فصل: تفسير الآيات (9- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 11):

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}
ولما ثبت أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدة المتطاولة هو هدى لبني إسرائيل، صادق الوعد والوعيد فيما قضى فيه إليهم من أمرهم وأمر بيت المقدس من ترقية حال من أطاعه وإعلائهم وأخذ من عاداهم ومن تعكيس أحوال العصاة مرة بعد أخرى بتسليط الأعداء عليهم بالقتل والأسر والنهب وتخريب البلاد، تنبيهاً على أن طاعة الله تجلب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية، كما كشف عنه الزمان على ما هو معروف من تواريخ اليهود وغيرها، لاح أن القرآن يزيد عليه في كل معنى حسن وأمر شريف فيما أتى به من الوعود الصادقة، والأحكام المحكمة، والمعاني الفائقة، في النظوم العذبة الرائقة، مع الإعجاز عن الإتيان بآية من مثله لجميع الإنس والجان بنسبة ما زاد المسير المحمدي إلى بيت المقدس- الذي أراه فيه من آياته- على المسير الموسوي الذي آتاه فيه الكتاب، فقال- في جواب من كأنه قال: قد علم أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل في مسيرة لقصد محل المسجد الأقصى قيم في الهداية والوعود الصادقة، فما حال الكتاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيرة إليه في ذلك؟ {إن هذا القرءان} أي الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس {يهدي}.
ولما كان صاحب الذوق السليم يجد لحذف الموصوف هزة وروعة، لما يجد من الفخامة بإبهامه لا يجدها عند ذكره وإيضاحه، قال {للتي} أي للطرائق والأحوال والسنن التي {هي أقوم} من كل طريقة وسنة وحال دعا إليها كتاب من الكتب السماوية، أما في الصورة فباعتبار ما علا به من البيان، وأما في الوعود فباعتبار العموم لجميع الخلق في الدارين، وأما في الأصول فبتصريف الأمثال وتقريب الوسائل، وحسم مواد الشبه وإيضاح وجوه الدلائل، وأما الفروع فباعتبار الأحسنية تارة في السهولة والخفة، وتارة في غير ذلك- كما هو واضح عند من تأمل ما بين الأمرين.
ولما انقسم الناس إلى مهتد به وضال، أتبع سبحانه ذلك بيانه، وكان التعبير عن حالهما بالبشرى في قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف، ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله تعالى: {الذين} يصدقون إيمانهم بأنهم {يعملون} أي على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم {الصالحات} من التقوى والإحسان {أن لهم} أي جزاء لهم في ظاهرهم وبواطنهم {أجراً كبيراً} إشارة إلى صلاح هذه الأمة وثباتهم على دينهم وأنه لا يزال أمرهم ظاهراً كما كان إنذار كتاب موسى عليه السلام قومه إشارة إلى إفسادهم وتبديلهم دينهم.
ولما بشرهم بما لهم في أنفسهم، أتبعه ما لهم في أعدائهم فقال تعالى: {وأن} أي ويبشر المؤمنين أيضاً بأن {الذين لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان {بالآخرة} حقيقة أو مجازاً، المسبب عنه أنهم لا يعملون الصالحات حقيقة لعدم مباشرتها، أو مجازاً ببنائها على غير أساس الإيمان؛ وعبر بالعتاد تهكماً بهم، فقال تعالى: {أعتدنا} أي أحضرنا وهيأنا ما هو في غاية الطيب والنفاسة والملاءمة على سبيل الوعد الصادق الذي لا يتخلف بوجه، وهو مع ذلك منظور إليه، لعظمتنا {لهم} من عندنا بواسطة المؤمنين أو بلا واسطة.
ولما استشرف الأعداء إلى هذا الوعد استشراف المغتبط المسرور، أتاهم في تفسيره بما خلع قلوبهم على طريقة: تحية بينهم ضرب وجيع وسر قلوب الأولياء سروراً عظيماً، فقال تعالى: {عذاباً أليماً} فإنه لا بشرى لذوي الهمم أعلى ولا أسر من الانتقام من مخالفيهم، فصار فضل الكتاب على الكتاب كفضل الذهاب على الذهاب، وحذف المؤمنين الذين لا يعملون الصالحات، لتمام البشارة بالإشارة إلى أنهم من القلة في هذه الأمة الشريفة بحيث لا يكادون أن يوجدوا.
ولما ذكر سبحانه ما لكلامه من الدعاء إلى الأقوام، أتبعه ما عليه الإنسان من العوج الداعي له إلى العدول عن التمسك بشرائعه القويمة والإقدام على ما لا فائدة فيه، تنبيهاً على ما يجب عليه من التأني للنظر فيما يدعو إليه نفسه ووزنِه بمعيار الشرع، فقال تعالى: {ويدع} حذف واوه- الذي هو لام الفعل- خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفه لفظاً في العربية- مشير إلى أنه يدعو بالشر لسفهه وقلة عقله، وهو لا يريد علو الشر عليه- بما أشير إليه بحذف ما معناه عند أهل الله الرفعة والعلو، وإلى أن غاية فعله الهلاك إلى أن يتداركه الله، وقد ذكرت حكم الوقف عليه وعلى أمثاله في سورة القمر {الإنسان} أي عند الغضب ونحوه على نفسه وعلى من يحبه، لما له من الأنس بنفسه والنسيان لما يصلحه {بالشر} أي ينادي ربه ويتضرع إليه بسبب إيقاع الشر به {دعاءه} أي مثل دعائه {بالخير} أي بحصول الخير له ولمن يحبه؛ ثم نبه على الطبع الذي هو منبع ذلك، فقال تعالى: {وكان الإنسان} أي هذا النوع بما له من قلة التدبر لاشتغاله بالنظر في عطفيته والأنس بنفسه، كوناً هو مجبول عليه {عجولاً} أي مبالغاً في العجلة يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله من غير أن يتأنى فيه تأني المتبصر الذي لا يريد أن يوقع شيئاً إلا في أتم مواقعه، ولذلك يستعجل العذاب لنفسه استهزاء، ولغيره استشفاء؛ والعجلة: طلب الشيء في غير وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه، وأما السرعة فهي عمله في أول وقته الذي هو أولى به.

.تفسير الآيات (12- 16):

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
ولما ثبت ما لصفته تعالى من العلو، ولصفة الإنسان من السفول تلاه بما لأفعاله تعالى من الإتقان، ذاكراً ما هو الأقوم من دلائل التوحيد والنبوة في العالمين: العلوي والسفلي، ثم ما لأفعال الإنسان من العوج جرياً مع طبعه، أو من الإحسان بتوفيق اللطيف المنان، فقال تعالى مبيناً ما منحهم به من نعم الدنيا بعد ما أنعم عليهم به من نعم الدين: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {الّيل والنهار آيتين} دالتين على تمام العلم وشمول القدرة، آية الليل كالآيات المتشابهة، وآية النهار كالمحكمة، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين {فمحونا} أي بعظمتنا الباهرة {آية الّيل} بإعدام الضياء فجعلناها لا تبصر بها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي {وجعلنا} أي بعظمتنا {ءاية النهار} ولما كانت في غاية الضياء يبصر بها كل من له بصر، أسند الإبصار إليها مبالغة فقال: {مبصرة} أي بالشمس التي جعلها منيرة في نفسها، فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور كما للإنسان- بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله- من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك: ثم ذكر بعض المنافع المترتبة على ذلك، فقال تعالى: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً {فضلاً من ربكم} أي المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة وبرد هذا أخرى {ولتعلموا} بفصل هذا من هذا {عدد السنين} أي من غير حاجة إلى حساب، لأن النيرين يدلان على تحول الحول بمجرد تنقلهما.
ولما كانا أيضاً يدلان على حساب المطالع والمغارب، والزيادة والنقصان، وغير ذلك من الكوائن، لمن أمعن النظر، وبالغ في الفكر، قال تعالى: {والحساب} أي جنسه، فصلناهما لذلك على هذا الوجه المتقن بالزيادة والنقصان، وتغير الأحوال في أوقات معلومة، على نظام لا يختل على طول الزمان مقدار ذرة، ولا ينحل قيس شعرة إلى أن يريد الله خراب العالم وفناء الخلق، فيبيد ذلك كله في أسرع وقت وأقرب زمن، ولولا اختلافهما لاختلطت الأوقات وتعطلت الأمور {وكل شيء} غيرهما مما تحتاجون إليه في دينكم أو دنياكم {فصلناه} أي بعظمتنا، وأزلنا ألباسه، وأكد الأمر تنبيهاً عل تمام القدرة، وأنه لا يعجزه شيء يريده، فقال تعالى: {تفصيلاً} فانظروا بأبصاركم وبصائركم، وتتبعوا في علانياتكم وسرائركم، تجدوا أمراً متقناً ونظاماً محكماً {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4].
ولما كان هذا أمراً دقيقاً جداً، أتبعه ما هو أدق منه وأغرب في القدرة والعلم من تفاصيل أحوال الآدميين، بل كل مكلف بعضها من بعض من قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: {وكل إنسان} أي من في طبعه التحرك والاضطراب {ألزمناه} أي بعظمتنا {طائره} أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر، ولعله عبر به لأنهم كانوا لا يقدمون ولا يحجمون في المهم من أعمالهم إلا بالطائر فيقولون: جرى لفلان الطائر بكذا.
{في عنقه} أي الذي محل الزين بالقلادة ونحوها، والشين بالغل ونحوه، إلزاماً لا يقدر أن ينفك عن شيء منه كما لا يقدر على الانفكاك عن العنق، وذلك كما ألزمنا بني إسرائيل ما قضينا إليهم في الكتاب، فكان كما قلنا، وهم يعلمون نه من السوء بمكان، فلم يقدروا على الاحتراز منه والانفصال عنه، فلا يمكن أن يظهر في الأبد إلا ما قضى به في الأزل «جف القلم بما هو كائن» {ونخرج} أي بما لنا من العظمة وشمول العلم وتمام القدرة {له يوم القيامة} أي الذي لابد من إيجاده {كتاباً} بجميع ما عمل {يلقاه} حال كونه {منشوراً} تكتبه حَفَظَتَنا كل يوم، ثم إذا صعدوا قابلوا ما فيه على ما سطرناه قديماً في اللوح المحفوظ فيجدونه كما هو، لا خلاف فيه أصلاً، فإذا لقي كتابه يوم العرض قيل له: {اقرأ كتابك} أنت بنفسك غير ملزم بما يقرأه غيرك {كفى} وحقق الفاعل بزيادة الباء فقال تعالى: {بنفسك اليوم} أي في جميع هذا اليوم الذي تكشف فيه الستور، وتظهر جميع الأمور {عليك حسيباً} أي حاسباً بليغاً، فإنك تعطي القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً، ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاً، ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً، إن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك، فيا لها من قدرة باهرة، وقوة قاهرة، ونصفة ظاهرة!.
