فصل: تفسير الآيات (47- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 48):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمراً لهم بالثبات عليه، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهياً عنه تعريضاً بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا، ويوشك- إن تمادت- أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال: {ولا تكونوا} أي يا معشر المؤمنين {كالذين} وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال: {خرجوا من ديارهم} أي كل واحد من داره وهم أهل مكة، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم، ولذا عبر بالوصف ليعم {بطراً} أي طغياناً وتكبراً على الحق، ومادة بطر- بأيّ ترتيب اتفق- تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط، ومنه بطر الجرح- وهو شقه- والبيطار، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش. ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه، وذهب دمه بطراً أي باطلاً للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة، ومنه بطر النعمة- إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر رضي الله عنه: العدل وإن رئي ليناً أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديداً- أو كما قال رضي الله عنه. وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال.
ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال: {ورئاء الناس} أي خرجوا يرون الناس خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه، فإنهم لما قيل لهم؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا، بطروا النعمة تبعاً لأبي جهل حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً! فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان.
ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهاً على أنهم لا يزالون يجددونها فقال: {ويصدون} أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم {عن سبيل الله} أي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلاً وبنيانهم واهياً، فإنها من عمل الشيطان، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلاً، فإن العاملين عبيد الله {والله} أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه {بما} أو يكون ذلك معطوفاً على تقديره: فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما {يعملون محيط} فهم في قبضته، فأوردهم- إذ خرجوا يحادونه- بدراً فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها.
ولما كان بين لهم فساد أعمالهم لفساد نياتهم تنفيراً منها، زاد في التنفير بالإشارة إلى الأمر بدوام تذكرها بعاطف على غير معطوف عليه مذكور فقال؛ {وإذ} فعلم أن التقدير قطعاً: اذكروا ذلك واذكروا إذ، وزاد في التنفير بذكر العدو المبين والتنبيه على أن كل ما يأمر به إنما هو خيال لا حقيقة له كما كان ما سول لهم في هذا الأمر فقال: {زين لهم الشيطان} أي العدو المحترق البعيد من الخير {أعمالهم} التي أتقنوها بزعمهم في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني حين خافوا من قومه بني كنانة أن يخلفوهم في أهليهم بسوء لما كان بينهم مما يوجب ذلك، فكاد ذلك أن يثبطهم عن الميسر {وقال} غارّاً لهم في أنفسهم {لا غالب لكم} والجار خبر {لا} وإلاّ لا انتصب اسمها لكونه يكون إذ ذاك شبيهاً بالمضاف {اليوم من الناس} وغارّاً لهم فيمن خلفوه بقوله: {وإني جار لكم} من أن تخلفكم كنانة بشيء تكرهونه، وسار معهم إلى بدر ينشطهم وينشدهم ويسلطهم بهذا القول الظاهر إلى ما يوسوس لهم به في الصدور {فلما تراءت الفئتان} أي رأت كل فئة الأخرى ورأى جبريل عليه السلام في جنود الله {نكص} أي رجع يمشي القهقرى وبطل كيده وآثار وسوسته {على عقبيه} أي إلى ورائه، فقالوا أين أي سراق؟ ولا يظنونه إلا سراقة، فمر ولم يجبهم ولا عرج عليهم {وقال} أي بلسان الحال أو القال وهو يسمعونه أو لا يسمعونه {إني بريء منكم} ثم علل براءته منهم بقوله: {إني أرى} أي بعين بصري {ما لا ترون} أي من الملائكة والغضب الذي هو نازل بكم، فقال له الحارث بن هشام وكانت يده في يده: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب! فاستأنف قوله مؤكداً لإنكارهم لذلك: {إني أخاف الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً أن يهلكني معكم بالمعاجلة بالعقاب {والله} أي الملك الأعظم {شديد العقاب} فكانوا يقولون: انهزم بنا سراقة، فقال؛ بلغني أنكم تقولون كذا! والله ما علمت بمسيركم هذا إلا عندما بلغني انهزامكم فكانوا يكذبونه حتى أسلموا فعلموا أن الذي غرهم الشيطان، وذلك مشهور في السير، وهو أولى من أن يحمل على مجرد الوسوسة، وفي الحديث «ما رئي إبليس يوماً أصغر ولا أحقر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر».

