فصل: تفسير الآيات (84- 85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 85):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}
ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {مدين} وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام {أخاهم شعيباً} فكأن قائلاً قال: ما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: {يا قوم} مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة {اعبدوا الله} أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} فلقد اتفقت- كما ترى- كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه: رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية في ذكر الأنبياء: اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك: إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت- انتهى.
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال: {ولا تنقصوا} أي بوجه من الوجوه {المكيال والميزان} لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل: تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن: تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله: {إني أراكم بخير} أي بسعة تغنيكم عن البخس- مرهباً ومرغباً بالإشارة إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة.
ولما كان كأنه قيل: فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم: {وإني أخاف عليكم} به وبالشرك {عذاب يوم محيط} بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً، أي مهلك كقوله: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان: أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا».
ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها: {ويا قوم} أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم {أوفوا} أي أتموا إتماماً حسناً {المكيال والميزان} أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله: {بالقسط} أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند {غير منقوص} أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة {الناس أشياءهم} ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال: {ولا تعثوا في الأرض} أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم {مفسدين} أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة عثى بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث- للأرض السهلة، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث- لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى: الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة: عثى وعاث: أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي: عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور: ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي: ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة- والله أعلم؛ والوفاء: تمام الحق؛ والبخس: النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه.

.تفسير الآيات (86- 88):

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال: {بقيت الله} أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره {خير لكم} مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً- إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك- إذا كان ينظر إليه- قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة.
ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير {وما أنا} وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال: {عليكم} وأعرق في النفي فقال: {بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى.
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا يا شعيب} سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته {أصلواتك تأمرك} أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} أي على سبيل المواظبة {آباؤنا أو} نترك {أن نفعل} أي دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي: فعلك للصلاة؛ ومادة صلا- واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها- تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود: كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا: وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً، والمصلى من الخيل: التابع للسابق، وصال الفحل- إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته: عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى: {بالغدو والآصال} في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه- فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في ألأموال بظن التبذير- فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به {إنك} إذاً {لأنت} وحدك {الحليم} في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام {الرشيد} في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا- سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم.
ولما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال: ما أجابهم به؟ فقيل: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف {أرءيتم} أي أخبروني {إن كنت} أي كوناً هو في غاية الثبات {على بينة} أي برهان {من ربي} الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {و} قد {رزقني} وعظم الرزق بقوله: {منه رزقاً حسناً} جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، ويمكن أن يقال فيه: هل يسع عاقلاً أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى {وما أريد} أي في وقت من الأوقات {أن أخالفكم} أي بأن أذهب وحدي {إلى ما أنهاكم عنه} في المستقبل، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم، فهو إرشاد إلى النظر في باب:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم

وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد- حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال: {إن} أي ما {أريد} أي شيئاً من الأشياء {إلا الإصلاح} وأقر بالعجز فقال: {ما استطعت} أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي- مع اجتنابي ما أنتم عليه- صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو- مع انتفاء التهمة عنى فيه- دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال: {وما توفيقي} إي فيما استطعت من فعل الإصلاح {إلا بالله} أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ {عليه} أي وحده {توكلت} ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله: {ما استطعت} إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر: {وإليه} أي خاصة {أنيب} أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق: خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته.

.تفسير الآيات (89- 91):

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}
ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال: {ويا قوم} وأعز الناس عليّ {لا يجرمنكم} أي يحملنكم {شقاقي} أي شقاقكم لي على {أن يصيبكم} من العذاب {مثل ما} أي العذاب الذي {أصاب قوم نوح} بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم {أو قوم هود} على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم {أو قوم صالح} مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور.
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال: {وما قوم لوط} أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم {منكم ببعيد} أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال: جرمت الرجل: حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني.
ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم: {واستغفروا ربكم} أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله: {إن ربي} أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا {رحيم ودود} أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله: يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: {قالوا يا شعيب} منادين له باسمه جفاء وغلظة {ما نفقه} أي الآن لأن ما تخص بالحال {كثيراً مما تقول} وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم- والله أعلم- أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين، أتبعوه قولهم: {وإنا لنراك} أي رؤية مجددة مستمرة {فينا ضعيفاً} أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم: {ولولا رهطك لرجمناك} أي قتلناك شر قتلة- فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون- فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك {وما أنت} أي خاصة، لأن ما لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لاسيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص {علينا بعزيز} بكريم مودود، تقول: أعززت فلاناً- إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله- أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط: الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء: حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد.