فصل: تفسير الآيات (92- 95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (92- 95):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً: {قال} أي شعيب {يا قوم} ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة {أرهطي} أي أقاربي الأقربون منكم {أعز عليكم من الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته {واتخذتموه} أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى {وراءكم} أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله: {ظهرياً} أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية.
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار: إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله: {بما تعملون محيط} من جليل وحقير، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط: المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث لا يفوته منه شيء.
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال: {ويا قوم اعملوا} أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين {على مكانتكم} أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل {إني عامل} على ما صار لي مكانة، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه.
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله: {سوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال: ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه.
وأحسن منه أنهم لما قالوا {ما نفقه كثيراً مما تقول} كذبهم- في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه- قائل: ماذا يكون إذا عملنا وعملت؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان وصلاً ظاهراً، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة {من} أي أينا أو الذي {يأتيه عذاب يخزيه} ولما كان من مضمون قولهم {ما نفقه كثيراً مما تقول} النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه، قال: {ومن هو كاذب} أي مني ومنكم، فالتقدير إن كانت {من} موصولة: ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم، وإن كانت استفهامية: أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها {وارتقبوا} أي انتظروا ما يكون من عواقبها.
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله، أكد فقال: {إني معكم رقيب} لمثل ذلك، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله: {سوف} ويجوز عطفه على {اعملوا} وجرد ولم يقل: مرتقب، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم.
ولما كان كأنه قيل: فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له، قال عاطفاً عليه، وكان العطف بالواو لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين- كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام- يتسبب عنه المجيء ويتعقبه: {ولما جاء أمرنا} أي تعلق إرادتنا بالعذاب {نجينا} بما لنا من العظمة {شعيباً} أي تنجية عظيمة {والذين آمنوا} كائنين {معه} منهم ومما عذبناهم به، وكان إنجاءنا لهم {برحمة منا} ولما ذكر نجاة المؤمنين، أتبعه هلاك الكافرين فقال: {وأخذت الذين ظلموا} أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا {الصيحة} وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك.
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال: {فأصبحوا} أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير {في ديارهم جاثمين} أي ساقطين لازمين لمكانهم.
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت، أوضح المراد بقوله: {كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله: {ألا بعداً لمدين} بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله: {كما بعدت ثمود}.

.تفسير الآيات (96- 99):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام، كان ذكر قصته هنا متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره: {ولقد أرسلنا} أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته {موسى بآياتنا} أي المعجزات التي أظهرها {وسلطان} أي أمر قاهر للقبط، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه {مبين} أي بين بنفسه، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص القاطع، والمبين يخص ما فيه جلاء {إلى فرعون} طاغية القبط {وملئه} أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل.
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة: {فاتبعوا} أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك منهم {أمر فرعون} أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم {وما} أي والحال أنه ما {أمر فرعون برشيد} أي سديد، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص- كما تقدم- التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم، وهذه حال آل فرعون، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر، ثم أطبق كلهم على الإتباع، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ: الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع، طلب، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر: الإيجاب بصيغة أفعل وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة، وقد لا يراد امتثال عين المأمور؛ والرشيد: القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله: {يقدم قومه} أي الذين كان لهم قوة المدافعة {يوم القيامة} ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال: {فأوردهم النار} أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر.
ولما كان التقدير: فبئس الواردون، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال: {وبئس الورد المورود} كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، وهذا يفيد ضد ذاك.
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال: {وأتبعوا} ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين {في هذه} أي الحياة الخسيسة {لعنة} فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد {ويوم القيامة} أيضاً يلعنهم اللاعنون، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله: {بئس الرفد المرفود} أي التبع المتبوع والعون المعان، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له، ومادة رفد تدور على التبع، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي: عذاب أو لعن، متبوعة بلعنة مضافة إليها، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى {يقدم} أنه يكون قدامهم غير سائق لهم، بل هم على أثره متلاحقين، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة: القومة من الموت للحساب؛ والإتباع: طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله: الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك، ومن العباد: الدعاء به.

.تفسير الآيات (100- 103):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}
ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير، لا يعرفه إلا بالغ في العلم، كان من المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى: {ذلك} أي النبأ العظيم والخطب الجسيم {من أنباء القرى} وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن، ومنه النبي، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله: {نقصه عليك} إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار- بما أخبر من حلها بقوله: {منها} أي القرى {قائم وحصيد} إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها.
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال: فعلنا بهم وأنبأناك به: {وما ظلمناهم} في شي منه {ولكن ظلموا أنفسهم} واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم {فما} أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما {أغنت عنهم} أي بوجه من الوجوه {آلهتهم التي} وصور حالهم الماضية فقال: {يدعون} أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وين خسة رتبتها فقال: {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ وذكر مفعول {أغنت} معرقاً في النفي فقال: {من شيء} أي وإن قل {لما جاء أمر} أي عذاب {ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة {وما زادوهم} في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها {غير تتبيب} أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص: إتباع الأثر، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً؛ والدعاء: طلب الطالب الفعل من غيره، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء، وكلا الأمرين مرادان؛ و{من دون الله}: من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب: الهلك والخسر.
ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره: {وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ العظيم {أخذ ربك} ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ {إذا أخذ القرى} أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام {وهي ظالمة} روى البخاري في التفسير عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك} الآية.
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله: {إن أخذه أليم} أي مؤلم قاطع للآمال مالئ البدن والروح والنفس بالنكال {شديد} أي صعب مفتت للقوى، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك، فلا تتكلف أنت شيئاً من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك- والله الموفق.
ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون من العذاب الناشئ عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت}، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه: {إن في ذلك} أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر {لآية} أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به، قال: {لمن خاف عذاب} يوم الحياة {الآخرة} لأنه نفع خاص به، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين، علم أنه قادر على ما يريد، وأنه لابد أن يجازي كلاًّ بما فعل، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام، علم أنه لابد من يوم يجازيهم فيه، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله: {ذلك} أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة {يوم} وأشار- إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لابد منه- باسم المفعول من قوله: {مجموع له} أي لإظهار العدل فيه والفضل {الناس} أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلاً.
ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء، وكان ذلك مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى: {وذلك} أي اليوم العظيم {يوم مشهود} أي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة، فلا يكون ثم شغل إلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص؛ والآية: العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير؛ والخوف: انزعاج النفس بتوقع الشر، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير؛ والعذاب: استمرار الألم.