فصل: تفسير الآيات (18- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 19):

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}
ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال: {وتحسبهم أيقاظاً} لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها، ولكثرة حركاتهم {وهم رقود ونقلبهم} بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات} أي في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث {وكلبهم باسط} وأعمل اسم الفاعل هذا، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال: {ذراعيه بالوصيد} أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد.
ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} وهم على تلك الحال {لوليت منهم فراراً} أي حال وقوع بصرك عليهم {ولملئت} في أقل وقت بأيسر أمر {منهم رعباً} لما ألبسهم الله من الهيبة، وجعل لهم من الجلالة، وتدبيراً منه لما أراد منهم {وكذلك} أي فعلنا بهم هذا من آياتنا من النوم وغيره، ومثل ما فعلناه بهم {بعثناهم} بما لنا من العظمة {ليتساءلوا} وأظهر بالافتعال إشارة إلى أنه في غاية الظهور. ولما كان المراد تساؤلا عن أخبار لا تعدوهم قال تعالى: {بينهم} أي عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيزدادوا إيماناً، وثباتاً وإيقاناً، بما ينكشف لهم من الأمور العجيبة، والأحوال الغريبة فيعلم أنه لا علم لأحد غيرنا، ولا قدرة لأحد سوانا، وأن قدرتنا تامة، وعلمنا شامل، فليعلم ذلك من أنكر قدرتنا على البعث وسأل اليهود البعداء البغضاء عن نبيه الحبيب الذي أتاهم بالآيات، وأراهم البينات، فإن كانوا يستنحصون اليهود فليسألوهم عما قصصنا من هذه القصة، فإن اعترفوا به لزمهم جميعاً الإيمان والرجوع عن الغي والعدوان، وإن لم يؤمنوا علم قطعاً أنه لا يؤمن من أردنا هدايته بالآيات البينات كأهل الكهف وغيرهم، لا بإنزال الآيات المقترحات.
ولما كان المقام مقتضياً لأن يقال: ما كان تساؤلهم؟ أجيب بقوله تعالى: {قال قائل منهم} مستفهماً من إخوانه: {كم لبثتم} نائمين في هذا الكهف من ليلة أو يوم، وهذا يدل على أن هذا القائل استشعر طول لبثهم بما رأى من هيئتهم أو لغير ذلك من الأمارات؛ ثم وصل به في ذلك الأسلوب أيضاً قوله تعالى: {قالوا لبثنا يوماً} ودل على أن هذا الجواب مبني على الظن بقوله دالاً حيث أقرهم عليه سبحانه على جواز الاجتهاد والقول بالظن المخطئ، وأنه لا يسمى كذباً وإن كان مخالفاً للواقع {أو بعض يوم} كما تظنون أنتم عند قيامكم من القبور إن لبثتم إلا قليلاً، لأنه فرق بين صديق وزنديق في الجهل بما غيبه الله تعالى: فكأنه قيل: على أي شيء استقر أمرهم في ذلك؟ فأجيب بأنهم ردوا الأمر إلى الله بقوله: {قالوا} أي قال بعضهم إنكاراً على أنفسهم ووافق الباقون بما عندهم من التحاب في الله والتوافق فيه في الحقيقة إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا {ربكم} المحسن إليكم {أعلم} أي من كل أحد {بما لبثتم فابعثوا} أي فتسبب عن إسناد العلم إلى الله تعالى أن يقال: اتركوا الخوض في هذا واشتغلوا بما ينفعكم بأن تبعثوا {أحدكم بورقكم} أي فضتكم {هذه} التي جمعتموها لمثل هذا {إلى المدينة} التي خرجتم منها وهي طرطوس ليأتينا بطعان فإنا جياع {فلينظر أيها} أي أي أهلها {أزكى} أي أطهر وأطيب {طعاماً فليأتكم} ذلك الأحد {برزق منه} لنأكل {وليتلطف} في التخفي بأمره حتى لا يتفطنوا له {ولا يشعرن} أي هذا المبعوث منكم في هذا الأمر {بكم أحداً} أن فطنوا له فقبضوا عليه، وإن المعنى: لا يقولن ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بكم فيكون قد أشعر بما كان منه من السبب، وفي قصتهم دليل على أن حمل المسافر ما يصلحه من المنفعة رأى المتوكلين لا المتآكلين المتكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات، وفيها صحة الوكالة؛ ومادة: ورق بجميع تراكيبها الخمسة عشر قد تقدم في سورة سبحان وغيرها أنها تدور على الجمع، فالورق مثلثة وككتف وجبل: الدراهم المضروبة- تشبيهاً بالورق في الشكل وفي الجمال، وبها جمع حال الإنسان، وحالها مقتض للجمع، والورّاق: الكثير الدراهم وهو أيضاً مورّق الكتب، وحرفته الوراقة، وما زلت منك موارقاً، أي قريباً مدانياً- أي كالذي يساجلك في قطاف الورق من شجرة واحدة فهو يأخذ من ناحية وأنت من أخرى، والمداناة: أول الجمع والورق- محركة: جمال الدنيا وبهجتها- لأنها تجمع ألواناً وأنواعاً، ولعل منه الورقة، قال في مختصر العين: إنها سواد في غبرة.
وحمامة ورقاء- أي منه، وفي القاموس: والأورق من الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد، ورأى رجل الغول على جمل أورق فقال: جاء بأم الربيق على أريق، أي بالداهية العظيمة، صغر الأورق كسويد في أسود، والأصل وريق فقلبت واوه همزة، والأورق أيضاً من الكتاب والشجر معروف- لأنك لا تكاد تحد واحدة منه على لون واحد، ولأنه يجمع الواحدة منه إلى الأخرى ويجمع معنى ما يحمله، قال في مختصر العين: والورق: أدم رقاق منه ورق المصحف، والورق أيضاً: الخبط- لأنه لما كانت الإبل تعلفه كان كأنه هو الورق لا غيره، والورق: الحي من كل حيوان- لأن الحياة هي الجمال، وبها جماع الأمور، ولأن الورق دليل على حياة الحي من الشجر، فهو من إطلاق اسم الدال على المدلول، والورق أيضاً: ما استدار من الدم على الأرض، أو ما سقط اسم من الجراحة- لأن الاستدارة أجمع الأشكال، وهو تشبيه بورق الشجر في الشكل، والورق: المال من إبل ودراهم وغيرها- لأن جماع حياة الإنسان وكمالها بذلك كما أن كمال حياة الشجر بالورق، ولرعي المال من الحيوان الورق، والورق: حسن القوم وجمالهم- من ذلك، لأنه يجمع أمرهم ويجمع إليهم غيرهم، والورق من القوم: أحداثهم أو الضعاف من الفتيان- تشبيه بالورق لأنه لا يقيم غالباً أكثر من عام، ولأنه ضعيف في نفسه، وضعيف النفع بالنسبة إلى الثمر، والورقة- بهاء: الخسيس والكريم، ضد- للنظر تارة إلى كونه نافعاً للمرعى ودالاً على الحياة، وإلى كونه غير مقصود بالذات أخرى، ورجل ورق وامرأة ورقة: خسيسان أي لا ثمرة لهما، ومن ذلك أورق الصائد- إذا رمى فأخطأ أي لم يقع على غير الورق، أي لم تحصل له ثمرة، بل وقع على شجرة غير مثمرة، وكذا أورق القوم: أخفقوا في حاجتهم، أي رجعوا بلا ثمرة، ومن ذلك أيضاً أورقوا: كثر مالهم ودراهمهم- ضد، هذا بالنظر إلى أن في الورق جمال الشجر وحياته، والتجارة مؤرقة للمال كمجلبة أي مكثرة؛ ومنه قول القزاز في ديوانه: هذا رجل مؤرق له دراهم، والمؤرق: الذي لا شيء له- ضد، أو أنه تارة يكون للإيجاب والصيرورة نحو أغدّ البعير، وتارة للسلب نحو أشكيته، والوراق ككتاب: وقت خروج الورق من الشجر، وشجرة وريقة وورقة: كثيرة الورق، والوارقة: الشجرة الخضراء الورق الحسنته، والوراق- كسحاب: خضرة الأرض من الحشيش، وليس من الورق في شيء، وذلك أن تلك الخضرة لا تخلو عن لون آخر، والرقة- كعدة: أول نبات النصي والصليان وهما نباتان أفضل مراعي الإبل، لأنهما سبب لجمع المال للرعي، والرقة: الأرض التي يصيبها المطر في الصفرية- أي أول الخريف- أو في القيظ فتنبت فتكون خضراء- كأن ذلك النبات يكون أقل خضرة من نبات الربيع، ويكون اختلاطه لغيره من الألوان أكثر مما في الربيع، وفي القوس ورقة- بالفتح: عيب، والورقاء: الذئبة- من أجل أن الورق الخالي عن الثمر تقل الرغبة في شجره وهو دون المثمر، ولأن الورق مختلط اللون، والاختلاط في كل شيء عيب بالنسبة إلى الخالص، وتورقت الناقة: أكلت الورق.
وقار الرجل يقور: مشى على أطراف قدميه لئلا يسمع صوتهما- لأن فاعل ذلك جدير بالوصول إلى ما أراد مما يجمع شمله، ومنه قار الصيد: ختله- لأن أهل الخداع أولى بالظفر، ألا ترى الأسود تصاد به، ولو غولبت عز أخذها، وقار الشيء: قطعه من وسطه خرقاً مستديراً كقوّره- لأن الثوب يصير بذلك الخرق يجمع ما يراد منه، والاستدارة أجمع الأشكال كما سلف، والقوارة- كثمامة: ما قور الثوب وغيره، أو يخص بالأديم، وما قطعت من جوانب الشيء، والشيء الذي قطع من جوانبه- ضد، وهو من تسميه موضع الشيء باسمه، والقارة: الجبل الصغير الصلب المنقطع عن الجبال- لشدة اجتماع أجزائه بالصلابة واجتماعه في نفسه بانقطاعه عن غيره مما لو خالطه لفرقه، ولم يعرف حد على ما هو، والقارة: الصخرة العظيمة، والأرض ذات الحجارة السود- لاجتماعها في نفسها بتميزها عن غيرها بتلك الحجارة، ودار قوراء: واسعة- تشبيهاً بقوارة الثواب، ولأنها كلما اتسعت كانت أجمع، والقار: الإبل أو القطيع الضخم منها، والاقورار: تشنج الجلد وانحناء الصلب هزالاً وكبراً- لأن كلاًّ من التشنج والانحناء اجتماع، والاقورار: الضمر- لأن الضامر اجتمعت أجزاؤه، والاقورار: السمن- ضد، لأن السمين جمع اللحم والشحم، والاقورار: ذهاب نبات الأرض- لأنها تصير بذلك قوراء فتصير أجدر بأن تسع الجموع، ويمكن أن يكون الأقورار كله من السلب إلا ما للسمن، والقور: القطن الحديث أو ما رزع من عامة لأنه يلبس فيجمع البدن، ولقيت منه الأقورين- بكسر الراء، والأقوريات أي الدواهي القاطعة- تشبيهاً بما قور من الثوب، فهي للسلب، والقور- محركة: العين- لأن محلها يشبه القوارة، والمقور- كمعظم: المطلي بالقطران- لاجتماع أجزائه بذلك، واقتار: احتاج، أي صار أهلاً لأن يجمع، وتقور الليل: تهور، أي مضى، من القطع، وتقورت الحية: تثنت أي تجمعت، والقار: شجر مر- كأنه الذي تطلى به السفن، وهذا أقير من هذا: أشد مرارة- لأن المرارة تجمع اللهوات عند الذوق، والقارة قبيلة- لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم فقال شاعرهم:
دعونا قارة لا تذعرونا ** فنجفل مثل إجفال الظليم

فسموا القارة بهذا وكانوا رماة، وفي المثل: قد أنصف القارة من راماها.
والرقوة: فويق الدعص من الرمل، ويقال رقو، بلا هاء- كأنه لجمعه الكثير من الرمل، أو لجمعه من يطلب الإشراف على الأماكن البعيدة بالعلو عليه لترويح النفس- والله الموفق.

.تفسير الآيات (20- 21):

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
ولما نهوا رسولهم عن الإشعار بهم عللوا ذلك فقالوا: {إنهم} أي أهل المدينة {إن يظهروا} أي يطلعوا عالين {عليكم يرجموكم} أي يقتلوكم أخبث قتله إن استمسكتم بدينكم {أو يعيدوكم} قهراً {في ملتهم} إن لنتم لهم {ولن تفلحوا إذاً} أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة {أبداً} أي فبعثوا أحدهم فنظر الأزكى وتلطف في الأمر، فاسترابوا منه لأنهم أنكروا ورقه لكونها من ضرب ملك لا يعرفونه فجهدوا به فلم يشعر بهم أحداً من المخالفين، وإنما أشعر بهم الملك لما رآه موافقاً لهم في الدين لأنه لم يقع النهي عنه {وكذلك} أي فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم، والستر لأخبارهم والحماية من الظالمين والحفظ لأجسامهم على مر الزمان، وتعاقب الحدثان، ومثل ما فعلنا بهم ذلك {أعثرنا} أي أظهرنا إظهار أضطرارياً، أهل البلد وأطلعناهم، وأصله أن الغافل عن الشيء ينظر إليه إذا عثر به نظر إليه فيعرفه، فكان العثار سبباً لعلمه به فأطلق اسم السبب على المسبب {عليهم ليعلموا} أي أهل البلد بعد أن كان حصل لبعضهم شك في حشر الأجساد لأن اعتقاد اليهود والنصارى أن البعث إنما هو للروح فقط {أن وعد الله} الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجسد معاً {حق} لأن قيامهم بعد نومهم نيفاً وثلاثمائة سنة مع خرق العادة بحفظ أبدانهم عن الفناء من غير أكل ولا شرب مثل قيام من مات بجسمه الذي كان سواء على أن مطلق النوم دال على ذلك كما قال بعض العارفين «علمك باليقظة بعد النوم علم بالبعث بعد الموت، والبرزخ واحد غير أن للروح بالجسم في النوم تعلقاً لا يكون بالموت، وتستيقظ على ما نمت عليه كذلك تبعث على ما مت عليه».
ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى: {وأن} أي وليعلموا أن {الساعة لا ريب فيها} مبيناً أنها ليست موضع شك أصلاً لما قام عليها من أدلة العقل، المؤيد في كل عصر بقواطع النقل، ومن طالع تفسير الزيتون من كتابي هذا حصل له هذا ذوقاً؛ ثم بين أن هذا الإعثار أتاهم بعلم نافع حال تجاذب وتنازع فقال: {إذ} أي ليعلموا ذلك، وأعثرنا حين {يتنازعون} أي أهل المدينة.
ولما كان التنازع في الغالب إنما يكون ما بين الأجانب، وكان تنازع هؤلاء مقصوراً عليهم كان الأهم بيان محله فقدمه فقال تعالى: {بينهم أمرهم} أي أمر أنفسهم في الحشر فقائل يقول: تحشر الأرواح مجردة: وقائل يقول: بأجسادها، أو أمر الفتية فقائل يقول: ناس صالحون، وناس يقولون: لا ندري من أمرهم غير أن الله تعالى أراد هدايتنا بهم {فقالوا} أي فتسبب عن هذا الإعثار أو التنازع أن قال أكثرهم: {ابنوا عليهم} على كل حال {بنياناً} يحفظهم، واتركوا التنازع فيهم، ثم عللوا ذلك بقولهم: {ربهم} أي المحسن إليهم بهدايتهم وحفظهم وهداية الناس بهم {أعلم بهم} أن كانوا صالحين أو لا، وأما أنتم فلا طريق لكم إلى علم ذلك؛ ثم استأنف على طريق الجواب لمن كأنه قال: ماذا فعلوا؟ فقال: {قال الذين غلبوا على} أي وقع أن كانوا غالبين على {أمرهم} أي ظهروا عليه وعلموا أنهم ناس صالحون فروا بدينهم من الكفار وضعف من ينازعهم؛ ويجوز- وهو أحسن- أن يكون الضمير لأهل البلد أو للغالبين أنفسهم، إشارة إلى أن الرؤساء منهم وأهل القوة كانوا أصلحهم إيماء إلى أن الله تعالى أصلح بهم أهل ذلك الزمان {لنتخذن عليهم} ذلك البنيان الذي اتفقنا عليه {مسجداً} وهذا دليل على أنهم حين ظهروا عليهم وكلموهم أماتهم الله بعد أن علموا أن لهم مدة طويلة لا يعيش مثلها أحد في ذلك الزمان، وقبل أن يستقصوا جميع أمرهم، وفي قصتهم ترغيب في الهجرة.

.تفسير الآيات (22- 24):

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}
ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى: {سيقولون} أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من نبأهم بوعد لا خلف فيه: هم {ثلاثة} أشخاص {رابعهم كلبهم} ولا علم لهم بذلك، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنهم ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً {ويقولون} أي وسيقولون أيضاً: {خمسة سادسهم كلبهم}.
ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى: {رجماً بالغيب} أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه {ويقولون} أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك: {سبعة وثامنهم كلبهم} وتأخير هذا عن الرجم- وإن كان ظناً- مشعر بأنه حق، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو {إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4] فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، وفي براءة، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها. فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل: ماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل ربي} أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره {أعلم بعدتهم} أي التي لا زيادة فيها ولا نقص، فكان كأنه قيل: قد فهم من صيغة {أعلم} أم من الخلق من يعلم أمرهم فقيل: {ما يعلمهم إلا قليل} أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب، وهو، قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول: أنا من ذلك القليل. {فلا} أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم: لا {تمار} أي تجادل وتراجع {فيهم} أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به {إلا مرآء ظاهراً} أدلته، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فعلهم من الرجم بالغيب {ولا تستفت} أي تسأل سؤال مستفيد {فيهم} أي أهل الكهف {منهم} أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم {أحداً}.
ولما كان نهيه عن استفتائهم موجباً لقصر همته على ربه سبحانه فكان من المعلوم أنه إذا سئل عن شيء، التفتت نفسه إلى تعرفه من قبله، فربما قال لما يعلم من إحاطة علم الله سبحانه وكرمه لديه: سأخبركم به غداً، كما وقع من هذه القصص، علمه الله ما يقول في كل أمر مستقبل يعزم عليه بقوله تعالى: {ولا تقولن لشيءٍ} أي لأجل شيء من الأشياء التي يعزم عليها جليلها وحقيرها، عزمت على فعله: عزماً صادقاً من غير تردد وإن كنت عند نفسك في غاية القدرة عليه: {إني فاعل ذلك} أي الشيء وإن كان مهماً {غداً} أي فيما يستقبل في حال من الأحوال {إلا} قولاً كائناً معه {أن يشاء} في المستقبل ذلك الشيء {الله} أي مقروناً بمشيئة الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه سبحانه تعظيماً لله أن يقطع شيء دونه واعترافاً بأنه لا حول ولا قوة إلا به، ولأنه إن قيل ذلك دون استثناء فات قبل الفعل أو عاقه عنه عائق كان كذباً منفراً عن القائل.
ولما كان النسيان من شأن الإنسان وهو غير مؤاخذ به قال تعالى: {واذكر ربك} أي المحسن إليك برفع المؤاخذة حال النسيان {إذا نسيت} الاستثناء بالاستعانة والتوكل عليه وتفويض الأمر كله بأن تقول: إن شاء الله، ونحوها في أيّ وقت تذكرت؛ وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط في ترجمة محمد بن الحارث الجبيلي- بضم الجيم وفتح الموحدة- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين. ثم عطف على ما أفهمه الكلام وهو: فقل إذا نسيت: إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله- ونحو ذلك من التعليق بالمشيئة المؤذن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا مشيئة لأحد معه قوله: {وقل عسى أن يهدين ربي} أي المحسن إليّ {لأقرب} أي الى أشد قرباً {من هذا} أي الذي عزمت على فعله ونسيت الاستثناء فيه فقضاه الله ولم يؤاخذني، أو فاتني أو تعسر عليّ لكوني لم أقرن العزم عليه بذكر الله {رشداً} أي من جهة الرشد بأن يوفقني للاستثناء فيه عند العزم عليه مع كونه أجود أثراً وأجل عنصراً فأكون كل يوم في ترق بالأفعال الصالحة في معارج القدس، وأقرب أفعل تفضيل من قرب- بضم الراء- من الشيء، لازم، لا من المكسور الراء المتعدي نحو {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء: 32] {ولا تقربوا مال اليتيم} [الإسراء: 34] الآية، والأقرب من رشد الاستدلال بقصة أهل الكهف التي الحديث عنها على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحو ذلك الاستدلال على وحدانية الصانع وقدرته على البعث وغيره بالأمور الكلية أو الجزئيات القريبة المتكررة، لا بهذا الأمر الجزئي النادر المتعب ونحو هذا من المعارف الإلهية.