فصل: تفسير الآيات (51- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 52):

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}
ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به، قال معللاً للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة، عادلاً في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في {دوني} لذلك: {ما أشهدتهم} أي إبليس وذريته {خلق السماوات والأرض} نوعاً من أنواع الإشهاد {ولا خلق أنفسهم} إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكاً لخالقه أصلاً {وما كنت} أي أزلاً وأبداً متخذهم، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشاداً إلى أن المضل لا يستعان به، لأنه مع عدم نفعه يضر، فقال تعالى: {متخذ المضلين عضداً} إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام أحد، فإن من علم الله فيه خيراً أسمعه، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلاً لنصرة الدين.
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فقال تعالى عاطفاً على {إذ قلنا} عادلاً إلى مقام الغيبة، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى: {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا} [الكهف: 48] في حجب الجلال والكبرياء، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة: {ويوم} أي واذكر يوم {يقول} الله لهم تهكماً بهم: {نادوا شركاءي} وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركاء {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم.
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم، قال في مظهر العظمة: {وجعلنا بينهم} أي المشركين والشركاء {موبقاً} أي هلاكاً أو موضع هلاك، فاصلاً حائلاً بينهم، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً، لا يشذ عنه منهم أحد، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى: {فزيلنا بينهم} [يونس: 28] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة، ومثل قوله تعالى: {ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار} [الأعراف: 38] {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] ونحوه، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} [العنكبوت: 25] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وقال الحسن البصري: عداوة.
وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق- يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة، ولها أحد عشر تركيباً: واحد يائي: بقي، وستة واوية: قبو، قوب، بقو، بوق، وقب، وبق، وأربعة مهموزة: قبأ، قأب، بأق، أبق- كلها تدور على الجمع، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً، وبالقوة إن كان غيره، يقال: قبل الشيء: جمعه بأصابعه، والبناء: رفعه، والزعفران: جناه، والقبا- بالقصر: نبت- لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً، والقبا: تقويس الشيء- لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض، والقبوة: انضمام ما بين الشفتين، ومنه القباء من الثياب، وقباه تقبية: عباه، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو، وقبى عليه تقبية: عدا عليه في أمره- لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة، والثوب: جعل منه قباء، وتقبى القباء: لبسه، وزيداً: أتاه من قفاه- لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة، وتقبى الشيء: صار كالقبة، وامرأة قابية: تلقط العصفر وتجمعه، والقابياء: اللئيم- لأنه بناء مبالغة، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم، وبنو قابياء: المجتمعون لشرب الخمر- لأنها حالة تظهر لؤم اللئام، وقباء- بالضم ويذكر ويقصر- موضع قرب المدينة الشريفة، وموضع بين مكة والبصرة، وانقبى: استخفى، وقبى قوسين وقباء قوسين- ككساء: قاب قوسين، والمقبي: الكثير الشحم- كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء، والقباية: المفازة- لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها. ومن مهموزة: قبأ الطعام- كجمع: أكله، ومن الشراب: امتلأ، والقباءة: حشيشة ترعى- لأن المال يجتمع على رعيها.
ومن الواوي: قاب الأرض يقوبها وقوّبها: حفر فيها شبه التقوير- لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها، لأنه لا زوايا فيها فاصلة، وقوبت الأرض: آثرت فيها، والقوبة: ما يظهر في الجسد ويخرج عليه- لأنه يكون غالباً على هيئة الدائرة، وتقوب جلده: تقلع عنه الجرب، وانحلق عنه الشعر- إما من الإزالة، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر، وقوب الشيء: قلعه من أصله- لأن أثره إذا انقلع يكون حفراً مستديراً، وتقوب هو: تقلع، والقائبة والقابة: البيضة- لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر، والقوب- بالفتح: فلق الطير بيضه، وبالضم: الفرخ- لأنه منها، وفي المثل: تخلصت قائبة من قوب- يضرب لمن انفصل من صاحبه، والقوبيّ: المولع بأكل الأقواب أي الفراخ، والقوب- كصرد: قشور البيض، وتقوبت البيضه: انقابت أي انحفرت، وأم قوب: الداهية- لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر، وقاب: قرب- لأن القرب مبدأ الجمع، وقاب: هرب، أي سلب القرب- ضد، وقاب: فلق، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضاً، وقاب قوس وقيبه، أي قدره- لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر، والقاب: ما بين المقبض والسية- لأنه بعض ذلك، ولكل قوس قابان، والأسود المتقوب: الذي انسلخ جلده من الحيات- لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة، واقتاب الشيء: اختاره، أي جمعه إليه، ورجل مليء قوبة- كهمزة: ثابت الدار مقيم- من الثبات الذي هو لازم الجمع، وقوب من الغبار: اغبر- إما لأن من يحفر ذلك بغير، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة.
ومن مهموزه: قأب الطعام- كمنع: أكله، والماء: شربه كقئبه- كفرح، أو شرب كل ما في الإناء، وقئب من الشراب: تملأ، وهو مقأب- كمنبر: كثير الشرب للماء، وإناء قَوأب: كثير الأخذ للماء- فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب، أو أنه جمعه في وقبة بطنه.
ومن الواوي: بقاه بعينه: نظر إليه- فهو من الحفظ اللازم للجمع، وابقُه بَقْوَتَك مالَك، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك، وبقوته: انتظرته- وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ، ويلزم الحفظ الثبات. ومن اليائي: بقي الشيء بقاء: ثبت ودام ضد فني، والاسم البقوى- كدعوى، ويضم، والبقيا- بالضم والبقية، وقد توضع الباقية موضع المصدر.
ومن واويّه: البوقة: الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق- أنها نزلت من وقبة لشدتها، والبوائق: العوائد- لأنها جامعة لمن اعتادها، والبوائق: الشر- لأنه مهلك، فكأنه موقع في المهالك، والبوق- بالضم: شبه منقاب ينفخ فيه الطحان، أو الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز- لأنه لتجويفه يشبه الوقبة، والبوق أيضاً: الباطل والزور- لأن صوته أشبع شيء بذلك، والمبوق- كمعظم: الكلام الباطل، والبوق- بالفتح: من لا يكتم السر- لأن البوق متى نفخ فيه صوّت، والبوقة: شجرة دقيقة- لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبة، والبائقة: الداهية- كأنها تدفع من أتته في الوقبة، وانباقت عليه بائقة: انفتقت، وباق: جاء بالشر والخصومات- من ذلك، وكذا باق، أي تعدى على إنسان، وانباق به: ظلمه، والبائقةُ القومَ: أصابتهم، كانباقت عليهم، أي خرجت لشدتها من وقبة، والباقة: الحزمة من بقل- لاجتماعها، وباق بك: طلع عليك من غيبة- كأنه كان في حفرة فخرج، ومنه باق فلان: هجم على قوم بغير إذنهم، وباق القوم: سرقهم، وباق به: حاق به، أي- أحاط كما تحيط الوقبة، وباق القوم عليه: اجتمعوا فقتلوه ظلماً، وباق المال: فسد وبار- كحال من وقع في حفرة، ومنه متاع بائق: لا ثمن له، وتبوّق في الماشية: وقع فيها الموت وفشا، والحاق باق: صوت الفرج عند الجماع- لأنه من الجمع، ولأن الفرج وقبة، ومن مهموزه: بأقتهم الداهية بؤوقاً: أصابتهم، وانبأق عليهم الدهر: هجم عليهم بالداهية.
ومن الواوي، الوقبة: كوة عظيمة فيها ظل، والوقب والوقبة: نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وقيل: هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف، والوقبان من الفرس: هزمتان فوق عينيه، ووقب المحالة: الثقب الذي يدخل فيه المحور، ووقبة الدهن: أنقوعته، وكذا وقبة الثريد، ووقب الشيء: دخل في الوقب، وأوقب الشيء: أدخله فيه، وركية وقباء: غامرة الماء، وامرأة ميقاب: واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم، يريدون سبهم بذلك، والميقاب: الرجل الكثير الشرب للماء، والحمقاء أوالمحمقة، وسير الميقاب: أن تواصل سير يوم وليلة- كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره، ووقب القمر وقوباً: دخل في الظل الذي يكسفه- كأنه حفرة ابتلعته، ووقبت الشمس وقوباً: غابت كذلك، وقيل: كل ما غاب فقد وقب، ووقب الظلام، أقبل. أي فصار كالوقبة، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء، ورجل وقب: أحمق- كأنه وعاء لكل ما يسمع، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه، والأنثى: وقبة، وقال ثعلب: الوقب: الدنيء، أي لأنه يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقي فيها، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه، أي وعاء قضيبه، وقيل: صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه- لأن وعاء جردانه كالوقبة، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه، والقبة- كعدة: الإنفحة إذا عظمت من الشاة، قال ابن الأعرابي: ولا يكون ذلك في غير الشاء- لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر، والوقباء: موضع يمد ويقصر، والوقبى: ماء لبني مازن- لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها، والأوقاب: قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد- لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه، والميقب: الودعة، وأوقب القوم: جاعوا، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف، وذكر أوقب: ولاّج في الهنات- لأنها كالأوقاب أي الحفر، والوقب: الإقبال والمجيء، وهو سبب الجمع.
ووبق- كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً: هلك، أي وقع فيه وقبة، أي حفرة كاستوبق، وكمجلس: المهلك والمحبس، وواد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين- لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره.
ومنه قيل للموعد: موبق، وأوبقه: حبسه أو أهلكه.
ومن مهموزه: أبق العبد- كسمع وضرب ومنع- أبقاً ويحرك- وإباقاً- ككتاب: ذهب بلا خوف ولا كد عمل، أو استخفى ثم ذهب- وكل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة، ومن شأنه حينئذ أن يخفى، ومنه تأبق: استتر أو احتبس، وتأبق الشيء: أنكره- لأن سبب الإنكار الخفاء، وتأبق: تأثم، أي جانب الإثم، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة، والأبق- محركة: القنب- لشبهه لتجويفه بالوقبة، والأبق: قشره- لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة.

.تفسير الآيات (53- 56):

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم، ذكر حالهم في استمرار جهلهم، فقال تعالى: {ورءا المجرمون} أي العريقون في الإجرام {النار} أي ورأوا، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف {فظنوا} ظناً {أنهم مواقعوها ولم} أي والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفاً} أي مكاناً ينصرفون إليه، فالموضع موضع التحقق، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا {اتخذ الله ولداً} [الكهف: 4] بغير علم {وما أظن أن تبيد هذه أبداً} [الكهف: 35]، {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36]، {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها.
ولما كان الكلام في قوة أن يقال: صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار، فقامت دلائل الشريعة الجلائل، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر، عطف على ذلك: {ولقد صرفنا} أي بما لنا من العظمة. ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى: {في هذا القرءان} أي القيم الذي لا عوج فيه، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات {للناس} أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين {من كل مثل} أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة، والأساليب المتناسقة، ما سار بها في غرابته كالمثل، يقبله كل من يسمعه، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد، بين العباد، فتبشر به قلوبهم، وتلهج به ألسنتهم، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى: {وكان الإنسان} الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً {أكثر شيء} وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلاً} لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان، الذي أضاء جميع الأكوان.
ولما بين إعراضهم، بين موجبه عندهم فقال: {وما منع} ولما كان الناس تبعاً لقريش قال: {الناس} أي الذين جادلوا بالباطل، الإيمان- هكذا كان الأصل، ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمهم على الترك {إذ} أي حين {جاءهم الهدى} بالكتاب على لسان الرسول، وعطف على المفعول الثاني- معبراً بمثل ما مضى لما مضى- قولَه تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي المحسن إليهم.
ولما كان الاستثناء مفرغاً، أتى بالفاعل فقال تعالى: {إلا أن} أي طلب أن {تأتيهم سنة الأولين} في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً، أي مستوراً {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلاً} أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح، من قولهم: لقيت فلاناً قبلاً، أي معاينة، وكذا في قراءة من ضمهما، من قولهم: أنا آتيك قبلاً لا دبراً، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك، قال تعالى:
{إن كان قميصه قدَّ من قبل} [يوسف: 26]، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً، وقد مضى في الأنعام بيانه، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين، فمعناه: من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك} [الإسراء: 89-90]- إلى قوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} [الإسراء: 92] الآية وهذه الآية من الاحتباك: ذكر {سنة الأولين} أولاً يدل على ضدها ثانياً، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول، إنما هو إلى الإله، بينه بقوله تعالى: {وما نرسل} على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها {المرسلين إلا مبشرين} بالخير على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالشر على أفعال المعصية، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر {ويجادل الذين كفروا} أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم: لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء {ليدحضوا} أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا {به الحق} الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم.
ولما كان لكل مقام مقال، ولكل مقال حد وحال، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً، أتى به ماضياً فقال تعالى: {واتخذوا} أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا {ءاياتي} بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح {وما أنذروا} من آياتي، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار {هزواً} مع بعدهما جداً عن ذلك، فلا بالرغبة أطاعوا، ولا للرهبة ارتاعوا، فكانوا شراً من البهائم.