.تفسير الآيات (49- 52):

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}
ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هو من تزيين الشيطان، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال: {إذ يقول المنافقون} أي من العرب وبني إسرائيل قولاً يجددونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة {والذين في قلوبهم مرض} أي ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أو من اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقلتهم {غرَّ هؤلاء} مشيرين إليكم {دينهم} أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظناً منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ملوك العرب، فيغيظكم ذلك، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالو ذلك عالمين بأنكم متوكلون على من تدينون له والحال أنه من {يتوكل على الله} أي الذي له الإحاطة الشاملة، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم.
ولما كان سبحانه محيطاً بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره، أظهر تعالى فقال عاطفاً على تقديره: فإن الله قادر على نصره: {فإن الله} أي الذي له الكمال المطلق {عزيز} أي غالب لكل من يغالبه فهو جدير بنصره {حكيم} أي متقن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة.
ولما ذكر ما سرّهم من حال أعدائهم المجاهرين والمساترين في الدنيا مرصعاً ذلك بجواهر الحكم وبدائع الكلم التي بملازمتها تكون السعادة وبالإخلال بها تحل الشقاوة، أتبعه ما يسرهم من حال أعدائهم عند الموت وبعده، فقال مخاطباً لمن لو كشف الغطاء لم يزدد يقيناً، حادياً بتخصيصه بالخطاب كل سامع على قوة اليقين ليؤهل لمثل هذا الخطاب حكاية لحالهم في ذاك الوقت {ولو} أي يقولون ذلك والحال أنك {لو ترى} يا أعلى الخلق {إذ يتوفى} أي يستوفي إخراج نفوس {الذين كفروا} أي من هؤلاء القائلين ومن غيرهم ممن قتلتموهم ببدر ومن غيرهم بعد ذلك وقبله {الملائكة} أي جنودها الذي وكلناهم بهم حال كونهم {يضربون}.
ولما كان ضرب الوجه والدبر أدل ما يكون على الذل والخزي، قال: {وجوههم وأدبارهم} أي أعلى أجسامهم وأدناها فغيره أولى {و} حال كونهم يقولون لهم: ذوقوا ما كنتم به تكذبون {ذوقوا عذاب الحريق} أي لرأيتم منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً. فسركم ذلك غاية السرور، وما أثر كلامهم في غيظهم، فإنهم يعلمون حينئذ من الذي غره دينه و{لو} وإن كانت تقلب المضارع ماضياً فلا يخلو التعبير بالمضارع في حيزها من فائدة، وهي ما ذكر من الإشارة إلى أن هذا لا يخص ميتاً منهم دون ميت، بل لا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم، من مات ببدر أو غيرها وليس في الكلام ما يقتضي أن يكون القائلون {غر هؤلاء دينهم} حضروا بدراً، بل الظاهر أن قائليه كانوا بالمدينة وتعبيرهم ب {هؤلاء} التي هي أداة القرب للتحقير واستسهال أخذهم كما أن أداة البعد تستعمل للتعظيم ببعد الرتبة، وعلى مثل هذا يتنزل قول فرعون بعد أن سار بنو إسرائيل زماناً أقله ليلة وبعض يوم كما حكاه الله عنهم {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} [الشعراء: 54] على أن البغوي قد نقل في تفسير قوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأي العين} [آل عمران: 13] أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة. وإذا تأملت هذا مع قوله تعالى: {كدأب آل فرعون} علمت أن جلَّ المقصود من هذه الآيات إلى قوله: {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} اليهود، وفي تعبيره ب {لا يفقهون} تبكيت شديد لهم كما قال تعالى في آية الحشر {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} [الحشر: 13].
ولما عذبوهم قولاً وفعلاً، عللوا لهم ذلك بقولهم زيادة في تأسيفهم: {ذلك} أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم {بما قدمت أيديكم} أي من الجراءة على الله {وأن} أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئاً فإن {الله} أي الذي له صفات الكمال {ليس بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد} فإن ملكه لهم تام. والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرت عنها هذه الأفعال القبيحة، وهو لا يُسأل عما يفعل، من الذي يسأله! ويجوز أن يكون المعنى: وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته، وسيأتي في فصلت حكمة التعبير بصيغة تحتمل المبالغة.
ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى مكان فقال تعالى: {كدأب} أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة {آل فرعون} أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم {والذين} ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} وهو مع ذلك من أدلة {فلم تقتلوهم} لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد، فكأنه يقول: لا ينسب أحد لنفسه فعلاً، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره، الكل بفعلي، لولا أنا ما وقع، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده، أو نازع في النفل، وهو راجع إلى قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23] وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع، بل يقول: قتلهم الله، صرفهم الله، نصرنا الله، كفى الله، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه في مدحهم:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ** قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله: {كفروا بآيات الله} أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله: {فأخذهم الله} اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة {بذنوبهم} كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق، فنزلت بهم صواعق هيبتها، وأناخت عليهم صروف عظمتها، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم.
ولما أخبر بأخذهم، علله بقوله: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الشامله {قوي} أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {شديد العقاب}.

.تفسير الآيات (53- 57):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
ولما كان كأنه قيل: فما له يمهلهم ولا يعالجهم بالأخذ قبل النكاية في أوليائه وأهل وده وأصفيائه؟ قال: {ذلك} أي الأخذ على هذه الحالة {بأن الله} أي بسبب أنهم غيروا ما في أنفسهم، وقد كان له سبحانه أن يأخذهم قبل أن يغيروا لعلمه بما في ضمائرهم، ولكنه تعالى أجرى سنته الإلهية لتمام علمه وكمال قدرته وإحاطته بجميع صفات الكمال بأنه {لم يك} هكذا كان الأصل، ولكن حذف اختصاراً تقريباً لبيان تعميم العلة وإبعاد للسامع من مثل ذلك، وحذف نون يكن إرشاداً إلى أن هذه الموعظة خليقة بأن يوجز بها غاية الإيجاز فيبادر إلى إلقائها لما في حسن تلقيها من عظيم المنفعة، لأن من خالفها جدير بتعجيل الانتقام {مغيراً نعمة} أي قلت أو جلت، وبين أنه لا نعمة على أحد إلا منه فقال: {أنعمها على قوم} أي من أيّ طائفة كانوا {حتى يغيروا} أي يبدلوا {ما} يعتقدونه {بأنفسهم} بغيره مما هو غريزة لهم وهو حفي عنهم، يظنون اتصافهم بضده مما هو ظاهر لهم اتصافاً غريزياً {وأنّ} أي وبسبب أن {الله} أي الذي له الكمال كله {سميع} أي لما يكذبون به الرسل ولأقوالهم: إن ما يظهرونه وصفهم الحقيقي {عليم} أي بما تكّن ضمائرهم من غيره وإن جهلوه هم فيبتليهم ببلاء يظهر به ذلك المكنون ويبرز به كل سر مصون، فإذا تعلق به العلم ظاهراً علق به الحكم قاهراً لتمام قيام الحجة، ولتمام علمه بحالهم أمهلهم، وإنما يستعجل من يخاف أن تخيب فراسته أو يتغير علمه، وأما الذي علمه بالظواهر والضمائر على حد سواء فالحالتان عنده سيان، فهو يمهل لإتمام الحكمة ولا يهمل من استحق النقمة، وذلك التغيير الذي أظهره البلاء هو التكذيب بالحق عناداً والبعد عما كانوا يدعونه من العدل والمشي على مناهيج العقل والاستحياء من العناد، والتنزه من طرق الفساد، هكذا كانت كل أمة أرسلت إليها الرسل تدعي وما عندها من خلاف ذلك مستور في ضمائرها مكنون في سرائرها، لا تعلمه كما تشاهد أكثر من تعاشره، يظن في نفسه ما ليس فيها، وعند الامتحان يكذبه العيان، فلما جاءتهم الرسل وأوضحوا لهم الأمر إيضاحاً ليس معه، لبس فكذبوهم، غيروا ما كان في نفوسهم مما كانوا يزعمون؛ ثم كرر قوله: {كدأب آل فرعون} أي فرعون وقومه فإنهم أتباعه فلا يخيل انهم يفعلون شيئاً إلا وهو قائدهم فيه {والذين من قبلهم} لدقيقة، وهي أنه قد تقدم أنه ما من أمة إلا ابتليت بالضراء والسراء، فالأولى ينظر إليها مقام الإلهية الناظر إلى العظمة والكبرياء والقهر والانتقام، والثانية ثمرة مقام الربوبية الناشئ عنه التودد والرحمة والرأفه والإكرام، لذا عبر في الأولى باسم الذات الجامع لجميع الصفات الذي لفظه- عند من يقول باشتقاقه- موضوع لمعنى الإلهية إشارة إلى أنهم أعرضوا في حال الضراء عن التصديق وعاملوا بالتجلد والإصرار، ولذا عبر في هذه الثانية باسم الرب فقال: {كذبوا} أي عناداً زيادة على تغطية ما دل عليه العقل بالتكذيب بالنقل {بآيات ربهم} فأشار بذلك إلى بطرهم بالنعم وتكذيبهم أنها بسبب دعاء الرسل.
