فصل: تفسير الآيات (77- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (77- 79):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}
ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، والقاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله: {إن الله يعلم} قوله مصرحاً بتمام علمه وشمول قدرته: {ولله} أي هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده {غيب السماوات والأرض} كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظاماً لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما {وما أمر الساعة} وهي الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون استبعاداً لها واستصعاباً لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة {إلا كلمح البصر} أي كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان {أو هو أقرب} وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي- هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى: {إن الله} أي الملك الأعظم {على كل شيء} أي ممكن {قدير}.
ولما انقضى توبيخهم على إيمانهم بالباطل وكفرانهم بالحق وما استتبعه، وختم بأمر الساعة، عطف على قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} ما هو من أدلة الساعة وكمال القدرة والفعل بالاختيار من النشأة الأولى، فقال تعالى: {والله} أي الذي له العظمة كلها {أخرجكم} بعلمه وقدرته {من بطون أمهاتكم} والذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطن الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى، حال كونكم عند الإخراج {لا تعلمون شيئاً} من الأشياء قل أو جل، وعطف على {أخرجكم} قوله: {وجعل لكم} بذلك أيضاً {السمع والأبصار والأفئدة} آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسواها وعدلها وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يده، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطون إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى، ولعله جمعهما دون السمع، لأن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله؛ والأفئدة هي القلوب التي هيأها للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة القابلة للمعاني الدقيقة {لعلكم تشكرون} أي لتصيروا- بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات- في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة وحسن التعرف، فتعترفوا له بجميع ما أتتكم به رسله، وأهمه الذي تبنى عليه جميع مقاصد الأصول أو المنعم عليكم بهذه النعم إله واحد عالم بكل شيء قادر على كل شيء فاعل بالاختيار، وأن الطبائع من جملة مقدوراته، لا فعل لها إلا بتصريفه.
ولما كان المقصود من تعداد هذه النعم الإعلام بأنه الفاعل بالاختيار وحده لا الطبائع ولا غيرها، دلهم على ذلك مضموناً إلى ما مضى بقوله مقرراً لهم: {ألم يروا} بالخطاب والغيبة- على اختلاف القراءتين لأن سياق الكلام وسباقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض فقط، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك {إلى الطير مسخرات} أي مذللات للطيران بما أقامهن الله فيه من المصالح والحكم بالطيران وغيره {في جو السماء} في الهواء بين الخافقين بما لا تقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعاً ما وصل بذلك من قوله: {ما يمسكهن} أي في الجو عن الوقوع.
ولما كان للسياق هنا مدخل عظيم في الرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة، ولهم وقع عظيم في قلوب الناس، عبر بالاسم الأعظم، إشارة إلى أنه لا يقوى على رد شبههم إلا من أحاط علماً بمعاني الأسماء الحسنى، فكان متمكناً من علم أصول الدين فقال: {إلا الله} أي الملك الأعظم، لأن نسبتكم وإياها إلى الطبيعة واحدة، فلو كان ذلك فعلها لا ستويتم؛ ثم نبههم على ما في ذلك من الحكم بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من إخراجكم على تلك الهيئة، والإنعام عليكم بما ليس لها، وتقديرها على ما لم تقدروا عليه مع نقصها عنكم {لآيات} ولما كان من لم ينتفع بالشيء كأنه لم يملكه، قال تعالى: {لقوم يؤمنون} أي هيأهم الفاعل المختار للإيمان.

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
ولما ذكرهم سبحانه بنعمة الإدراك بعد ابتداء الخلق، وأتبعه ما منّ به على الطير من الارتفاع الحامي لها من الحر، أتبعه ما يسكنون إليه فيظلهم ويجمعهم لأنه أهم الأشياء للحيوان، فقال تعالى: {والله} أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة {جعل لكم} أي أيها الغافلون {من بيوتكم} أصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه {سكناً} هو مصدر بمعنى مفعول، ولم يسلط عليكم فيها الحشرات والوحوش كما سلطكم عليهم؛ ثم أتبع ما يخص الحضر ما يصلح له وللسفر بما ميزهم به عن الطير وغيرها من سائر الحيوانات، فقال تعالى: {وجعل لكم} أي إنعاماً عليكم {من جلود الأنعام} التي سلطكم عليها.
ولما كانت الخيام، التي من جلود الأنعام، في ظلها الظليل تقارب بيوت القرى، جمعها جمعاً فقال تعالى: {بيوتاً} فإنهم قالوا: إن هذا الجمع بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر أخص {تستخفونها} أي تطالبون بالاصطناع خفها فتجدونها كذلك {يوم ظعنكم} أي وقت ارتحالكم، وعبر به لأنه في النهار أكثر {ويوم إقامتكم} ثم أتبعه ما به كمال السكن فقال تعالى: {ومن أصوافها} أي الضأن منها {وأوبارها} وهي للإبل كالصوف للغنم {وأشعارها} وهي ما كان من المعز ونحوه من المساكن والملابس والمفارش والأخبية وغيرها {أثاثاً} أي متاعاً من متاع البيت كثيراً، من قولهم: شهر أثيث أي كثير، وأث النبت. إذا كثر {ومتاعاً} تتمتعون به {إلى حين} أي وقت غير معين بحسب كل إنسان في فقد ذلك، وأعرض عن ذكر الحرير والكتان والقطن لأنها لم تكن من صناعتهم، وإشارة إلى الاقتصاد وعدم الإسراف.
ولما ذكر ما يخصهم، أتبعه ما يشاركون فيه سائر الحيوانات فقال: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {جعل لكم} أي من غير حاجة منه سبحانه {مما خلق ظلالاً} من الأشجار والجبال وغيرها {وجعل لكم} أي مع غناه المطلق {من الجبال أكناناً} جمع كن وهو ما يستكن به- أي يستتر- من الكهوف ونحوها، ولو كان الخالق غير مختار لكانت على سنن واحد لا ظلال ولا أكنان؛ ثم أتبع ذلك ما هداهم إليه عوضاً مما جعله لسائر الحيوان فقال: {وجعل لكم} أي مَنّاً منه عليكم {سرابيل} أي ثياباً {تقيكم الحر} وهي كل ما لبس من قميص وغيره- كما قال الزجاج.
ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً، لم يكرر {جعل} فقال تعالى: {وسرابيل} أي دروعاً ومغافر وغيرها {تقيكم بأسكم} أضافه إليهم إفهاماً لأنه الحرب، وذلك كما جعل لبقية الحيوان- من الأصواف ونحوها والأنياب والأظفار ونحوها- ما هو نحو ذلك يمنع من الحر والبرد، ومن سلاح العدو، ولم يذكر سبحانه هنا وقاية البرد لتقدمها في قوله تعالى: {لكم فيها دفء} [النحل: 5].
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: نبهنا سبحانه بهذا الكلام على تمام نعمة الإيجاد، فهل بعدها من نعمة؟ فقال: نعم! {كذلك} أي كما أتم نعمة الإيجاد عليكم هذا الإتمام العظيم بهذه الأمور ونبهكم عليها {يتم نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالهداية والبيان لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك بعد جلائله {لعلكم تسلمون} أي ليكون حالكم- بما ترون من كثرة إحسانه بما لا يقدر عليه غيره مع وضوح الأمر- حال من يرجى منه إسلام قياده لربه، فلا يسكن ولا يتحرك إلا في طاعته.

.تفسير الآيات (82- 89):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
فلما صار هذا البيان، إلى أجلى من العيان، كان ربما وقع في الوهم أنهم إن لم يجيبوا لِحقَ الداعي بسبب إعراضهم حرج، فقال تعالى نافياً لذلك معرضاً عنهم بإعراض المغضب، مقبلاً عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقبال المسلي، معبراً بصيغة التفعل المفهمة لأن الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الله فلا يعرض صاحبها عما يرضيه سبحانه إلا بنوع معالجة: {فإن تولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض ومتابعة الأهواء فلا تقصير عليك بسبب توليهم ولا حرج {فإنما} أي بسبب أنه إنما {عليك البلاغ المبين} وليس عليك أن تردهم عن العناد، فكأنه قيل: فهل كان إعراضهم عن جهل أو عناد؟ فقيل فيهم وفيهم: {يعرفون} أي كلهم {نعمت الله} أي الملك الأعظم، التي تقدم عد بعضها في هذه السورة وغيرها {ثم ينكرونها} بعبادتهم غير المنعم بها أو بتكذيب الآتي بالتنبيه عليها، بعضهم لضعف معرفته، وبعضهم عناداً، وكان بعضهم يقول: هي من الله ولكن بشفاعة آلهتنا {وأكثرهم} أي المدعوين بالنسبة إلى جميع أهل الأرض الذين أدركتهم دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم {الكافرون} أي المعاندون الراسخون في الكفر.
ولما كان من أجل المقاصد بهذه الأساليب التخويف من البعث، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعراض عن البيان والإصرار على كفران المعروف من الإحسان إلا المجازاة لأن الحكيم يمهل ولا يهمل، قال تعالى: عاطفاً على ثمرة {فإنما عليك البلاغ المبين} وهي: فبلغهم وبين لهم ولا تيأس من رجوعهم: {ويوم} أي وخوفهم يوم {نبعث} بعد البعث {من كل أمة شهيداً} يحكم بقوله الملك إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان غنياً عن شهيد.
ولما كان الإذن لهم في الاعتذار في بعض المواقف الطويلة في ذلك اليوم متعذراً، عبر عنه سبحانه بأداة البعد فقال تعالى: {ثم لا يؤذن} أي لا يقع إذن على تقدير من التقادير {للذين كفروا} أي بعد شهادة الشهداء في الاعتذار كما يؤذن في هذه الدار للمشهود عليه عند السؤال في الإعذار، لأنه لا عذر هناك في الحقيقة {ولا هم} أي خاصة {يستعتبون} أي ولا يطلب منهم الإعتاب المؤثر للرضى وهو إزالة العتب وهو الموجدة المعبر بها عن الغضب المعبر به عن آثاره من السطوة والانتقام، وأخذ العذاب لأهل الإجرام من قبيح ما ارتكبوا، لأن تلك الدار ليست بدار تكليف؛ ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم، فقال تعالى عاطفاً على ما بعد {ثم}: {وإذا رءا} وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى: {الذين ظلموا} فعبر بالوصف الموجب للعذاب {العذاب} بعد الموقف وشهادة الشهداء، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره: لابسهم {فلا يخفف} أي يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق {عنهم} شيء منه {ولا هم ينظرون} بالتأخير ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما.
ولما بين سبحانه حاصل أمرهم في البعث وما بعده، وما من أهم المهم أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يترجونهم، عطف على ذلك قوله تعالى: {وإذا رءا} أي بالعين يوم القيامة {الذين أشركوا} فأظهر أيضاً الوصف المناسب للمقام {شركاءهم} أي الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء {قالوا ربنا} يا من أحسن إلينا وربانا! {هؤلاء شركاؤنا} أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجب لضرهم؛ ثم بينوا المراد بقولهم: {الذين كنا ندعوا} أي نعبد.
ولما كانت المراتب متكثرة دون رتبته سبحانه لأن علوه غير منحصر، أدخل الجار فقال تعالى: {من دونك} ليقربونا إليك، فأكرمنا لأجلهم جرياً على منهاجهم في الدنيا في الجهل والغباوة، فخاف الشركاء من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب {فألقوا} أي الشركاء {إليهم} أي المشركين {القول} أي بادروا به حتى كان إسراعه إليهم إسراع شيء ثقيل يلقى من علو؛ وأكدوا قولهم لأنه مطاعنة لقول المشركين فقالوا: {إنكم لكاذبون} في جعلنا شركاء وأنا نستحق العبادة أو نشفع أو يكون لنا أمر نستحق به أن نذكر {وألقوا} أي الشركاء {إلى الله} أي الملك الأعلى {يومئذ} أي يوم القيامة إذ نبعث من كل أمة شهيداً {السلم} أي الانقياد والاستسلام بما علم به الكفار أنهم من جملة العبيد لا أمر لهم أصلاً، فأصلد زندهم، وخاب قصدهم، وقيد بذلك اليوم لأنهم كانوا في الدنيا- بتزيين الشياطين لأمورهم ونطقهم على ألسنتهم- بحيث يظن عابدوهم أن لهم منعة، وبهم قوة ويجوز أن يكون ضمير {ألقوا} للمشركين {وضل عنهم} أي عن الكفار {ما كانوا} أي بجبلاتهم {يفترون} أي يتعمدون من دعوى النفع لهم والضر كذباً وفجوراً، فكأنه قيل: هذا للذين أشركوا، فما للذين كانوا دعاة إلى الشرك مانعين من الانتقال عنه؟ فقيل: {الذين كفروا} أي أوجدوا الكفر في أنفسهم {وصدوا} مع ذلك غيرهم {عن سبيل الله} أي الذي له الإحاطة كلها {زدناهم} أي بما لنا من العظمة، بصدهم غيرهم {عذاباً فوق العذاب} الذي استحقوه على مطلق الشرك {بما كانوا} أي كوناً جبلياً {يفسدون} أي يوقعون الفساد ويجددونه؛ ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال تعالى: {ويوم} أي وخوفهم يوم {نبعث} أي بما لنا من العظمة {في كل أمة} من الأمم {شهيداً} أي هو في أعلى رتب الشهادة {عليهم}.
ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم إلا قليلاً، قال: {من أنفسهم} وهو نبيهم.
ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية فقال تعالى: {وجئنا} أي بما لنا من العظمة {بك شهيداً} أي شهادة هي مناسبة لعظمتنا {على هؤلاء} أي الذين بعثناك إليهم وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من وقوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم، لأنه سبحانه أزاح العلل، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فقال عاطفاً على قوله: {وما أنزلنا عليك الكتاب} الآية، المتعقب لقوله: {لا جرم} الآيتين: {ونزلنا} أي بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم {عليك الكتاب} الجامع للهدى {تبياناً} أي لأجل البيان التام، قالوا: وهو اسم وليس بمصدر كتلقاء {لكل شيء} ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم وغير ذلك، وهو في أعلى طبقات البيان كما أنه في أعلى طبقات البلاغة، لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر، في الإدراك، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام والقرب إلى الافهام، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب الذين هم الأصل في هذا اللسان، وتقصير العرب عن جميع مقاصده كما قصروا عن درجته في البلاغة، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم لا إلى تقصير الكلام في البيان، ولهذا تفاوت الناس في فهمه لتفاوتهم في درجات البلاغة ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها؛ قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في آخر خطبة الرسالة بعد أن دعا الله تعالى أن يرزقه فهماً في كتابه ثم في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، واحتج بآيات منها هذه، وذلك لأنه سبحانه بين فيه التوحيد والمبدأ والمعاد والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام بالنص على بعضها، وبالإحالة على السنة في الآخر، وعلى الإجماع في نحو قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] وعلى الاقتداء بالخلفاء الراشدين في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وبالاقتداء بجميع أصحابه رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ولم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، فهو من دلائل النبوة في كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً لكونه ما أخبر عنهم إلا بما هم أهله.
ولما كان لتبيان قد يكون للضلال، قال تعالى: {وهدى} أي موصلاً إلى المقصود. ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام، قال تعالى: {ورحمة} ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور، قال سبحانه: {وبشرى} أي بشارة عظيمة جداً {للمسلمين} ويجوز أن يكون التقدير {في كل أمة شهيداً عليهم} وهو رسولهم الذي أرسلناه إليهم في الدنيا {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} لكوننا أرسلناك إليهم وجعلناك أميناً عليهم {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} فلا عذر لهم، فيكون معطوفاً على ما دل الكلام السابق دلالة واضحة على تقديره.