديث أنس في الصحيح «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك شيئاً، فأبيت إلا الشرك» وذلك لأن التصريح بالآباء ينافي كون الإقرار على حقيقته، والأخذ وهو في الصلب إنما هو بنصب الأدلة وتقرير الحق على وجه مهيئ للاستدلال بتركيب العقل على القانون الموصل إلى المقصود عند التخلي من الحظوظ والشوائب، وهذا الذي وقع تأويل الآية به لا يعارضه حديث الاستنطاق في عالم الذر على تقدير صحته، فإنه روي من طرق كثيرة جداً ذكرتها في كتابي سر الروح، منها في الموطأ ومسند أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي وأبي يعلى الموصلي ومستدرك الحاكم وكتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني عن صحابة وتابعين مرفوعاً وموقوفاً- منهم عمر وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وحكيم بن حزام وعبدالله بن سلام وعبد الله بن عمرو وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي العالية رحمهم الله، وإنما كان لا يعارضه لأن في بعض طرقه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سبحانه قال بعد أن استنطقهم: «فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك» فالاستنطاق في الحديث على بابه، عبرة لأبينا آدم عليه السلام ومن حضر ذلك من الخلق، وإيقافاً لهم على بديع قدرته وعظيم علمه، وإشهاد ما أشهد من المخلوقات بمعنى أنه نصب فيها من الأدلة ما يكون إقامة الحجة به عليهم بالنقض إن أشركوا كشهادة الشاهد الذي لا يرد، وليس في شيء من الروايات ما ينافي هذا؛ والحاصل أنه أخذ علينا عهدان: أحدهما حالي تهدى إليه العقول، وهو نصب الأدلة، والآخر مقالي أخبرت به الرسل، كل ذلك للإعلام بمزيد الاعتناء بهذا النوع البشري لما له من الشرف الكريم ويراد به من الأمر العظيم- والله الموفق.