فصل: تفسير الآيات (64- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 67):

{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)}
وفي هذا الأمر من هذه القصة قاصمة للسائلين والآمرين لهم بالسؤال، لأن المراد- والله أعلم- أن هذا الأمر وقع لنبي هؤلاء المضلين، فمر قريشاً أن يسألوهم عن هذه القصة، فإن أخبروهم عنها بمثل ما أخبرتهم فصدقوهم، لزمهم أن يؤمنوا بالبعث لأمر هذا الحوت الذي أحياه الله بعد أن كان مشوياً وصار كثير منه في البطون، وإن لم يصدقوهم في هذا وصدقوهم في غيره مما يتعنتون به عليك فهو تحكم، وإن كانوا يتهمونهم في كل أمر كان سؤالهم لهم عبثاً، ليس من أفعال من يعقل، فكأنه قيل: فما قال موسى حينئذ؟ فقيل: {قال} منبهاً على أن ذلك ليس من الشيطان، وإنما هو إغفال من الله تعالى بغير واسطة ليجدا العلامة التي أخبره الله بها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنى لأنسى- أي ينسيني الله تعالى- لأسن» {ذلك} أي الأمر العظيم من فقد الحوت {ما كنا نبغ} أي نريد من هذا الأمر المغيب عنا، فإن الله تعالى جعله موعداً لي في لقاء الخضر {فارتدا على ءاثارهما} يقصانها {قصصاً} وهذا يدل على أن الأرض كانت رملاً، لا علم فيها، فالظاهر- والله أعلم- أنه مجمع النيل والملح الذي عند دمياط، أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركبا في سفينته للتغذية- كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح، ومن المشهور في بلاد رشيد أن الأمر كان عندهم، وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون: أنه من نسل تلك السمكة- والله أعلم. فاستمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت {فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام {ءاتيناه} بعظمتنا {رحمة} أي وحياً ونبوة، وكونه نبياً قول الجمهور {من عندنا} أي مما لم يجر على قوانين العادات غير أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء {وعلمناه من لدنا} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة؛ وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي: عند في لسان العرب لما ظهر، ولدن لما بطن، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه، فأهل التصوف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني، فإذا سعى العبد في الرياضيات يتزين الظاهر بالعبادة، وتتخلى النفس عن الأخلاق الرذيلة، وتتحلى بالأخلاق الجميلة، وتصير القوى الحسية والخيالية والوهمية في غاية القوة، وحينئذ تصير القوة العقلية قوية صافية، وربما كانت النفس بحسب أصل الفطرة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالحوادث البدنية، شديدة الاستعداد لقبول الأمور الإلهية، فتشرق فيها الأنوار الإلهية وتفيض عليها من عالم القدس على وجه الكمال فتحصل المعارف والعلوم من غير تفكر وتأمل، فهذا هو العلم اللداني.
ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله، وذلك أنه من المعلوم أن الطالب للشخص إذا لقيه كله، لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال لمن كأنه سأل عن ذلك: {قال له موسى} طالباً منه على سبيل التأدب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان: {هل أتبعك} أي اتباعاً بليغاً حيث توجهت؛ والاتباع: الإتيان لمثل فعل الغير لمجرد كونه آتياً به؛ وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله: {على أن تعلمن} وزاد في التلطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال: {مما علمت} وبناه للمفعول لعلم المخاطبين- لكونهم من الخلص- بأن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وللإشارة إلى سهولة كل أمر على الله عز وجل {رشداً} أي علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، ولا نقص في تعلم نبي من نبي حتى يدعي أن موسى هذا ليس موسى بن عمران عليه السلام فإنه قد ثبت كونه ابن عمران في الصحيح، وأتى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سؤاله له بهذه الأنواع من الآداب والإبلاغ في التواضع لما هو عليه من الرسوخ في العلم، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، فكان تعظيمه لأرباب العلوم أكمل.