ولما كان ما مضى، أنتج قطعاً معنى ما قلنا لبني إسرائيل {إن أحسنتم} الآية، لكل أحد منهم ومن غيرهم، وذلك قوله تعالى: {من اهتدى} فتبع الهدى {فإنما يهتدي لنفسه} لأن ثوابه لا يتعداه {ومن ضل} بالإعراض عما أنزلنا من البيان {فإنما يضل عليها} لأن عقابه عليه، لا يتجاوزه {ولا تزر وازرة} أي أي وازرة كانت {وزر أخرى} لتخفف عنها، بل لكل جزاء عمله لا يتعداه إلى غيره، فنثيب من اهتدى ونعذب من ضل {وما كنا} أي على عظمتنا {معذبين} أحداً {حتى نبعث} أي بعثاً يناسب عظمتنا {رسولاً} فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه، وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في جميع الأمم كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} [النحل: 36] {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] فإن دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت، وعمت الأقطار واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} [ص: 7] فإنه يفهم أنهم سمعوه في الملة الأولى فمن بلغته دعوة أحد منهم بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر مستحق للعذاب، فلا تغتر بقول كثير من الناس في نجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار، وأن ما يدحرج الجعل خير منهم- إلى غير ذلك من الأخبار؛ قال الإمام أبو عبد الله الحليمي أحد أجلاء الشافعية وعظماء أئمة الإسلام رضي الله عنهم في أوائل منهاجه في باب من لم تبلغه الدعوة: وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزاً إذا رأى ونظر إلا أنه لا يعتقد ديناً فهو كافر، لأنه وإن لم يكن سمع دعوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء الذين كانوا قبله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آية دعوة كانت إلى الله فترك أن يستدل بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضاً عن الدعوة فكفر- والله أعلم، وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهاً- وما نرى أن ذلك يكون- فإن كان فأمره على الاختلاف- يعني عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل. وما قاله الحليمي نقل نحوه عن الإمام الشافعي نفسه رضي الله عنه؛ قال الزركشي في آخر باب الديات من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر قصور- أي عدم بلوغ- الدعوة حيث قال: وما أظن أحداً إلا بلغته الدعوة إلا أن يكون قوم من وراء النهر بكوننا، وقال الدميري: وقال الشافعي: ولم يبق من لم تبلغه الدعوة.
ولما أشار إلى عذاب المخالفين، قرر أسبابه وعرف أنها بقدره، وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب، لبناء الأمر على ما يتعارفه ذوو العقول بينهم فقال تعالى: {وإذا} أي فنبعث الرسل بأوامرنا ونواهينا، وإذا أردنا أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقيد باتباع رسلنا، وإذا {أردنا} وإرادتنا لا تكون إلا عظيمة جداً {أن نهلك} أي بعظمتنا {قرية} في الزمن المستقبل {أمرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على مخالفتها {مترفيها} الذين لهم الأمر والنهي بالفسق، أي استدرجناهم بإدرار النعم ودفع النقم على ما يعملون من المعاصي، الذي كان- بكونه سبباً لبطرهم ومخالفتهم- كالأمر بالفسق {ففسقوا فيها} بعد ما أزال الرسول معاذيرهم بتبليغ الرسالة كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به} [الأنعام: 44]- أي على ألسنة الرسل- {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] الآية {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} [الأنعام: 123] وخص المترفين لأن غيرهم لهم تبع، ولأنهم أحق الناس بالشكر وأولى بالانتقام عند الكفر، ويجوز أن يكون: أمرناهم بأوامرنا ففسقوا فيها، أي الأوامر بالطاعات التي يعلم قطعاً أن أوامرنا تكون بها ولا تكون بغيرها، لأنا لا نأمر بالفحشاء، وقد جرت العادة بأن المترف عسر الانقياد، لا تكاد تسمح نفسه بأن يصير تابعاً بعدما كان متبوعاً، فعصوا فتبعهم غيرهم لأن الأصاغر تبع للأكابر فأطبقوا على المعصية فأهلكناهم، وقرأ يعقوب: آمرنا- بمد الهمزة بمعنى كثرنا، من آمرت الشيء وأمرته فأمر- إذا كثرته، وفي الحديث «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: آمر بنو فلان. والكثرة راجعة إلى الأمر الذي هو ضد النهي، فإنه نتيجة العز الذي هو لازم الكثرة، ويجوز أن يكون من المؤامرة، أي أمرناهم بأوامرنا فما امتثلوا وأمرونا بأوامرهم، أي سألونا ما يريدون فأعطيناهم ذلك استدراجاً فأبطرهم نيل الأماني ففسقوا {فحق} أي وجب وجوباً لا شك في وقوعه {عليها القول} الذي توعدناهم به على لسان الرسول بمباشرة البعض للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب عليه استحق العقاب {فدمرناها} أي أهلكناها إهلاكاً شديداً بغتة غير مبالين بها فجعلناها كالمدرة المفتتة، وكان أمرها على عظمتنا هيناً، ولذلك أكد فقال تعالى: {تدميراً}.