فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 6):

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}
ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا: ما هذا اليوم؟ فكان الجواب: يوم يرجعون إليه، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال: {إلى الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده {مرجعكم} أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب ولا غيره، وهو بكل شيء عليم، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال: {وهو} أي وحده {على كل شيء} أي ممكن {قدير} أي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة، فالآية من الاحتباك: ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان.
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم: {ألا إنهم} أي الكفار المعاندين {يثنون صدورهم} أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره {ليستخفوا منه} أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره. فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم {يعلم ما يسرون} أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً: {وما يعلنون} أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه. ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال: {إنه عليم} أي بالغ العلم جداً {بذات الصدور} أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان- لعطف أحدهما على الآخر، والثناء- لعطف المناقب في المدح.
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة {الرحمن الرحيم} بعد الحمد قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي- كما في حديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والاستثناء لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء: طلب خفاء الشيء: ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال: {وما} وأغرق في العموم بقوله: {من دآبة} ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله: {في الأرض} أي صغرت أو كبرت {إلا على الله} أي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره {رزقها} أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية {وأن استغفروا ربكم} فالمراد: أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً، وقال: {وفي الأرض} ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطئ بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله: {ويعلم مستقرها} أي مكانها الذي تستقر فيه {ومستودعها} أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة أو بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو {كل} أي من ذلك {في كتاب مبين} فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده، وإذا وجده كان مفهماً له؛ والدابة: الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر: الموضع الذي يقر فيه الشيء، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع: المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها.

.تفسير الآيات (7- 8):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
ولما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً، تلاه بقوله: {وهو} أي وحده {الذي خلق} أي أوجد وقدر {السماوات والأرض} وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون {في ستة أيام} ولما كان خلق العرش أعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة. وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم، تلاه بقوله: {وكان} أي قبل خلقه لذلك {عرشه} مستعلياً {على الماء} ولا يلزم من ذلك الملاصقة كما أن السماء على الأرض من غير ملاصقة. وقد علم من هذا السياق أنه كان قبل الأرض خلق فثبت أنه وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه السورة التفصيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب {خلق}: {ليبلوكم} أي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر، ودل على شدة الاهتمام بذلك بسوقه مساق الاستفهام في قوله: {أيكم} أي أيها العباد {أحسن عملاً} على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك»، وقال: «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع» وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماً في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان.
ولما ثبت- بيده الخلق الذي هم به معترفون- القدرة على إعادته، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا باعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعاله وأنهم ما خلقوا إلا لذلك. عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقال: {ولئن قلت} أي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم إلا لابتلائهم {إنكم مبعوثون} أي موجودون، بعثكم ثابت قطعاً لابد منه.
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال: {من بعد الموت} الذي هو في غاية الابتداء {ليقولن} أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة {الذين كفروا إن} أي ما {هذا} أي القول بالبعث {إلا سحر مبين} أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول في طاعة الأمر.
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم بالأخذ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال: {ولئن أخرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {عنهم} أي الكفار {العذاب} أي المتوعد به {إلى أمة} أي مدة من الزمان ليس فيها كدر {معدودة} أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس {ليقولن} على سبيل التكرار {ما يحبسه} أي العذاب عن الوقوع استعجلاً له تكذيباً واستهزاء، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك.
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم: {ألا يوم} وهو منصوب بخبر {ليس} الدال على جواز تقدم الخبر {يأتيهم ليس} أي العذاب {مصروفاً عنهم} أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال: {وحاق بهم} أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة {ما كانوا} أي بجبلاتهم وسيئ طبائعهم، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال: {به} ولما كان استعجالهم استهزاء، وضع موضع يستعجلون قوله: {يستهزءون} أي يوجدون الهزء به إيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك.