ولما أتم العبارة عن السؤال، استأنف جوابه له بقوله تعالى: {قال} أي الخضر عليه السلام: {إنك لن تستطيع} يا موسى {معي صبراً} أي هو من العظمة على ما أريد لما يحثك على عدم الصبر من ظاهر الشرع الذي أمرت به، فالتنوين للتعظيم بما تؤذن به تاء الاستفعال، وأكد لما في سؤال موسى عليه السلام من التلطف المؤذن بأنه يصبر عليه ولا يخالفه في شيء أصلاً، ويؤخذ منه أن العالم إن رأى في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير كان عليه ذكره، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة، وذلك يمنعه من التعلم.

.تفسير الآيات (68- 74):

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}
ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص، وهو الصبر البليغ، بالتعجيب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكار، وعن نفسه في الفعل، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن، فقال عاطفاً على ما تقديره: فكيف تتبعني الاتباع البليغ: {وكيف تصبر} يا موسى {على ما لم تحط به خبراً} أي من جهة العلم به ظاهراً وباطناً، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله، فيكون الصبر الثاني هو الأول، والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً {قال} أي موسى عليه السلام، آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله له والنفع به: {ستجدني} فأكد الوعد بالسين؛ ثم أخبر عنه سبحانه أنه قوى تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدم الحث عليه في هذه السورة في قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل} الآية ليعلم أنه منهاج الأنبياء وسبيل الرسل، فقال تعالى: {إن شاء الله} أي الذي له صفات الكمال {صابراً} على ما يجوز الصبر عليه؛ ثم زاد التأكيد بقوله عطفاً بالواو على {صابراً} لبيان التمكن في كل من الوصفين: {ولا أعصي} أي وغير عاص {لك أمراً} تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله {قال} أي الخضر عليه السلام: {فإن اتبعتني} يا موسى اتباعاً بليغاً {فلا تسألني عن شيء} أقوله أو أفعله {حتى أحدث لك} خاصة {منه ذكراً} يبين لك وجه صوابه، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك.
ولما تشارطا وتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى: {فانطلقا} أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا {حتى إذا ركبا في السفينة} وأجاب الشرط بقوله تعالى: {خرقها} وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن، ولم يقرن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه؛ ثم استأنف قوله تعالى: {قال} أي موسى عليه السلام، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله- وهو الإله العظيم- من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار، كما فعل عند قتل الغلام، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأن المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً، ففي الأولى نسي الشرط، وفي الثانية نسي- لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً- أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه: {أخرقتها} وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: {لتغرق أهلها} والله! {لقد جئت شيئاً إمراً} أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً {قال} أي الخضر عليه السلام: {ألم أقل إنك} يا موسى! {لن تستطيع معي صبراً} فذكره بما قال له عند الشرط {قال} موسى: {لا تؤاخذني} يا خضر {بما نسيت} من ذلك الاشتراط {ولا ترهقني} أي تلحقني بما لا أطيقه وتعجلني عن مرادي باتباعك على وجه القهر ناسباً لي إلى السفه والخفة وركوب الشر {من أمري عسراً} بالمؤاخذة على النسيان، فكل منهما صادق فيما قال، موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى عما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر، ومع ذلك فما نفي إلا الصبر البليغ الذي دل عليه بزيادة تاء الاستفعال، وقد حصل ما يطلق عليه صبر.
لأنه لما ذكره كف عنه لما تذكر بثناء الله عليه أنه لا يفعل باطلاً، ولم يحصل الصبر البليغ الذي في نفس الخضر بالكسوت في أول الأمر وآخره {فانطلقا} بعد نزولهما من السفينة وسلامتها من الغرق والغصب {حتى إذا لقيا غلاماً} لم يبلغ الحلم وهو في غاية القوة {فقتله} حين لقيه- كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع: {قال} أي موسى عليه السلام: {أقتلت} يا خضر {نفساً زكية} بكونها على الفطرة الأولى من غير أن تدنس بخطيئة توجب القتل {بغير نفس} قتلتها ليكون قتلك لها قوداً؛ وهذا يدل على أنه كان بالغاً حتى إذا قتل قتيلاً أمكن قتله به إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ؛ ثم استأنف قوله: {لقد جئت} في قتلك إياها {شيئاً} وصرح بالإنكار في قوله: {نكراً} لأنه مباشرة. والخرق تسبب لا يلزم منه الغرق.

.تفسير الآيات (75- 79):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}
ولما كانت هذه ثانية {قال} الخضر عليه السلام: {ألم أقل} وزاد قوله: {لك إنك} يا موسى {لن تستطيع معي} أي خاصة {صبراً قال} موسى عليه السلام حياء منه لما أفاق بتذكر مما حصل من فرط الوجد لأمر الله فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله: {إن سألتك عن شيء بعدها} يا أخي! وأعلم بشدة ندمه على الإنكار بقوله: {فلا تصاحبني} بل فارقني؛ ثم علل ذلك بقوله: {قد بلغت} وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال: {من لدني عذراً} باعتراضي مرتين واحتمالك لي فيهما. وقد أخبرني الله بحسن حالك في غزارة علمك {فانطلقا} بعد قتله {حتى إذا أتيا أهل قرية} عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذم، لأن مادة قرا تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك كما تقدم في آخر سورة يوسف عليه السلام؛ ثم وصفها ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها بقوله تعالى: {استطعما} وأظهر ولم يضمر في قوله: {أهلها} لأن الاستطعام لبعض من أتوه، أوكل من الإتيان والاستطعام لبعض ولكنه غير متحد، وهذا هو الظاهر، لأنه هو الموافق للعادة.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل: ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان سنين الأفهام في القرآن: اعلم أن لوقوع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين: أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا، والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس، ولم يصل إليه تخاطب الخلق. فإذا كان البيان عن إحاطة، تقدم الإضمار {قل هو الله أحد} وإذا كان عن اختصاص، تقدم الإظهار {الله الصمد} وإذا رد عليه بيان على حدة أضمر {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} أي هذا الذي عم بأحديته وخص بصمديته، وإذا أحاط البيان بعد اختصاص استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط أو بإضمار، أو بجمع المضمر والمظهر {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} [الحجرات: 1] {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد} [البروج: 12] {هو الله لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة} [الحشر: 22] والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان من هذا النحو من مفاتيح أبواب الفهم، ومن نحوه {أتيا أهل قرية استطعما أهلها} استأنف للمستطعمين إظهاراً غير إظهار المأتيين- انتهى. وجعل السبكي الإتيان للبعض، والاستطعام للكل، لأنه أشد ذماً لأهل القرية وأدل على شر طبعها، ومن قال بالأول مؤيد بقول الشافعي في كتاب الرسالة في باب ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخلها الخصوص وهو بعد البيان الخامس في قول الله عز وجل: {حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها}: وفي هذه الآية أدل دلالة على أنه لم يستطعما كل أهل القرية وفيها خصوص- انتهى، وبيان ذلك أن نكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة كانت عيناً في الأغلب.
ولما أسند الإتيان إلى أهل القرية كان ظاهره تناول الجميع، فلو قيل: استطعماهم لكان المراد بالضمير عين المأتيين، فلما عدل عنه- مع أنه أخصر- إلى الظاهر ولاسيما إن جعلناه نكرة كان غير الأولى وإلا لم يكن للعدول فائدة، وقد كان الظاهر أن الأول للجميع فكان الثاني للبعض، وإلا لم يكن غيره ولا كان للعدول فائدة. {فأبوا} أي فتسبب عن استطعامهما أن أبى المستطعمون من أهل القرية {أن يضيفوهما} أي ينزلوهما ويطعموهما فانصرفا عنهم {فوجدا فيها} أي القرية، ولم يقل: فيهم، إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع {جداراً} مشرفاً على السقوط، وكذا قال مستعيراً لما لا يعقل صفة ما يعقل: {يريد أن ينقض} أي يسقط سريعاً فمسحه الخضر بيده {فأقامه}.
ولما انقضى وصف القرية وما تسبب عنه أجاب {إذا} بقوله: {قال} أي له موسى عليه السلام: {لو شئت لتخذت} لكوننا لم يصل إلينا منهم شيء {عليه} أي على إقامة الجدار {أجراً} نأكل به، فلم يعترض عليه في هذه المرة لعدم ما ينكر فيها، وإنما ساق ما يترتب عليها من ثمرتها مساق العرض والمشورة غير أنه يتضمن السؤال {قال} الخضر عليه السلام: {هذا} أي الوقت أو السؤال. ولما كان ذلك سبب الفراق أو محله، سماه به مبالغة فقال: {فراق بيني وبينك} يا موسى بعد أن كان البينان بيناً واحداً لاتصالهما فلا بين، فهو في الحقيقة فوق ما كان متصلاً من بينهما، أو فراق التقاول الذي كان بيننا، أي الفراق الذي سببه السؤال، وإذا نزل على الاحتباك ازداد ظهوراً، تقديره: فراق بيني وبينك كما أخبرت، وفراق بينك من بيني كما شرطت، وقد أثبتت هذه العبارة الفراق على أبلغ وجه، وذلك أنه إذا وقع فراق بيني من بينك بحائل يحول بينهما فقد وقع منك بطريق الأولى، وحقيقته أن البين هو الفراغ المنبسط الفاصل بين الشيئين وهو موزع بينهما، فبين كل منهما من منتصف ذلك الفراغ إليه، فإذا دخل في ذلك الفراغ شيء فصل بينهما، وصار بين كل منهما ينسب إليه، لأنه صار بين ما ينسب إلى كل منهما من البينين، وحينئذ يكون بينهما مباينة، أي أن بين كل منهما غير بين الآخر ومن قال: إن معنى {هذا فراق بيننا} زوال الفصل ووجود الوصل، كذبه أن معنى هذا اتصال بيننا المواصلة، فلو كان هذا معنى ذاك أيضاً لاتحد معنى ما يدل على الوصل بمعنى ما يدل على الفصل، وقد نبه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام- كما في تفسير الأصبهاني وغيره- بما فعل الخضر عليه السلام على ما وقع له هو من مثله سواء بسواء، فنبهه- بخرق السفينة الذي ظاهره هلك وباطنه نجاة من يد الغاصب- على التابوت الذي أطبق عليه وألقي في اليم خوفاً عليه من فرعون الغاصب فكان ظاهره هلكاً وباطنه نجاة، وبقتل الغلام على أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر في قتله القبطي وإن لم يكن إذ ذاك يعلمه لكونه لم ينبأ، وبأقامة الجدار من غير أجر على سقيه لبنات شعيب عليهم السلام من غير أجر مع احتياجه لذلك.
ولما كان من المعلوم شدة استشراف موسى عليه السلام إلى الوقوف في باطن هذه الأمور، قال مجيباً له عن هذا السؤال: {سأنبئك} يا موسى بوعد لا خلف فيه إنباء عظيماً {بتأويل} أي بترجيع {ما لم تستطع عليه صبراً} لمخالفته عندك الحكمة إلى الحكمة وهو أن عند تعارض الضررين يجب ارتكاب الأدنى لدفع الأقوى بشرط التحقق، وأثبت تاء الاستفعال هنا وفيما قبله إعلاماً بأنه ما نفى إلا القدرة البليغة على الصبر، إشارة إلى صعوبة ما حمل موسى من ذلك، لا مطلق القدرة على الصبر {أما السفينة} التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها {فكانت لمساكين} وهو دليل للشافعي على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، لأن هؤلاء يملكون سفينة {يعملون في البحر} ليستعينوا بذلك على معاشهم.
ولما كان التعييب من فعله، أسنده إليه خاصة، تأدباً مع الله تعالى فقال: {فأردت أن أعيبها} فإن تفويت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكليف أهلها لوحاً يسدونها به أخف ضرراً من تفويتهم منفعتها أخذاً ورأساً بأخذ الملك لها، ولم أرد إغراق أهلها كما هو المتبادر إلى الفهم؛ ثم عطف على ذلك علة فعله فقال: {وكان وراءهم} أي أمامهم، ولعله عبر بلفظ وراء كناية عن الإحاطة بنفوذ الأمر في كل وجهة وارتهم وواروها، وفسره الحرالي في سورة البقرة بأنه وراءهم في غيبته عن علمهم وإن كان أمامهم في وجهتهم، لأنه فسر الوراء بما لا يناله الحس ولا العلم حيثما كان من المكان، قال: فربما اجتمع أن يكون الشيء، وراء من حيث إنه لا يعلم، ويكون أماماً في المكان. {ملك يأخذ} في ذلك الوقت {كل سفينة} ليس فيها عيب {غصباً} من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به.