فصل: تفسير الآيات (35- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 37):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
ولما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلاً أن يكون شيء منها شريكاً. أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلماً منهم وكفراً، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالانفاق وغيره، فقال ناعياً عليهم- مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفاً على {قل لعبادي الذين آمنوا} أو على {وإذ قال موسى لقومه}: {وإذ} أي واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلداً عظيماً.
ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهماً لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله- بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلداً- بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال: {اجعل هذا البلد} أي الذي يريدون إخراج الرسول منه {آمناً} أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر.
ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال: {واجنبني} أي اصرفني {وبني} أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائماً {أن نعبد} أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار {الأصنام} أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها، والصنم: المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن- قاله الطبري عن مجاهد؛ تم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة- زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللاً لما قبله- في قوله: {رب} بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد {إنهن أضللن} إسناد مجازي علاقته السببية {كثيراً من الناس فمن} أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول: من {تبعني} من جميع الناس في تجنبها {فإنه مني} أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز {ومن عصاني} فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء {فإنك غفور} أي بليغ الستر {رحيم} أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛ وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته- كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة.
ولما دعا بدرء المفاسد الناشئة من من نوعي الإنسان والشيطان بأمن البلد وإيمانه ذكر السبب الحامل له على تخصيصه بذلك مستجلباً للمصالح، فقال: {ربنا} أي يا رب وربَّ من قضيت أنه يتبعني بتربيتك لنا أحسن تربية {إني أسكنت} وكأن الله سبحانه كان قد أخبره أنه يكثر نسله حتى يكونوا كالنجوم، وذلك بعد البشارة بإسحاق عليه السلام فقال: {من ذريتي} وساقه مؤكداً تنبيهاً على أنه- لكونه على وجه لا يسمح به أحد- لا يكاد يصدق، وللإعلام بأنه راغب فيه {بواد} هو مكة المشرفة لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول {غير ذي زرع}.
ولما نفى عنه الرفد الدنيوي، أثبت له الأخروي، إشارة إلى أن الدارين ضرتان لا تجتمعان، وكأن هذا الدعاء كان بعد بنائه البيت- كما تقدمت الإشارة إليه أيضاً بتعريف البلد، فقال: {عند بيتك المحرم} أي الذي حرمت التعرض إليه ومنعته بالهيبة فلم يملكه أحد سواك، وجُعل له حريم يأمن فيه الوحش والطير؛ والكسنى: اتخاذ مأوى يسكن إليه متى شاء، والوادي: سفح الجبل العظيم، ومنه قيل للأنهار: أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، والزرع: نبات ينفرش من غير ساق؛ ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ليقيموا الصلاة} ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه.
ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله: {فاجعل أفئدة} أي قلوباً محترقة بالأشواق {من الناس} أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعاً من اضطرابها {تهوي} أي تقصدهم فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحاً وأكده بحرف الغاية الدال على بعد لأن الشيء كلما بعد مدى مرماه اشتد وقعه فقال: {إليهم} ولما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال: {وارزقهم} أي على يد من يهوي إليهم {من الثمرات} أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبين العلة الصالحة بقوله: {لعلهم يشكرون} أي ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك فيشتغلوا بعبادتك لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان.

.تفسير الآيات (38- 40):

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}
ولما فرغ من الدعاء بالأهم من الإبقاء على الفطرة الأولى المشوقة للعزائم إلى العكوف في دارة الأنس، ومن الكفاية لهم المعاش، المنتج للشكر بإنفاق الفضل، وتبين من ذلك أنهم خالفوا أعظم آبائهم في جميع ما قصده لهم من المصالح، أتبعه ما يحث على الإخلاص في ذلك وغيره له ولغيره ليكون أنجح للمراد بضمان الإسعاد ولاسيما مع تكرير النداء الدال على مزيد التضرع فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا المالك لجميع أمورنا {إنك تعلم ما} أي جميع ما {نخفي وما نعلن} ثم أشار إلى عموم علمه فقال: {وما يخفى على الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً. وبالغ في النفي فقال: {من شيء} من ذلك ولا غيره {في الأرض} ولما كان في سياق المبالغة، أعاد النافي تأكيداً فقال: {ولا في السماء} أي فهو غير محتاج إلى التعريف بالدعاء، فالدعاء إنما هو لإظهار العبودية، واسم الجنس شامل لما فوق الواحد، ومن فوائد التعبير بالإفراد الدلالة على أن من كان محيطاً بكل ما في المتقابلين من غير أن يحجبه أحدهما عن الآخر، كان محيطاً بغيرهما كذلك من غير فرق.
ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال: {الحمد لله} أي المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب} والهبة: هبة تمليك من غير عقد، منّاً منه {لي} حال كوني مستعلياً {على الكبر} ومتمكناً منه على يأس من الولد {إسماعيل} الذي أسكنته هنا {وإسحاق} وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت وطمأنينته بإسحاق عليه السلام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كان عند ولادة إسماعيل عليه السلام تسعاً وتسعين سنة، وعند ولادة إسحاق عليه السلام كان مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ {لسميع الدعاء} أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضاً بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم، فقد تقدم في سورة البقرة عن التوراة أنه لما خلّص ابن أخيه لوطاً من الأسر قال له الله: يا إبراهيم! أنا أكانفك وأساعدك لأن ثوابك قد جزل، فقال إبرم: اللهم ربي! ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسل ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي؟ فقال له الرب: لا يرثك هذا، بل ابنك الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له: انظر إلى السماء وأحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، فكذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله.
ولما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال: {رب} أي أيها الموجد لي المالك لأمري {اجعلني مقيم الصلاة} أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدباً: {ومن ذريتي}.
ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفراد الضمير للدعاء بها متملقاً لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي {وتقبل دعاء} كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولاً جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به.

.تفسير الآيات (41- 46):

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
ولما كان الإنسان ولو اجتهد كل الاجتهاد- محل العجز الموجب للتقصير المفتقر للستر، قال مشيراً إلى ذلك: {ربنا} أي أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالدي} وقد كان استغفاره لهما قبل أن يعلم أن أباه مات كافراً، وقد علم من السياق أنه إذا كان وحده أضاف إلى ضميره، وإذا تقدم ما يحسن جمعه معه جمع إن كان ما بعده مستقلاً، ثم كل من تبعه في الدين من ذريته وغيرهم فقال: {وللمؤمنين} أي العريقين في الوصف {يوم يقوم} أي يظهر ويتحقق على أعلى وجوهه {الحساب}.
ولما ختم دعاءه بيوم الحساب الموجب ذكره لكل سعادة ونسيانه لكل شقاوة، ذكر بعض ما يتفق فيه رجوعاً إلى ما مضى من أحوال يوم القيامة على أحسن وجه، فقال- عاطفاً على قوله: {قل لعبادي} وجل المقصد تهديد أهل الظلم بالإشراك وغيره، وخاطب الرأس الذي لا يمكن ذلك منه ليكون أوقع في قلب غيره-: {ولا تحسبن الله} أي الملك الأعظم الذي هو أحكم الحاكمين.
ولما كان اعتقاد ترك الحساب يلزم منه نسبة الحاكم إلى العجز أو السفه أو الغفلة، وكان قد أثبت قدرته وحكمته في هذه السورة وغيرها نزهةً عن الغفلة لينتبه المنكرون للبعث من غفلتهم فقال: {غافلاً} والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس {عما يعمل الظالمون} الذين بدلوا نعمة الله كفراً، فكانوا عريقين في الظلم وإن كان مستند ظلمهم شبهاً علمية يقيمونها، فكأنه قيل: فما الذي يفعل بهم؟ فقال: {إنما يؤخرهم} أي يؤخر حسابهم على النقير والقطمير سواء عذبوا في الدنيا أو لا {ليوم تشخص} أي تفتح فتكون بحيث لا تطرف {فيه} منهم {الأبصار} أي حال كونهم {مهطعين} أي مسرعين غاية الإسراع إلى حيث دعوا خوفاً وجزعاً، مع الإقبال بالبصر نحو الداعي لا يلفتونه إلى غيره {مقنعي رؤوسهم} أي رافعيها وناصبيها ناظرين في ذل وخشوع إلى جهة واحدة، وهي جهة الداعي، لا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، وهذا كناية عن أشد الذل والصغار، ثم أتبعه ما يؤكده فقال مصرحاً بمعنى الشخوص: {لا يرتد إليهم} ولما كانوا في هيئة الأعين في الطرف والسكون قريباً من السواء، وحد فقال: {طرفهم} بل أعينهم شاخصة دائمة الفتح لا تطرف كالمحتضر لما بأصحابها من الهول {وأفئدتهم} جمع فؤاد، وهو العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب؛ قال في القاموس: والتفؤد: التحرق والتوقد، ومنه الفؤاد للقلب مذكر، جمعه أفئدة. {هواء} أي عدم فارغة لا شيء فيها من الجرأة والأنفة التي يظهرونها الآن كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ** فأنت مجوف نخب هواء

والهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، والنخب: الجبان، وكذا الهواء- قاله في القاموس. فأنذرهم أهوال ذلك اليوم فإنه لا يبقى معهم فيه شيء مما هم فيه من الإباء والاستكبار {وأنذر} أي يا محمد {الناس} جميعاً، ما يحل بهم {يوم يأتيهم العذاب} وينكشف عنهم الغطاء بالموت أو البعث.
ولما كانوا عند إتيان العذاب قبل الموت لا ينكسرون بالكلية، بين أنهم إذ ذاك على غير هذا، فقال عاطفاً على {يأتيهم}: {فيقول الذين ظلموا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه منهم ومن غيرهم بسبب إتيانه من غير تمهل، وقد زال عنهم ما يفتخرون به من الأنفة والحمية والشماخة والكبر لما رأوا من الأهوال التي لا قبل لهم بها ولا صبر عليها: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق والتربية {أخرنا} أي أمهلنا {إلى أجل قريب} فإنك إن تؤخرنا إليه {نجب دعوتك} أي استدراكاً لما فرطنا فيه؛ والإجابة: القطع على موافقة الداعي بالإرادة {ونتبع} أي بغاية الرغبة {الرسل} فيقال لهم: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، أولم تكونوا تقولون: إن عرى صبركم لا تنحل، وحد عزائمكم لا يفل؟ {أولم تكونوا} أي كوناً أنتم فيه في غاية المكنة {أقسمتم} أي جهلاً وسفهاً أو أشراً وبطراً.
ولما لم يكن وقت إقسامهم مستغرقاً للزمان قال: {من قبل} وبين الجواب المقسم عليه بقوله- حاكياً معنى قولهم لا لفظه- ليكون صريحاً في المراد من غير احتمال لتعنت لو قيل: ما لنا؟: {ما لكم} وأكد النفي فقال: {من زوال} عما أنتم عليه من الكفران وعدم الإذعان للإيمان، أو من هذه الدار إلى الدار الآخرة، أو من منازلكم التي أنتم بها، كناية عن ثبات الأمر وعدم المبالاة بالمخالف كائناً من كان {و} الحال أنكم {سكنتم} أي في الدنيا {في مساكن الذين ظلموا} أي بوضع الأشياء في غير مواضعها كما فعلتم أنتم {أنفسهم} فأحلوا قومهم مثلكم دار البور {وتبين} أي غاية البيان {لكم} بالخبر والمشاهدة.
ولما كان حال أحدهم في غاية العجب، بنه بالاستفهام على أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف فعلنا} أي على عظمتنا {بهم} حين انتقمنا منهم فلم تعتبروا بأحوالهم {وضربنا} أي على ما لنا من العظمة {لكم الأمثال} المبينة أن سنة الله جرت- ولن تجد لسنة الله تبديلاً- أن الظالمين كما جمعهم اسم الظلم يجمعهم ميسم الهلاك، فجمعنا لكم بين طريقي الاعتبار: السمع والبصر، ثم لم تنتفعوا بشيء منهما {و} الحال أنه بان لكم أنهم حين فعلنا بهم ما فعلنا {قد مكروا مكرهم} أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر: الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة {و} الحال أنه {عند الله} أي المحيط علماً وقدرة {مكرهم} هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل {وإن كان مكرهم} من القوة والضخامة {لتزول} أي لأجل أن تزول {منه الجبال} والتقدير على قراءة فتح اللام الأولى ورفع الثانية: وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال، والمعنيان متقاربان، وقيل: {إن} نافية، واللام لتأكيد النفي؛ والجبال: الآيات والشرائع، بل هي أثبت.