.تفسير الآيات (9- 12):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}
ولما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم. وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر أن يكون طبعه كذلك: {ولئن أذقنا} أي بما لنا من العظمة {الإنسان} أي هذا النوع المستأنس بنفسه؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار. وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال: {منا رحمة} أي نعمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق {ثم نزعناها} أي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك {منه} أخذاً لحقنا {إنه ليئوس} أي شديد اليأس من أن يعود له مثلها {كفور} أي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك {ولئن أذقناه نعماء} من فضلنا.
ولما كان استملاكه العارية طبعاً له، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديد من الله. دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر. فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف: {بعد ضراء} أي فقر شديد مضر ببدنه، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في النعماء تعليماً للأدب فقال: {مسته} أي بما كسبت يداه {ليقولن} مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً {ذهب السيِّئات} أي كل ما يسوءني {عني} وقوله: {إنه} الضمير فيه للإنسان، المعنى أن الإنسان. فهي كلية مشهورة بمستغرق، أي أن كل إنسان {لفرح فخور} أي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها. لا يملك ضر نفسه ومنعها من ذلك فلذا اتصل بها قوله مستثنياً من الإنسان المراد به اسم الجنس: {إلا الذين صبروا} في وقت الشدائد وزوال النعم رجاء لمولاهم وحسن ظن به بسبب إيمانهم الموجب لتقيدهم بالشرع {وعملوا الصالحات} أي من أقوال الشكر وأفعاله عند حلول النعم، فهم دائماً مشغولون بمولاهم شكراً وصبراً، وهم الذين أتم عليهم سبحانه نعمه، وخلقهم في أحسن تقويم. وهم أقل من القليل لعظيم جهادهم لنفوسهم فيما جبلت عليه من الحظوظ والشهوات وغيرها وشياطينهم.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم لم يكونوا كذلك! أنتج السياق مدحهم فقال: {أولئك} أي العالو المراتب {لهم مغفرة} إذا وقعت منهم هفوة {وأجر كبير} على صبرهم وشكرهم؛ والذوق: تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم كما أن الشم ملابسة الشيء الأنف لإدراك الرائحة؛ والنزع: رفع الشيء عن غيره مما كان مشابكاً له كالقلع والقشط؛ واليأس: القطع بأن الشيء لا يكون، وهو ضد الرجاء، ويؤوس: كثير اليأس، وهو ذم لأنه للجهل بسعة الرحمة الموجبة لقوة الأمل في كل ما يجوز في الحكمة فعله؛ والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، كما أن الضراء مضرة تظهر الحال بها، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من حمراء وعوراء مع ما في مفهومها من المبالغة؛ والسيئة: ما يسوء من جهة نفور طبع أو عقل، وهي هنا المرض والفقر ونحوه؛ والفرح: انفتاح القلب بما يلتذ به؛ وعبارة البغوي: هو لذة في القلب بنيل المشتهى وهو أعظم من ملاذ الحواس؛ والفخر: التطاول بتعديد المناقب؛ والصبر: حبس النفس عن المشتهى من المحارم ونحوها، والصبر على مر الحق يؤدي إلى الفوز في الآخرة مع ما فيه من جمال في الدنيا؛ والكبير واحد يقصر مقدار غيره عنه؛ والكثير: جمع يزيد على عدد غيره.
ولما استثنى سبحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة الصبر الناشئ عن وقار العلم المثمر لصالح العمل، وكان صلى الله عليه وسلم رأس الصابرين، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم {ما يحبسه} وتثنيهم صدورهم أسباباً لضيق صدره صلى الله عليه وسلم، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه صلى الله عليه وسلم بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم فإنهم كانوا يقولون: ما نراه يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكرنا به من الشر، قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر: {فلعلك تارك} أي إشفاقاً أو طمعاً {بعض ما} ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله: {يوحى إليك} كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم {وضآئق به} أي بذلك البعض {صدرك} مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي مخافة أو لأجل أن {يقولوا} تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل عليه كنز} يستغني به ويتفرغ لما يريد، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة {أو جاء معه ملك} أي ليؤيد كلامه وليشهد له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فحركه الله بهذا لأداء الرسالة كائناً فيها ما كان، فكان المعنى: فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به، بل كن من الصابرين؛ قال أهل السير: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه إلا من عصمه الله؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أم المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا.
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار، كان كأنه قيل له: هذا الرجاء المرجو منكر، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال: {إنما أنت نذير} فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه، قدم قوله: {على كل شيء} منهم ومن غيرهم ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره {وكيل} فهو يدبر الأمور على ما يعلمه من الحكم، فإنشاء جاء بما سألوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطعمون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة؛ والصدر: مسكن القلب، يشبه به رئيس القوم والعالي المجلس لشرف منزلته على غيره من الناس؛ والكنز: المدفون، وقد صار في الدين صفة ذم لكل مال لم يخرج منه الواجب من الزكاة وإن لم يكن مدفوناً، والآية من الاحتباك: نفي أولاً قدرته صلى الله عليه وسلم على الإتيان بما سألوا دليلاً على قدرة مرسله على ذلك وغيره ثانياً. وأثبت الوكالة ثانياً دليلاً على نفيها أولاً.