فصل: تفسير الآيات (16- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 25):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}
ولما كان حاصل القصة أنه ولد أخرجه الله تعالى عن سبب هو في ضعفه قريب من العدم، أما من جهته فبلوغه إلى حد من السن وحال في المزاج لا يقبل حركة الجماع عادة، أما من جهة زوجته فلزيادتها مع يأسها ببلوغها إلى نحو ذلك السن بكونها عاقراً لم تقبل حبلاً قط، أتبعه بقصة هي أغرب من قصته بكونها ليس فيها إلا سبب واحد وهو المرأة، وعدم فيها سبب الذكورية أصلاً، إشارة إلى أنه تعالى يخلق ما يشاء تارة بسبب قوي، وتارة بسبب ضعيف، وتارة بلا سبب، ومن كان كذلك كان مستغنياً عن الولد؛ ولما كان على اليهود الآمرين بالسؤال تعنتاً عن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين أن ينصحوا العرب بالإعلام بأن دينهم باطل لشركهم، فلم يفعلوا فكانوا جديرين بالتبكيت، وكانت قصة زكريا أعظم في تبكيتهم بمباشرتهم لقتله وقتل ولده يحيى عليهما السلام، قدمها في الذكر، وتوطئة لأمر عيسى عليه السلام كما مضى بيانه في آل عمران إلزاماً لهم بالاعتراف به، وللنصارى بالاعتراف بأنه عبد، كما اعترف كل منهما بأمر يحيى عليه السلام، وذلك بما جمع بينهما من خرق العادة، وكانت قصة يحيى أولى من قصة إسحاق عليهما السلام لما تقدم، ولمشاهدة الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من الفريقين لأمره وأمر يحيى عليهم الصلاة والسلام لما لهما من الاتحاد في الزمن مع ما لهما من قرب النسب، ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره: اذكر هذا لهم: {واذكر} بلفظ الأمر {في الكتاب مريم} ابنة عمران خالة يحيى- كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء: «فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من {مريم} بدل اشتمال قوله: {إذ} أي اذكر ما اتفق لها حين {انتبذت} أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت {من أهلها} حالة {مكاناً شرقياً} عن مكانهم، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي {فاتخذت} أي أخذت بقصد وتكلف، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال: {من دونهم} أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للاغتسال أو غيره {حجاباً} يسترها {فأرسلنا} لأمر يدل على عظمتنا {إليها روحنا} جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، لئلا يشتبه عليها الأمر، ويتشعب بها الفكر، فتقتل نفسها غماً {فتمثل لها} أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني {بشراً سوياً} في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه: {قالت}.
ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت: {إني أعوذ بالرحمن} ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة {منك} ولما تفرست فيه- بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها- التقوى، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها: {إن كنت تقياً قال} جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، {إنما أنا رسول ربك} أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده {لأهب} بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى {لك} وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله: {غلاماً} أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية {زكياً} طاهراً من كل ما يدنس البشر: نامياً على الخير والبركة {قالت} مريم: {أنّى} أي من أين وكيف {يكون لي غلام} ألده {ولم يمسسني بشر} بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها.
ولما هالها هذا الأمر، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته، فضاق عليها المقام، فأوجزت حتى بحذف النون من كان ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت {ولم أك}. ولما كان المولود سر من يلده، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت: {بغياً} أي ليكون دأبي الفجور، ولم يأت بغية لغلبة إيقاعه على النساء، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية، لا يقال إلا للمتلبسة به {قال} أي جبريل عليه السلام {كذلك} القول الذي قلت لك يكون.
ولما كان لسان الحال قائلاً: كيف يكون بغير سبب؟ أجاب بقوله: {قال} ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال: {ربك هو} أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري {هين} أي خصصناك به ليكون شرفاً به لك.
ولما كان ذلك أعظم الخوارق، نبه عليه بالنون في قوله، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق: {ولنجعله} بما لنا من العظمة {ءاية للناس} أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام، وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} لمن آمن به في أول زمانه، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة: فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها {فحملته} وعقب بالحمل قوله: {فانتبذت به} أي فاعتزلت- وهو في بطنها- حالة {مكاناً قصياً} أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله: {فأجاءها} أي فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها، فكانت كالعلم لما فيها من العجب، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها، لأنها لا تحمل إلا بإلقاح من ذكور النخل، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء لإتيانها بولد من غير والد، فكيف إذا كان ذلك في غير وقته! فكيف إذا كانت يابسة! مع ما لها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها، وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك.
ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار: {ياليتني مت} ولما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: {قبل هذا} أي الأمر العظيم {وكنت نسياً} أي شيئاً من شأنه أن ينسى {منسياً} أي متروكاً بالفعل لا يخطر على بال، فولدته {فناداها من تحتها} وهو عيسى عليه السلام {ألا تحزني} قال الرازي في اللوامع: والأصح أن مدة حملها له وولادته ساعة لأنه كان مبدعاً، ولم يكن من نطفة تدور في أدوار الخلقة- انتهى. ونقله ابن كثير وقال: غريب عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويؤيده أنه لم ينقل في كتابنا ولا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم أنكروا عليها زمن الحمل، ولو علموا به لأنكروه ولو أنكروه لنقل كما نقل إنكار الولادة.
ولما أنكروا الولادة فكأنها قالت: لم لا أحزن؟ وتوقعت ما يعلل به؟ قال: {قد جعل ربك} أي المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها {سرياً} جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك {وهزي إليك} أي أوقعي الهز وهو جذب بتحريك.
ولما كان المقصود التهويل لصرف فكرها عما دهمها من الهم جعله قاصراً فكأنها قالت: ما أهز؟ إذ لم يكن في الجذع ما يتوقع نفعه بهزه، فقال مصرحاً بالمهزوز: {بجذع النخلة} التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها فكأنها قالت: ولم ذاك؛ فقال: {تساقط عليك} من أعلاها {رطباً جنياً} طرياً آية أخرى عظيمة تطيب النفس وتذهب بالحزن، وتدل على البراءة، والتعبير بصيغة التفاعل في قراءة الجماعة وحمزة للدلالة على أن التمر يسقط منها، ومن حقه أن يكون منتفياً لأنها غير متأهلة لذلك، فهو ظاهر في أنه على وجه خارق للعادة، وقراءة الجماعة بالإدغام تشير مع ذلك إلى أنه مع شدته يكاد أن يخفي كونه منها ليبسها وعدم إقنائها، وقراءة حمزة بالفتح والتخفيف تشير إلى سهولة تساقطه وكثرته، وقراءة حفص عن عاصم بالضم وكسر القاف من فاعل، تدل على الكثرة وأنه ظاهر في كونه من فعلها.

.تفسير الآيات (26- 33):

{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب، سبب عنه قوله: {فكلي} أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب {واشربي} من ماء السرى {وقري} أي استقري {عيناً} بالنوم، فإن المهموم لا ينام، والعين لا تستقر ما دامت يقظى، وعن الأصمعي أن المعنى: ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة، واشتقاق {قري} من القرور، وهو الماء البارد- انتهى.
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون: قررت به عيناً- أي بكسر العين- أقر، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون: قررت به عيناً- أي بالفتح- أقر، قال- يعني الفراء: فمن قال: قررت- أي بالكسر- قراً، وقرى عيناً- أي بالفتح، وهي القراءة المعروفة، ومن قال: قررت،- أي بالفتح قراً وقري عيناً- بكسر القاف أي وهي الشاذة، قال- أي القزاز: هي لغة كل من لقيت من أهل نجد، والمصدر قرة وقرور.
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه، قيل: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام {فإما ترين} أي يا مريم {من البشر أحداً} لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك {فقولي} لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه: {إني نذرت للرحمن} أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق {صوماً} أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام {فلن} أي فتسبب عن النذر أني لن {أكلم اليوم إنسياً} فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر، قالوا: ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد {فأتت} أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت {به} أي بعيسى {قومها} وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: {قالوا يا مريم} ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم {لقد جئت} بما نراه {شيئاً فرياً} قطيعاً منكراً {ياأخت هارون} في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام {ما كان أبوك} أي عمران ساعة من الدهر {امرأ سوء} لنقول: نزعك عرق منه {وما كانت أمك} في وقت من الأوقات {بغياً} أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها {فأشارت} امتثالاً لما أمرت به {إليه} أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها {قالوا كيف نكلم} يا مريم {من كان في المهد} أي قبيل إشارتك {صبياً} لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب {كان} يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب {صبياً} على الحال، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله: {قال} أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال: {إني عبد الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى {ءاتاني الكتاب} أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني {وجعلني} أي في علمه {نبياً} ينبئ بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فانبئكم به {وجعلني مباركاً} بأنواع البركات {أين ما} في أي مكان {كنت} فيه.
ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري {ما دمت حياً} ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله {وبراً} أي وجعلني براً، أي واسع الخلق طاهره.
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: {بوالدتي} أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها {ولم يجعلني جباراً شقياً} بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال: {والسلام} أي جنسه {عليَّ} فلا يقدر أحد على ضرري {يوم ولدت} فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً {ويوم أموت} كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان {ويوم أبعث حياً} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها.