فصل: تفسير الآيات (38- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (38- 41):

{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}
ولما أنكر على صاحبه، أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه: {لكنا} لكن أنا. ولما كان سبحانه لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه، أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال تعالى: {هو} أي الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً، ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك {الله} أي المحيط بصفات الكمال {ربي} وحده، لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره، هذا اعتقادي في الماضي والحال {ولا أشرك بربي} المحسن إليّ في عبادتي {أحداً} كما لم يشاركه في إحسانه إليّ أحد، فإن الكل خلقه وعبيده، وأنى يكون العبد شريكاً للرب! فإني لا أرى الغنى والفقر إلا منه، وأنت- لما اعتمدت على مالك- كنت مشركاً به.
ولما كان المؤمنون على طريق الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبيل النجاة وعدم الحقد على أحد بشر أسلفه وجهل قدمه، قال له مصرحاً بالتعليم بعد أن لوح له به فيما ذكره عن نفسه مما يجب عليه: {ولولا إذ} أي وهلا حين {دخلت جنتك قلت} ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى كما تقدم الإرشاد إليه في آية {ولا تقولن لشي} [الكهف: 23] تاركاً للافتخار بها، ومستحضراً لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه بالزوال {ما شاء الله} أي الذي له الأمر كله، كان، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً، ولذلك أعراها عن الجواب، لا ما يشاؤه غيره ولا يشاؤه هو سبحانه؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: {لا قوة} أي لأحد على بستان وغيره {إلا بالله} أي المتوحد بالكمال، فلا شريك له، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله وبراءة العبد منها، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره، فلا يخاف من غيره، والتنبيه على فساد قول الفلاسفة في الطبائع من أنها مؤثرة بنفسها.
ولما قدم ما يجب عليه في نفسه منبهاً به لصاحبه، ثم ما يجب عليه من التصريح بالإرشاد في أسلوب مقرر أن الأمر كله لله، لا شيء لأحد غيره، أنتج قوله تعالى: {إن ترن} أي أيها المفتخر بما له عليّ! {أنا} ولما ذكر ضمير الفصل، ذكر مفعول (ترى) الثاني فقال: {أقل منك} وميز القليل بقوله: {مالاً وولداً} أي من جهة المال والولد الذي هو أعز نفر الإنسان.
ولما أقر هذا المؤمن بالعجز والافتقار، في نظير ما أبدى الكافر من التقوى والافتخار، سبب عن ذلك ما جرت به العادة في كل جزاء، داعياً بصورة التوقع فقال تعالى: {فعسى ربي} المحسن إليّ {أن يؤتين} من خزائن رزقه {خيراً من جنتك} فيحسن إليّ بالغنى كما أحسن إليّ بالفقر المقترن بالتوحيد، المنتج للسعادة {ويرسل عليها} أي جنتك {حسباناً} أي مرامي من الصواعق والبرد الشديد {من السماء}.
ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى ما يكون، قال تعالى: {فتصبح} بعد كونها قرة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع {صعيداً زلقاً} أي أرضاً يزلق عليها لملاستها باستئصال نباتها، فلا ينبت فيها نبات، ولا يثبت فيها قدم {أو يصبح ماؤها غوراً} وصف بالمصدر لأنه أبلغ {فلن تستطيع} أنت {له طلباً}.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}
ولما كان من المعلوم أن هذا المؤمن المخلص بعين الرضى، كان من المعلوم أن التقدير: فاستجيب لهذا الرجل المؤمن، أو: فحقق له ما توقعه فخيب ظن المشرك، فعطف عليه قوله: {وأحيط} أي أوقعت الإحاطة بالهلاك، بني للمفعول لأن الفكر حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص، وللدلالة على سهولته {بثمرة} أي الرجل المشرك، كله فاستؤصل هلاكاً ما في السهل منه وما في الجبل، وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر {فأصبح يقلب كفيه} ندماً، ويضرب إحداهما على الأخرى تحسراً {على ما أنفق فيها} لعمارتها ونمائها {وهي خاوية} أي ساقطة مع الخلو {على عروشها} أي دعائمها التي كانت تحملها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها {ويقول} تمنياً لرد ما فات لحيرته وذهول عقله ودهشته: {يا ليتني} تمنياً لاعتماده على الله من غير إشراك بالاعتماد على الفاني {لم أشرك بربي أحداً} كما قال له صاحبه، فندم حيث لم ينفعه الندم على ما فرط في الماضي لأجل ما فاته من الدنيا، لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى، لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدات {ولم تكن له فئة} أي جماعة لا من نفره الذين اعتز بهم ولا من غيرهم {ينصرونه} مما وقع فيه {من دون الله} أي بغير عون من الملك الأعظم {وما كان} هو {منتصراً} بنفسه، بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده.
ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم، ولإغنائهم بعد فقرهم، ولإذلال أعدائه بعد عزهم وكبرهم، وإفقارهم بعد إغنائهم وجبرهم، وأن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرح بذلك في قوله تعالى: {هنالك} أي في مثل هذه الشدائد العظيمة {الولاية} أي النصرة- على قراءة الفتح، والسلطان- على الكسر، وهي قراءة حمزة والكسائي، والفتح لغيرهما، وهما بمعنى واحد، وهو المصدر كما صدر به في القاموس. {لله} أي الذي له الكمال كله {الحق} أي الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول، ولا يغفل ساعة ولا ينام، ولا ولاية لغيره بوجه- هذا على قراءة الجماعة بالجر على الوصف وهو في قراءة أبي عمرو والكسائي بالرفع على الاستئناف والقطع تقليلاً، تنبيهاً على أن فزعهم في مثل هذه الأزمات إليه دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل، وأن الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأن المؤمنين لا يعيبهم فقرهم ولا يسوغ طردهم لأجله، وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوة. ولما علم من ذلك من أنه آخذ بأيدي عبيدة الأبرار وعلى أيدي عصاته الأشرار، قال تعالى: {هو خير ثواباً} لمن أثابه {وخير عقباً} أي عاقبة عظيمة، فإن فعلا- بضمه وبضمتين- من صيغ جموع الكثرة فيفيده ذلك مبالغة وإن لم يكن جمعاً، والمعنى أنه أي ثوابه لأوليائه خير ثواب وعقباه خير عقبى.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}
ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى: {واضرب لهم} أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر {مثل الحياة الدنيا} أي التي صفتها- التي هم بها ناطقون- تدل على أن ضدها الأخرى، في ينوعها ونضرتها، واختلابها للنفوس ببهجتها، واستيلائها على الأهواء بزهرتها، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها، أفرح ما كانوا بها، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى، على مر الأيام وكر الشهور، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن، والكيس الفطن، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره، ويبقى نعيمه وحبوره، وذلك المثل {كماء أنزلناه} بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله، وقال: {من السماء} تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع {فاختلط} أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط {به نبات الأرض} أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه {فأصبح هشيماً} أي يابساً مكسراً مفتتاً {تذروه} أي تثيره وتفرقه وتذهب به {الرياح} حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن {وكان الله} أي المختص بصفات الكمال {على كل شيء} من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة {مقتدراً} أزلاً وأبداً، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث.
ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا- التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب- سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، مع كثرة الأنكاد، ودوام الأكدار، من الكد والتعب، والخوف والنصب كالزرع سواء، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره، قال تعالى: {المال والبنون} الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها {زينة الحياة الدنيا} التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره، وسوء حياته وضرره {والباقيات الصالحات} وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} [الكهف: 7] وما بعده {خير} أي من الزينة الفانية. ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال: {عند ربك} أي الجليل المواهب، العالم بالعواقب، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل {ثواباً وخير} من ذلك كله {أملاً} أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل، لأن ثوابها إلى بقاء، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما.
ولما ذكر المبدأ ونبه على زواله، وختم بأن المقصود منه الاختبار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب، وكان الخزي والصغار، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار، لاسيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق، فهو بالحقيقة المشهود، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب، عقب ذكر الجزاء ذكره، لأنه أعظم يوم يظهر فيه، فقال تعالى عاطفاً على {واضرب}: {ويوم} أي واذكر لهم يوم {نسير الجبال} عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض- بعد أن صار هشمياً- بالرياح {فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} [النحل: 88] {وترى الأرض} بكمالها {بارزة} لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل {و} الحال أنا قد {حشرناهم} أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت، وتظهر الفضائح والمغيبات، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير، والنافذ فيه بصير، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها {فلم نغادر} أي نترك بما لنا من العظمة {منهم} أي الأولين والآخرين {أحداً} لأنه لا ذهول ولا عجز.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}
ولما ذكر سبحانه حشرهم، وكان من المعلوم أنه للعرض، ذكر كيفية ذلك العرض، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين: {وعرضوا على ربك} أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك {صفاً} لاتساع والمسايقة إلى داره، لعرض أذل شيء وأصغره، وأطوعه وأحقره، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة: {لقد جئتمونا} أحياء سويين حفاة عراة غرلاً {كما خلقناكم} بتلك العظمة {أول مرة} منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] فيقال لكم: {بل زعمتم} أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا {أن} أي أنا {لن نجعل لكم} على ما لنا من العظمة {موعداً} أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل {ووضع} بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارئ ولا غيره شيء منه {فترى المجرمين} لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها {مشفقين مما فيه} من قبائح أعمالهم، وسيئ أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق {ويقولون} أي يجددون ويكررون قولهم: {ياويلتنا} كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم: {لا يغادر} أي يترك أي يقع منه غدر، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء: تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر، أي عدم الوفاء به، من الغدير- لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي {صغيرة} أي من أعمالنا.
ولما هالهم إثبات جميع الصغائر، بدؤوا بها، وصرحوا بالكبائر- وإن كان إثبات الصغائر يفهمها- تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر- كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه- فقالوا: {ولا كبيرة إلا أحصاها} ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه، نفى ذلك بقوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً} كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه {ولا يظلم ربك} الذي رباك بخلق القرآن {أحداً} منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب، بل يجازى الأعداء بما يستحقون، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، قلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «يحشر الله عز وجل الناس- أو قال: العباد- حفاة عراة بهما قلت: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات».
ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه، أتبعه- بما له من الفضل- بابتداء الخلق الذي هو دليله، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم، فكان فعلهم فعله سواء، فكان قدوتهم وهو عدوهم، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به، فقال تعالى عاطفاً على {واضرب}: {وإذ} أي واذكر لهم إذ {قلنا} بما لنا من العظمة {للملائكة} الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم، قال ابن كثير: وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة {اسجدوا لآدم} أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها {فسجدوا} كلهم {إلا إبليس} فكأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: {كان} أي لأنه كان {من الجن} المخلوقين من نار، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور، مع ما كان غلب عليه من العبادة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان- وفي رواية: إبليس- من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة.
ولما كان أكثر الجن مفسداً، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها، المفسدة له، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى: {ففسق} أي خرج، يقال: فسقت الفأرة من حجرها- إذا خرجت للعيث والفساد. {عن أمر ربه} أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه، وغير ذلك من اصطناعه، في شأن أبيكم، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد: {أفتتخذونه} أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه {وذريته} شركاء لي {أولياء} لكم {من دوني} أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة، ولو كان المعنى: من دون- أي غير- اتخاذي، لأفاد الاستقلال فقط، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً، وأنا وليكم المفضل عليكم {وهم لكم} ولما كان بناء فعول للمبالغة ولاسيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول، أغنى عن صيغة الجمع فقال: {عدو} إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد. ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم، وصل به قوله تعالى: {بئس} وكان الأصل: لكم، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى: {للظالمين بدلاً} إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي.