فصل: تفسير الآيات (17- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 21):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}
ولما قرر أن هذا شأنه إذا أراد أن يهلك، أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون، ولا يحيط بهم الحد من الأمم، لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب وأهول عند النفس، فكأنه قال: كم فعلنا ذلك بالقرى ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم ولا أخذناهم من غير إنذار، بل أرسلنا فيهم وأملينا لهم إلى أن كان ما علمناه في الأزل، وجاء الوقت الذي قدرناه، وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ، ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن، وكانوا أهل الأرض- كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم، وعطف على هذا المقدر قوله تعالى: {وكم أهلكنا} أي بما لنا من العظمة، وبين مدلول {كم} بقوله تعالى: {من القرون} على هذا السنن.
ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد نوح} الذي أنتم ذرية من أنجيناه بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213].
ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال: كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية: {وكفى بربك} أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال {بذنوب عباده} أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات {خبيراً} من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين {بصيراً} بها، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها، وأما أتم فكم من شخص كنتم ترونه مجتهداً في العبادة، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم.
ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدينا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصيته فقال تعالى: {من كان يريد} أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون.
ولما كان مدار مقصود السورة على الإحسان الذي هو العبادة على المشاهدة، وكان ذلك منافياً لحال من يلتفت إلى الدنيا، عبر بقوله تعالى: {العاجلة} أي فقط {عجلنا} أي بعظمتنا {له فيها} أي العاجلة {ما نشاء} مما يريده لا جميع ما يريده؛ ثم أبدل من {له} قوله تعالى: {لمن نريد} أي لا لكل من أراد ذلك، تنبيهاً على أن ذلك بقوتنا لا بقوة ذلك المريد {ثم جعلنا} أي بما لنا من العظمة {له} أي لظاهره وباطنه {جهنم} أي الدركة النارية التي تلقى بالتجهم من كان يلقى الدنيا وأهلها بالتبسم {يصلاها} في الآخرة {مذموماً} أي مفعولاً به الذم، وهو ضد المدح {مدحوراً} مدفوعاً مطروداً مبعداً، فينبغي لمريد الدنيا أن لا يزال على حذر لأنه لا ينفك من عذاب الآخرة، فإن لم يعط شيئاً من مناه- كما أشار إليه {لمن نريد} اجتمع له العذابان كاملين: فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أعطى فهو لا يعطي كل ما يريد بما أشار إليه {ما نشاء} فيجتمع له عذاب ما منعه منها مع عذاب الآخرة.
ولما ذكر الجاهل ذكر العالم العامل فقال تعالى: {ومن أراد الآخرة} أي مطلق إرادة- بما أشار إليه التجريد {من كان} {وسعى} أي وضم إلى نيته العمل بأن سعى {لها سعيها} أي الذي هو لها، وهو ما كانت جديرة به من العمل بما يرضي الله بما شرعه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا أي سعي كان بما لم يشهد ظاهر الكتاب والسنة، إعلاماً بأن النية لا تنفع إلا مع العمل، إما بالفعل عند التمكن، وإما بالقوة عند عدمه؛ ثم ذكر شرط السعي الذي لا يقبل إلا به، فقال تعالى: {وهو مؤمن} أي راسخ في هذا الوصف كما جاء عن بعض السلف: من لم يكن له ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب- وتلا هذه الآية، وهذا الرسوخ هو الإحسان الذي يدور عليه مقصود السورة؛ ثم رتب عليه الجزاء فقال: {فأولئك} أي العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة {كان} أي كوناً لابد منه {سعيهم مشكوراً} أي مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف مع أن بعضهم نفتح عليه أبواب الدنيا كداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ونستعمله فيها بما يحب، وبعضهم نزويها عنه كرامة له لا هواناً، فالحاصل أنها إن وجدت عند الوالي لم تشرفه، وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما الشرف وغيره عند الله بالأعمال.
ولما أخبر عن نفسه الشريفة بما يشير إلى التوسعة على من يريد من أهل الباطل، أخبر بأنه قضى بذلك في الأزل تفضلاً فقال تعالى: {كلاًّ} أي من الفريقين: مريد الدنيا ومريد الآخرة {نمد} أي بالعطاء؛ ثم أبدل من {كلاًّ} قوله تعالى: {هؤلاء} أي الذين طلبوا الدنيا نمد {وهؤلاء} الذين طلبوا الآخرة نمد {من عطاء ربك} أي المحسن إليه بجميع قضائه، إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لهو ولعب، وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه ويعلي كلمته {وما كان عطاء ربك} أي الموجد لك المدبر لأمرك {محظوراً} أي ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر، بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً، ولم يكن لهم شغل سوى ذلك، لأعياهم ولم يقدروا عليه، فسبحان الجواد الواسع المعطي المانع، ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا، فقال تعالى آمراً بالاعتبار: {انظر} وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى: {كيف فضلنا} أي بما لنا من العظمة القاهرة {بعضهم على بعض} في هذه الحياة الدنيا بالعطاء، فصار الفاضل يسخر المفضول، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه، مع أن رزق الله- وهوعطاءه- بالنسبة إلى الكل على حد سواء، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك، وهو من تنزه عن النقص وحاز على كمال، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه.
ولما نبه على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته، أخبر أن ما بعد الموت كله كذلك من غير فرق فقال: {وللآخرة} أكد الإخبار عما فيها المستلزم لتأكيد الإعلام بوجودها لهم من إنكاره {أكبر درجات} من هذه الحياة الدنيا {وأكبر تفضيلاً} أولاً بالجنة والنار أنفسهما، وثانياً بالدرجات في الجنة والدركات في النار؛ ولما كان العلم هنا مقيداً بالذنوب، ذكر بعد المفاضلة في الدنيا، ولعل في ذلك إشارة إلى أن أكثر من يزاد في الدنيا تكون زيادته نقصاً من آخرته بسبب ذنب اكتسبه أو تقصير ارتكبه، ولما كان العلم فيما يأتي في قوله تعالى: {وربك أعلم} مطلقاً، طوى بعده الرذائل، وعطف على ذلك المطوي الفضائل، فقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} الآية، فمن كانت له نفس أبيه وهمة علية كان عليه أن يزهد في علو فانٍ لأجل العلو الباقي.

.تفسير الآيات (22- 25):

{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
ولما تقرر بما مضى أن له سبحانه الأمر كله، وأنه متصف بجميع الكمال منزه عن شوائب النقص، أنتج أنه لا إله غيره، فقال تعالى يخاطب الرأس لأن ذلك أوقع في أنفس الأتباع، وإشارة إلى أنه لا يوحده حق توحيده سواه، ويجوز أن يكون خطاباً عاماً لكل من يصح أن يخاطب به: {لا تجعل مع الله} الذي له جميع صفات الكمال {إلهاً} وسيأتي قريباً سر قوله: {ءاخر} أنه مفهوم من المعية {فتقعد} أي فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي تصير في الدنيا قبل الآخرة {مذموماً}.
ولما كان الذم قد يحتمله بعض الناس مع بلوغ الأمل، بين أنه مع الخيبة فقال تعالى: {مخذولاً} أي غير منصور فيما أردته من غير أن يغني عنك أحد بشفاعة أو غيرها. ولما قرع الأسماع بهذا النهي المحتم لتوحيده، أتبعه الإخبار بالأمر بذلك جمعاً في ذلك بين صريحي الأمر والنهي تصريحاً بعد التنزيه له عن الشريك بالإفراد له في العبادة في أسلوب الخبر، إعلاماً بعظم المقام فقال تعالى: {وقضى} أي نهاك عن ذلك وأمر {ربك} أي المحسن إليك أمراً حتماً مقطوعاً به ماضياً لا يحتمل النزاع؛ ثم فسر هذا الأمر بقوله تعالى: {ألا تعبدوا} أي أنت وجميع أهل دعوتك، وهم جميع الخلق {إلا إياه} فإن ذلك هو الإحسان.
ولما أمر بمعرفة الحق المحسن المطلق منبهاً على وجوب ذلك باسم الرب، أتبعه الأمر بمعرفة الحق لأول المربين من الخلق فقال: {وبالوالدين} أي وأحسنوا، أي أوقعوا الإحسان بهما {إحساناً} بالإتباع في الحق إن كانا حنيفين شاكرين لأنعمه كإبراهيم ونوح عليهما السلام فإن ذلك يزيد في حسناتهما، وبالبراءة منهما في الباطل فإن ذلك يخفف من وزرهما واللطف بهما ما لم يجر إلى فساد ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
ولما كان سبحانه عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السن، قال تعالى: {إما} مؤكداً بإدخال ما على الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الأبوين {يبلغن عندك} أي بأن يضطر إليك فلا يكون لهما كافل غيرك {الكبر} ونفى كل احتمال يتعلق به المتعنت بقوله تعالى: {أحدهما أو كلاهما} فيعجزا بحيث يكونان في كفالتك {فلا تقل لهما أف} أي لا تتضجر منهما، وفي سورة الأحقاف ما ينفع كثيراً هنا؛ ثم صرح بما ينهى عنه الكلام من باب الأولى تعظيماً للمقام فقال: {ولا تنهرهما} فيما لا ترضاه؛ والنهر: زجر بإغلاظ وصياح. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي رحمه الله في كتابه في أصول الفقه: وقد أولع الأصوليون بأن يذكروا في جملة هذا الباب- أي باب الاستدلال بالملزوم على اللازم والأدنى على الأعلى- قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} بناء على أن التأفيف عندهم أقل شيء يعق به الأب، وذلك حائد عن سنن البيان ووجه الحكمة، لأنه ليس في العقوق شيء أشد من التأفيف لأنه إنما يقال للمستقذر المسترذل، ولذلك عطف عليه {ولا تنهرهما} لأنه لا يلزم منه لزوم سواء ولا لزوم أحرى، ولا يصلح فيما يقع أدنى أن يعطف عليه ما يلزمه سواء أو أحرى، كما لو قال قائل: من يعمل ذرة خيراً يره، ومن يعمل قيراطاً يره، لم يصلح عطفه عليه لإفادة الأول إياه، ولعل ذلك شيء وهل فيه واهل فسلك إثره من غير اعتبار لقوله- انتهى.
ولما نهاه عن عقوقهما تقديماً لما تدرأ به المفسدة، أمره ببرهما جلباً للمصلحة، فقال تعالى: {وقل لهما} أي بدل النهر وغيره {قولاً كريماً} أي حسناً جميلاً يرضاه الله ورسوله مع ما يظهر فيه من اللين والرقة والشفقة وجبر الخاطر وبسط النفس، كما يقتضيه حسن الأدب وجميل المروءة، ومن ذلك أنك لا تدعوهما بأسمائهما، بل بيا أبتاه ويا أمتاه- ونحو هذا {واخفض لهما} ولما كان الطائر يخفض جناحه عند الذل، استعار لتعطفه عليهما رعياً لحقوقهما قوله تعالى: {جناح الذل} أي جناح ذلّك، وبين المراد بقوله تعالى: {من الرحمة} أي لا من أجل امتثال الأمر والنواهي وما تقدم لهما من من أجل الرحمة لهما، بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وما تقدم لهما من الإحسان إليك، فصارا مفتقرين إليك وقد كنت أفقر خلق الله إليهما، حتى يصير ذلك خلقاً لازماً لك فإن النفس لأمارة بالسوء، وإن لم تقد إلى الخير بأنواع الإرغاب والإرهاب والإمعان في النظر في حقائق الأمور وعجائب المقدور، ولذلك أتبعه قوله تعالى آمراً بأن لا يكتفي برحمته التي لا بقاء لها، فإن ذلك لا يكافئ حقهما بل يطلب لهما الرحمة الباقية: {وقل رب} أي أيها المحسن إليّ بعطفهما عليّ حتى ربياني وكانا يقدماني على أنفسهما {ارحمهما} بكرمك برحمتك الباقية وجودك كما رحمتهما أنا برحمتي القاصرة مع بخلي وما فيّ من طبع اللوم {كما ربياني} برحمتهما لي {صغيراً} وهذا مخصوص بالمسلمين بآية {ما كان للنبي} لا منسوخ، ولقد أبلغ سبحانه في الإيصاء بهما حيث بدأه بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمه في سلكه، وختمه بالتضرع في نجاتهما، جزاء على فعلهما وشكراً لهما، وضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى شيء من امتهانهما، مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يدخل الصبر إليها في حد الاستطاعة إلا بتدريب كبير.
ولما كان ذلك عسراً جداً حذر من التهاون به بقوله تعالى: {ربكم} أي المحسن إليكم في الحقيقة، فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك {أعلم} أي منكم {بما في نفوسكم} من قصد البر بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن، فإن ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما {إن تكونوا} أي كوناً هو جبلة لكم {صالحين} أي متقين أو محسنين في نفس الأمر؛ والصلاح: استقامة الفعل على ما يدعو إليعه الدليل، وأشار إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بهد فرة بقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين} أي الرجاعين إلى الخير مرة إثر مرة بعد جماع أنفسهم عنه {غفوراً} أي بالغ الستر، تنبيهاً لمن وقع منه تقصير، فرجع عنه على أنه مغفور.

.تفسير الآيات (26- 29):

{وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}
ولما حث على الإحسان إليهما بالخصوص، عم بالأمر به لكل ذي رحم وغيره، فقال تعالى: {وءات ذا القربى} من جهة الأب أو الأم وإن بعد {حقه و} آت {المسكين} وإن لم يكن قريباً {وابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله لتكون متقياً محسناً.
ولما رغب في البذل، وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط، أتبع ذلك قوله تعالى: {ولا تبذر} بتفريق المال سرفاً، وهو بذله فيما لا ينبغي، وفي قوله: {تبذيراً} تنبيه على أن الارتقاء نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير؛ والتبذير: بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك، وقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التبذير فقال: إنفاق المال من غير حقه، وعن مجاهد رضي الله عنه: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً. ثم علل ذلك بقوله: {إن المبذرين} أي جبلة وطبعاً {كانوا} أي كوناً هم راسخون فيه {إخوان الشياطين} أي كلهم، البعيدين من الرحمة، المحترقين في اللعنة، فإن فعلهم فعل النار التي هي أغلب أجزائهم، وهو إحراق ما وصلت إليه لنفع وغير نفع، فإذا لم يجدوا أخذوا ما ليس لهم، والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم وتابع أمرهم: هو أخوهم.
ولما كان الاقتصاد أدعى إلى الشكر، والتبذير أقود إلى الكفر، قال تعالى: {وكان الشيطان} أي هذا الجنس البعيد من كل خير، المحترق من كل شر {لربه} أي الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته {كفوراً} أي ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة، ونعمه الباهرة، مع الحجة.
ولما أمر بما هو الأولى في حالة الوجدان، أمر بمثل ذلك حالة العدم، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه ينبغي أن يكون الإعراض عنهم في حيز الاستبعاد والاستنكار: {وإما تعرضن عنهم} أي عن جميع من تقدم ممن أمرت بالبذل له، لأمر اضطرك إلى ذلك لابد لك منه، لكونك لا تجد ما تعطيه، فأعرضت حياء لا لإرادة المنع، بل {ابتغاء} أي طلب {رحمة} أي إكرام وسعة {من ربك} الكثير الإحسان {ترجوها} فإذا أتتك واسيتهم فيها {فقل لهم} في حالة الإعراض {قولاً ميسوراً} أي ذا يسر يشرح صدورهم، ويبسط رجاءهم، لأن ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين الذين أنا معهم؛ قال أبو حيان: وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله- انتهى.
وقد وضع هنا الابتغاء موضع الفقر لأنه سببه، فوضع المسبب موضع السبب.
ولما أمر بالجود الذي هو لازم الكرم، نهى عن البخل الذي هو لازم اللوم، في سياق ينفر منه ومن الإسراف، فقال ممثلاً بادئاً بمثال الشح: {ولا تجعل يدك} بالبخل {مغلولة} أي كأنها بالمنع مشدودة بالغل {إلى عنقك} لا تستطيع مدها {ولا تبسطها} بالبذل {كل البسط} فتبذر {فتقعد} أي توجد كالمقعد، بالقبض {ملوماً} أي بليغ الرسوخ فيما تلام بسببه عند الله، لأن ذلك مما نهى عنه، وعند الناس، وبالبسط {محسوراً} منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به وانحساره عنك، وكل من الحالتين مجاوز لحد الاعتدال.