ولما أشار بالتعبير به إلى أنه غرهم معاملته بالعطف والإحسان، قال: {فأهلكناهم} أي جميعاً {بذنوبهم وأغرقنا} فأتى بنون العظمه إشارة إلى أنه أتاهم بما أنساهم ذلك البر {آل فرعون} وإشارة إلى أنهم نسوا أن الرب كما أنه يتصف بالرحمة فلابد أن يتصف بالعظمة والنقمة وإلا لم تتم ربوبيته، وهذا واضح مما تقدم في الأعراف عن التوراة في شرح {فأرسلنا عليهم الطوفان} [الأعراف: 133]- إلى آخرها، من أن فرعون كان يسأل موسى عليه السلام عند كل نازلة الدعاء برفعها معتلاً بأن الرب ذو حلم وأناة ورحمة، وقدم الأولى إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في الجرأة، والتعبير فيها ب {كفروا} يؤيد لذلك، أي أن مجرد الستر للآيات بالإعراض عنها كافٍ في إيجاب الانتقام ولو لم يصرح بتكذيب لعظم المقام، ومادة كفر- بأيّ ترتيبة كان- تدور على الخلطة المميلة المحيلة، وبخصوص هذا الترتيب تدور على الستر، أي غطوا التصديق بآيات ربهم، ويجوز- وهوالأحسن- أن يكون دورانها- مطلقاً لا بقيد ترتيب- على الفكر، وهو إرسال عين البصيرة في طلب أمر ويلزمه الكشف والستر لأنه تارة يرفع أذيال الشبه عن ذلك الأمر فينجلي ويتحقق، وتارة يسلط قواطع الأدلة عليه فينعدم ويتمحق، وربما أرخى أذيال الشبه عليه فأخفى بعد أن كان جلياً كما كان شمرها عنه فألقى وقد كان خفياً.
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم، أخبر بالوصف الجامع لهم بالهلاك فقال: {وكل} أي من هؤلاء ومن تقدمهم من آل فرعون ومن قبلهم {كانوا} أي جبلة وطبعاً {ظالمين} أي لأنفسهم وغيرهم واضعين الآيات في غير مواضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل؛ ثم علل اتصافهم بالظلم أو استأنف بياناً له بقوله: {إن شر الدواب} أي ظلموا لأنهم كفروا بآيات ربهم الذي تفرد بالإحسان إليهم وشر الدواب {عند الله} أي في حكم الحكم العدل الذي له الأمر كله وفي علمه {الذين كفروا} أي منهم ومن غيرهم، أي حكم عليهم بلزوم الكفر لما ركب فيهم من فساد الأمزجة لعدم الملاءمة للخير، فكانوا بذلك قد نزلوا عن رتبة الإنسان إلى رتبة مطلق الحيوان، ثم إلى دركة الحشرات والديدان بل العجلان، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود {فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان يستمرون عليه لما سبق من علم الله فيهم، فلم ينتفعوا بما أتاهم من صفة الربوبية فمحقتهم صفة الإلهية، ولعله إنما خص آل فرعون تذكيراً- لأكثر من كان يقول: {غرَّ هؤلاء دينهم} وهم- اليهود- بأنهم كانوا بالنسبة إلى فرعون وآله أضعف من الصحابة رضوان الله عليهم بالنسبة إلى قريش وأتباعهم، فإن اليهود مع قلتهم عندهم كانوا قد دانوا لهم بذل العبيد لمواليهم بل أعظم، ومع ذلك فإنهم نصروا عليهم لما كان الله معهم، وإعلاماً لهم بأنهم الآن كآل فرعون في العناد مع ما هم فيه من القلة والذلة، فقد جمعوا من كل قوم أخس صفاتهم وأردأ حالاتهم، ولذلك أبدل من عموم {الذين كفروا} {الذين عاهدت منهم} وهم اليهود بلا شك، إما بنو قينقاع أو النضير أو قريظة أو الجميع بحسب التوزيع، فكل منهم نقض ما كان أخذ عليه صلى الله عليه وسلم من العهود، وأخلف ما كان أكده من الوعود.
ولما كان العهد جديراً بالوفاء ولاسيما من العلماء، عبر بقوله: {ثم ينقضون عهدهم} أي يجددون نقضه كلما لاح لهم خلب برق أو زَور بطل يغير في وجه الحق؛ ثم عظم الشناعة عليهم بقوله: {في كل مرة} ثم نبه على رضاهم من رتبة الشرف العلية القدر وهدةَ السفه والسرف بعدم الخوف من عاقبة الغدر بقوله: {وهم لا يتقون} أي الناس في الذم لهم على ذلك ولا الله في الدنيا بأن يمكن منهم، ولا في الآخرة بأن يخزيهم ثم يركسهم بعد المناداة بالعار في النار.
ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشئ عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلباس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس، فقال مؤكداً لأجل ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من محبة الرفق: {فإما تثقفنهم} أي تصادفنهم وتظفرن بهم {في الحرب} أي التي من شأنها أن يحرب فيها المبطل، ويربح المحق المجمل {فشرد بهم من خلفهم} أي فنكل بهم تنكيلاً يصدع ويفرق عن محاربتك من وراءهم ممن هو على مثل رأيهم في المنافرة لك ولا تتركنهم أصلاً لأن أتباعك أمهر منهم وأحذق، فهم لذلك أثبت وأمكن، فإذا أوقعت بهم ذلك لم يجسر عليك أحد بعده اتعاظاً بهم واعتباراً بحالهم؛ ومادة شرد بكل ترتيب تدور على النفوذ، فإن كان على قصد وسنن فهو رشد ويلزمه الاجتماع، وإن كان على غير سنن وجامع استقامة فهو شرود، ودرشة، أي لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله: {فشرد بهم} فالمراد نكل بهم وسمّع، قال القزاز: شردت الرجل تشريداً إذا طردته، وشردت به إذا سمّعت به وذكرت عيوبه للناس، وقوله تعالى: {فشرد بهم} أي اجعلهم مطردين انتهى.
فالمراد المبالغة في الإيقاع بهم لأنهم إذا ضربوا ضربة تفرقوا فيها على غير وجه ولا انتظام علم من شردوا إليه ممن وراءهم أنه قد تناهى بهم الذعر فذعر هو فوقع في الشرود قوة أو فعلاً، فعلى قراءة من جعل {من} حرف جر يكون المفعول محذوفاً، والتقدير: أوقع- بما تفعل بهؤلاء من الأمور الهائلة- التشريدَ في المكان الذي خلفهم بشرود من فيه قوة أو فعلاً بما سمعوا أو رأوا من حال هؤلاء حين واجهوك للقتال، وعلى قراءة من جعلها اسماً موصولاً تكون هي المفعول، فالمعنى: شرد الذين خلفهم من أماكنهم إما بالفعل أو بالقوة بأن تفترق قلوبهم بما تفعل بهولاء فتصير- بما ترى من قبيح حالهم- قابلة للشرود، ويكون اختلاف المعنى بالتبعيض في جعل {من} حرف جر والتعميم في جعلها موصولاً بالنظر إلى القوة أو الفعل.
ولما ذكر الحكم، ذكر ثمرته بأداة الترجي إدارة له على الرجاء فقال: {لعلهم} أي المشردين والمشرد بهم {يذكرون} ما سبق من أيام الله فيعلموا أن هذه أفعاله، وهؤلاء رجاله، فينفعهم ذلك فلا ينقضوا عهداً بعده ولقد فعل بهم صلى الله عليه وسلم ذلك فإنهم إن كانوا بني قريظة فقد ضربهم صلى الله عليه وسلم ضربة لم يفلت منهم مخبر، بل ضرب أعناقهم في حفائر في سوق المدينة وكانوا نحو سبعمائة على دم واحد. إلا من أسلم منهم وهم يسير، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم، وإن كانوا قينقاع فقد نزل بساحتهم بعد نقضهم وإظهارهم غاية الاستخفاف والعناد فلم يكبتهم الله أن جعلهم في قبضته وما بقي إلا ضرب أعناقهم كما وقع لبني قريظة فسأله فيهم عبد الله بن أبي المنافق وألح عليه صلى الله عليه وسلم في أمرهم وكان يألفه ويتألف به فتركهم له صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، وكانت واقعتهم أول وقائع اليهود بالمدينة، وإن كانوا بني النضير فقد نقضوا أيضاً فأحاط بهم، ومنّاهم المنافقون الغرور فقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل، ثم أتم الله له الأمر فيهم في خيبر ووادي القرى وغيرهما إلى أن لم يدع منهم في جزيرة العرب فريقاً إلا ضربه بالذل وأجرى عليه الهوان والصغار، ووقائعه فيهم مشهورة الخبر معروفه في السير.