فصل: تفسير الآيات (77- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (77- 80):

{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}
ولما أخبره بذلك، أعلمه أنه سنته في جميع الرسل فقال تعالى: {سنة} أي كسنة أو سنتنا بك سنة {من قد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى: {قبلك} أي في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم بالعقوبة {ولا تجد لسنتنا} أي لما لها من العظمة {تحويلاً} أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفاً لهم بهذا النبي الكريم.
ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى: {أقم} أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه {الصلاة} بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس: دلكت الشمس: غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء. فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى: {إلى} حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق {غسق الّيل} فالغسق: ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع: وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني: ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى: {وقرءان} فكأنه قال: ثم نم وأقم قرآن {الفجر} إشارة إلى الصبح، وقيل: نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم.
ولما كان القيام من المنام صعباً، علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى: {إن قراءن الفجر كان مشهوداً} يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم {إن قرءان الفجر} الآية. قالوا: وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل؛ ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى: {ومن} أي وعليك بعض، أو قم بعض {الّيل فتهجد} أي اترك الهجود- وهو النوم- بالصلاة {به} أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن {نافلة لك} أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز: النوافل: الفواضل، ومن هذا يقولون: فلان ممن ترجى نوافله- انتهى. فهو زيادة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيباً للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟» إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل.
ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى: {عسى أن} أي لتكون بمنزلة الراجي لأن {يبعثك} ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى: {ربك} أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته {مقاماً} نصب على الظرف {محموداً} وذلك لأن {عسى} للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا: إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحداً في شيء ثم حرمه كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع! يا فلان اشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل، وله في التفسير وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» يعني- والله أعلم- الشفاعة الخاصة، وأما العامة فللكل بغير شرط.
ولما كان هذا المقام صالحاً للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كل مقام يحتاج إلى التوفيق في مباشرته والانفصال عنه، تلاه حاثاً على دوام المراقبة واستشعار الافتقار بقوله مقدماً المدخل لأنه أهم: {وقل رب} أي أيها الموجد لي، المدبر لأمري، المحسن إليّ {أدخلني} في كل مقام تريد إدخالي فيه حسي ومعنوي دنيا وأخرى {مدخل صدق} يستحق الداخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً {وأخرجني} من كل ما تخرجني منه {مخرج صدق}.
ولما كان الصدق في الأمور قد لا يقارنه الظفر، قال تعالى: {واجعل لي} أي خاصة {من لدنك} أي عندك من الخوارق التي هي أغرب الغريب {سلطاناً} أي حجة وعزاً {نصيراً} وفيه إشعار بالهجرة وأنها تكون على الوجه الذي كشف عنه الزمان من العظمة التي ما لأحد بها من يدان.

.تفسير الآيات (81- 85):

{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}
ولما كان الدعاء قد لا يستجاب، قال مبشراً له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إلا قوله، ومحققاً لتلك البشرى بالأمر بأن يخبر بها: {وقل} أي لأوليائك وأعدائك: {جاء الحق} وهو كل ما أمرني به ربي وأنزله إليّ {وزهق} أي اضمحل وبطل وهلك {الباطل} وهو كل ما خالفه؛ ثم علل زهوقه بقوله: {إن الباطل كان} في نفسه بجبلته وطبعه {زهوقاً} قضاء قضاه الله تعالى من الأزل؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}، {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} [سبأ: 49].
ولما كان القرآن الذي نوه به في آية {أقم الصلاة} هو السبب الأعظم في إزهاق الباطل الذي هو كالسحر خيال وتمويه، وهو الجامع لجميع ما مضى من الإلهيات والبعث وما تبع ذلك، قال عاطفاً على {ولقد كرمنا}: {وننزل} أي بعظمتنا؛ ثم بين المنزل بقوله تعالى: {من القرءان} أي الجامع الفارق الذي هو أحق الحق {ما هو شفاء} للقلوب والأبدان {ورحمة} أي إكرام وقوة {للمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، لإنارته لقلوبهم من صدإ الجهل، وحمله لهم على سبيل الرشد الذي هو سبب الرحمة، ولحراسته لهم من كل شيطان ومرض ومحنة إذا وقع الصدق في الاستشفاء به، هو كله كذلك وكذا جميع أبعاضه؛ قال الرازي في اللوامع: وهو أنس المحبين، وسلوة المشتاقين، وإنه النور المبين، الذي من استبصر به انكشف له من الحقائق ما كان مستوراً، وانطوى عنه من البوائق ما كان منشوراً، كما أن الباطل داء ونقمة للكافرين {و} من أعجب العجب أن هذا الشفاء {لا يزيد الظالمين} أي الراسخين في هذا الوصف، وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، بإعراضهم عما يجب قبوله {إلا خساراً} أي نقصاناً، لأنهم إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم، أعرضوا عنه، فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرانهم، كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال: ما جالس القرآن أحد فقام عنه بزيادة أو نقصان- ثم قرأ هذه الآية؛ ثم عطف على هذا المقدر المعلوم تقديره ما هو أعم منه وأبين في الفتنة والاجتراء فقال تعالى: {وإذا أنعمنا} أي بما لنا من العظمة {على الإنسان} أي هذا النوع هؤلاء وغيرهم بأيّ نعمة كانت، من إنزال القرآن وغيره {أعرض} أي عن ذكر المنعم كإعراض هؤلاء عند مجيء هذه النعمة التي لا نعمة مثلها {ونأ} أي تباعد تكبراً {بجانبه} بطراً وعمى عن الحقائق {وإذا مسه الشر} أي هذا النوع وإن قل {كان يئوساً} أي شديد اليأس هلعاً وقلة ثقة بما عنده من رحمة الله إلا من حفظه الله وشرفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان.
ولما كان المفرد المحلى باللام يعم، كان هذا ربما اقتضى من بعض المتعنتين اعتراضاً بأن يقال: إنا نرى بعض الإنسان إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وكان هذا الاعتراض ساقطاً لا يعبأ به، أما أولاً فلأنه قد تقدم الجواب عنه في سورة يونس عليه السلام في قوله تعالى: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} [يونس: 12] بأن هذا في المسرفين دون غيرهم، وبقوله تعالى في سورة هود عليه السلام {إلا الذين صبروا} [هود: 11] ولعله طواه في هذا المقام إشارة إلى أنه لقلة أفراده كأنه عدم، وأما ثانياً فلأن المحلى باللام سواء كان مفرداً أو جمعاً في قوة الجزئي حتى يرد ما يدل على أنه كلي، فلذلك أعرض تعالى عنه وأمره بالجواب عن القسمين المشار إليه والمنصوص عليه فقال تعالى: {قل} أي يا أشرف خلقنا! {كل} من الشاكر والكافر {يعمل على شاكلته} أي طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعنا عليه من خير أو شر {فربكم} أي فتسبب عن ذلك أن الذي خلقكم ودرجكم في أطوار النمو، لا غيره {أعلم} مطلقاً {بمن هو} منكم {أهدى سبيلاً} أي أرشد وأقوم من جهة المذهب بتقواه وإحسانه، فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب، ومن هو أضل سبيلاً، فيحل به العقاب، لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغرزه فيهم من الخلائق، وغيره إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة؛ وقد روى الإمام أحمد- لكن بسند منقطع- عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه» هذا كله الإعراض بالفعل، وإن كان بالقوة التزمنا أنها كلية، والله أعلم بالمهتدي فيحفظه من الإعراض واليأس بالفعل هو فيه بالقوة.
ولما بين سبحانه- بعد التعجيب من إنكارهم البعث- جهل الإنسان، وما هو عليه من الضلال والنسيان، إلا من فضله على أنباء نوعه كما فضل طينته على سائر الطين، وختم بآية المشاكلة التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض ومشاكلتها للطباع، وبان بذلك أنه سبحانه وتعالى قادر على فعل ما يشاء عالم بكل معلوم، رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل فقال تعالى عاطفاً على {وقالوا إذا كنا عظاماً}: {ويسئلونك} أي تعنتاً وامتحاناً {عن الروح} الذي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث ولو كانوا حجارة أو حديداً: ما هي؟ هل هي جسم أم لا؟ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن أم امتزاجه مبتدأ؟ وهل هي قديمة أم حادثة؟ ولما كان ذلك تعنتاً، مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده، أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم بقوله تعالى: {قل الروح} أي هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية {من أمر ربي} أضافها إلى الأمر وهو الإرادة وإن كانت من جملة خلقه، تشريفاً لها وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره، بل هو يبدعها من العدم، أو يقال- وهو أحسن: إن الخلق قسمان: ما كان بتسبيب وتنمية وتطوير، وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق، والثاني ما كان إخراجاً من العدم بلا تسبيب ولا تطوير، وهو المعبر عنه بالأمر، ومنه هذه الروح المسؤول عنها وكل روح في القرآن، وكذا ما هو للحفظ والتدبير كالأديان، والجامع لذلك القيومية كما مضى عن الحرالي عند روح القدس في البقرة، فأفادت هذه العبارة أنها محدثة، وأنها غير مطورة ولا مسببة، وهي جسم لطيف سار في البدن كماء الورد في الورد على الصحيح عند أهل السنة، وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدباً، لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم؛ ثم أتبعه التنبيه على جهلهم لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي وهو القرآن، وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس لقلة علمهم، ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم، وفيه أسئلة كثيرة جداً لا برهان على أجوبتها، منها أنه متحيز أم لا؟ وأنه مغاير للنفس أم لا؟ وهل تبقى بعد الموت أم لا؟ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه، فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة، وهي موجودة.
فالسكنجبين خاصيته قمع الصفراء، وحقيقة تلك الخاصية مجهولة، وهي معلومة الوجود، وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه ولا قريب منه، فقال تعالى دالاً على حدوثه بتغيره، فإنه يكون في المبدإ جاهلاً ثم يحدث له العلم شيئاً بعد شيء، وكل متغير حادث: {وما أوتيتم} أي من أيّ مؤت كان بعد أن كنتم لا تعلمون شيئاً {من العلم} أي مطلق هذه الحقيقة، فكيف بالمشكل منها {إلا قليلاً} ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم، لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين، فمن أجهل الجهل وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به، ويتوقف إثباته على أمور دقيقة، ومقدمات صعبة، وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين والدنيا، مع كونه في غاية الوضوح، لكثرة ما قام عليه من الأدلة، وله بحضرتكم من الأمثلة، والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق، فهو ينبهكم على عبثكم نصيحة لكم ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم رفقاً بكم، ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره، والخطاب لليهود والعرب، أما العرب فواضح، وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله؛ كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام في العصفور الذي نقر من البحر نقرة أو نقرتين، فحيث ورد تعظيم على أحد وتكثره فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق، وحيث ورد تقليله- كما في هذه الآية- فهو من حيث إضافته إلى علم الله تعالى، وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض، فإنه روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة، فسأله اليهود عن الروح فأوحى إليه، فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم- الآية.
وفي السيرة الهشامية والدلائل للبيهقي وتفسير البغوي وغيره من التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً أرسلت إلى اليهود قبل الهجرة تسألهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش، فأمروهم أن يسألوه عن الروح، وعن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث فيما يذكرون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، حتى أرجف به أهل مكة، وحتى حزن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، وروي أيضاً أن لبث الوحي كان أربعين ليلة. وروي: اثنتي عشرة ليلة، وفي مسند أبي يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، ونزلت {ويسئلونك} الآية. وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه، أو خشية أن يكون نسخ- أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب، وفيه مقنع، وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن هذا القرآن من عند الله، لا يقدر عليه غيره، لأنه لو كان قادراً على الإتيان بشيء منه من عند نفسه أو من عند أحد من الخلق لبذل جهده في ذلك، تنزيهاً لنفسه الشريفة، وهمته المنيفة، وعرضه الطاهر، عن مثل ما خاضوا فيه بسبب إخلاف موعدهم.
ولما كانت الروح من عالم الأمر الذي هو من سر الملكوت، ضمت إلى سورة الإسراء الذي هو من أبطن سر الملكوت لاسيما بما علا به من المعراج الذي جعل لغرابته كالرؤيا {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين، لأنهما من عالم الملك، وسيأتي بقية الكلام على هذا في سورة الكهف إن شاء الله تعالى.