فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 35):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
{ذلك} أي الأمر العظيم الكبير ذلك، فمن راعاه فاز، ومن حاد عنه خاب؛ ثم عطف عليه ما هو أعم من هذا المقدر فقال: {ومن} ويجوز أن يكون حالاً، أي أشير إلى الأمر العظيم والحال أنه من {يعظم شعائر الله} أي معالم دين الملك الأعظم التي ندب إليها وأمر بالقيام بها في الحج، جمع شعيرة وهي المنسك والعلامة في الحج، والشعيرة أيضاً: البدنة المهداة إلى البيت الحرام، قال البغوي: وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدي- انتهى. ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح، فيكون من الإزالة، وتعظيمها استحسانها، فتعظيمها خير له لدلالته على تقوى قلبه {فإنها} أي تعظيمها {من} أي مبتدئ من {تقوى القلوب} التي من شأنها الشعور بما هو أهل لأن يعظم، فمعظمها متق، وقد علم بما ذكرته أنه حذف من هذه جملة الخير ومن قوله: {ومن يعظم حرمات الله} سبب كونه خيراً له، وهو التقوى، ودل على إرادته هناك بذكره هنا، وحذف هنا كون التعظيم خيراً، ودل عليه بذكره هناك، فقد ذكر في كل جملة ما دل على ما حذف من الأخرى كما تقدم في {قد كان لكم آية في فئتين} [آل عمران: 13] في آل عمران، وأنه يسمى الاحتباك، وتفسيري للشعائر بما بما ذكرته من الأمر العام جائز الإرادة، ويكون إعادة الضمير على نوع منه نوعاً من الاستخدام، فقوله: {لكم فيها} معناه: البدن أو النعم المهداة أو مطلقاً {منافع} بالدر والنسل والظهر ونحوه فكلما كانت سمينة حسنة كانت منافعها أكثر ديناً ودنيا {إلى أجل مسمى} وهو الموت الذي قدرناه على كل نفس، أو النحر إن كانت مهداة، أو غير ذلك، وهذا تعليل للجملة التي قبله، فإن المنافع حاملة لذوي البصائر على التفكر فيها لاسيما مع تفاوتها، والتفكر فيها موصل إلى التقوى بمعرفة أنها من الله، وأنه قادر على ما يريد. وأنه لا شريك له.
ولما كانت هذه المنافع دنيوية، وكانت منفعة نحرها إذا أهديت دينية، أشار إلى تعظيم الثاني بأداة التراخي فقال: {ثم محلها} أي وقت حلول نحرها بانتهائكم بها {إلى البيت العتيق} أي إلى فنائه وهو الحرم كما قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95].
ولما كان التقدير: جعل لكم سبحانه هذه الأشياء مناسك، عطف عليه قوله: {ولكل أمة} أي من الأمم السالفة وغيرها {جعلنا} بعظمتنا التي لا يصح أن تخالف {منسكاً} أي عبادة أو موضع عبادة أو قرباناً، فإنه يكون مصدر نسك- كنصر وكرم- نسكاً ومنسكاً، ويكون بمعنى الموضع الذي يعبد فيه، والذي يذبح فيه النسك وهو الهدي، وقال ابن كثير: ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل.
ثم أتبع هذا الجعل عتله بياناً لأنه ليس مقصوداً في نفسه فقال: {ليذكروا} ولما كان الدين سهلاً سمحاً ذا يسر، رضي بالدخول فيه بالظاهر فقال: {اسم الله} أي الملك الأعلى وحده، على ذبائحهم وقرابينهم وعبادتهم كلها، لأنه الرزاق لهم وحده؛ ثم علل الذكر بالنعمة تنبيهاً على التفكر فيها فقال: {على ما رزقهم} فوجب شكره به عليهم {من بهيمة الأنعام}.
ولما علم أن الشارع لجميع الشرائع الحقة واحد، وأن علة نصبه لها ذكره وحده، تسبب عنه قوله: {فإلهكم} أي الذي شرع هذه المناسك كلها. ولما كان الإله ما يحق له الإلهية بما تقرر من أوصافه، لا ما سمي إلهاً، قال: {إله} ووصفه بقوله: {واحد} أي وإن اختلفت فروع شرائعه ونسخ بعضها بعضاً، ولو اقتصر على {واحد} لربما قال متعنتهم: إن المراد اقتصارنا على واحد مما نعبده. والتفت إلى الخطاب لأنه أصرح وأجدر بالقبول.
ولما ثبت كونه واحداً، وجب اختصاصه بالعبادة، فلذا قال: {فله} أي وحده {أسلموا} أي انقادوا بجميع ظواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه ناسخاً كان أو لا وإن لم تفهموا معناه كغالب مناسك الحج.
ولما أمر بالإسلام من يحتاج إلى ذلك إيجاداً أو تكميلاً أو إدامة، وكان الإسلام هو سهولة الانقياد من غير كبر ولا شماخة، وكان منشأ الطمأنينة والتواضع اللذين هما أنسب شيء لحال الحجاج المتجرد من المخيط المكشوف الرأس الطالب لوضع أوزاره، وتخفيف آصاره لستر عوراه، أقبل سبحانه وتعالى على الرأس من المأمورين، الحائز لما يمكن المخلوقين أن يصلوا إليه من رتب الكمال، وخلال الجمال والجلال، إشارة إلى أنه لا يلحقه أحد في ذلك فقال: {وبشر المخبتين} أي المتواضعين، المنكسرين، من الخبت- للأرض المنخفضة الصالحة للاستطراق وغيره من المنافع؛ ثم بين علاماتهم فقال: {الذين إذا ذكر الله} أي الذي له الجلال والجمال {وجلت} أي خافت خوفاً مزعجاً {قلوبهم}.
ولما كان في ذكر الحج، وكان ذلك مظنة لكثرة الخلطة الموجبة لكثرة الأنكاد ولاسيما وقد كان أكثر المخالطين مشركين، لأن السورة مكية، قال عاطفاً غير مُتبع، إيذاناً بالرسوخ في الأوصاف: {والصابرين} الذين صار الصبر عادتهم {على ما أصابهم} كائناً ما كان.
ولما كان ذلك شاغلاً عن الصلاة، قال: {والمقيمي الصلاة} أي وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع ذلك المشاق والشواغل إلا الأراسخ في حبها، فهم- لما تمكن من حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها- كأنهم دائماً في صلاة.
ولما كان ما يحصل فيه من زيادة النفقة ربما كان مقعداً عنه، رغب فيه بقوله: {ومما رزقناهم} فهم لكونه نعمة منا لا يبخلون به، ولأجل عظمتنا يحسنون ظن الخلف {ينفقون} أي يجددون بذله على الاستمرار، بالهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك، إحساناً إلى خلق الله، امتثالاً لأمره كالخبت الباذل لما يودعه تعالى فيه من الماء والمرعى.

.تفسير الآيات (36- 38):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}
ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها، وكانت الإبل أعظمها خلقاً، وأجلها في أنفسهم أمراً، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبراً بالاسم الدال على عظمها، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية، فقال عاطفاً على قوله: {جعلنا منسكاً} أو يكون التقدير والله أعلم: فأشركناكم مع الأمم الماضية في البقر والغنم {والبدن} أي الإبل أي المعروفة بعظم الأبدان- {جعلناها} أي بعظمتنا، وزاد في التذكير بالعظمة بذكر الاسم العلم فقال: {لكم من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعظم ومناسكه التي شرعها لكم وشرع فيها الإشعار، وهو أن يطعن بحديدة في سنامها، تمييزاً لما يكون منها هدياً عن غيره.
ولما نبه على ما فيها من النفع الديني، نبه على ما هو أعم منه فقال: {لكم فيها خير} بالتسخير الذي هو من منافع الدنيا، والتقريب الذي هو من منافع الآخرة؛ روى الترميذي وحسنه وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله علية وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً» والدارقطني في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» ولما ذكر ما فيها، سبب عنه الشكر فقال: {فاذكروا اسم الله} أي الذي لا سمي له {عليها} أي على ذبحها بالتكبير، حال كونها {صواف} قياماً معقلة الأيدي اليسرى، فلولا تعظيمه بامتثال شرائعه، ما شرع لكم ذبحها وسلطكم عليها مع أنها أعظم منكم جرماً وأقوى {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع: «ولا تعجلوا النفس أن تزهق» وقد وراه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك.
ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل ممنها للأمر بتقريبها لله تعالى، قال نافياً لذلك: {فكلوا منها} إذا كانت تطوعاً إن شئتم الأكل، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قرباناً {وأطعموا القانع} أي المتعرض للسؤال بخضوع وانكسار {والمعتر} أي السائل، وقيل: بالعكس، وهو قول الشافعي رحمه الله، قال في كتاب اختلاف الحديث: والقانع هو السائل، والمعتر هو الزائر والمار، قال الرازي في اللوامع: وأصله في اللغة أن القاف والنون والعين تدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، فالقانع: السائل، لإقباله على من يساله، والقانع: الراضي الذي لا يسأل، كأنه مقبل على الشيء الذي هو راض به.
ولما كان تسخيرها لمثل هذا القتل على هذه الكيفية مع قوتها وكبرها أمراً باهراً للعقل عند التأمل، نبه عليه بالتحريك للسؤال عما هو أعظم منه فقال: {كذلك} أي مثل هذا التسخير العظيم المقدار {سخرناها} بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك {لكم} وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوتها، ولو شئنا جعلناها وحشية {لعلكم تشكرون} أي لتتأملوا ذلك فتعرفوا أنه ما قادها لكم إلا الله فيكون حالكم حال من يرجى شكره، فتوقعوا الشكر بأن لا تحرموا منها إلا ما حرم، ولا تحلوا إلا ما أحل، وتشهدوا منها ما حث على إهدائه، وتتصرفوا فيها بحسب ما أمركم.
ولما حث على التقرب بها مذكوراً اسمه عليها، وكان من مكارم الأخلاق، وكان أكثرهم يفعله، وكانوا ينضحون البيت ونحوه بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم، ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، وقد كان بعض ذلك شرعاً قديماً، نبه سبحانه على نسخ ذلك بأن نبه على أن المقصود منه روحه لا صورته فقال: {لن ينال} أي يصيب ويبلغ ويدرك.
ولما كان السياق للحث على التقريب له سبحانه، كان تقديم اسمه على الفاعل أنسب للإسراع بنفي ما قد يتوهم من لحاق نفع أو ضر، فقال معبراً بالاسم العلم الذي حمى عن الشركة بكل اعتبار: {الله} أي رضا الملك الذي له صفات الكمال فلا يلحقه نفع ولا ضر {لحومها} المأكوله {ولا دماؤها} المهراقة {ولكن يناله التقوى} أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال اموامر التي هي نهايات لذلك، الكائنة {منكم} الحاملة على التقرب التي بها يكون له روح القبول، المحصلة للمأمول؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة- انتهى. فإذا نالته سبحانه النية قبل العمل فتلقى اللقمة «فرباها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل جبل» «ووقع الدم منه بمكان» فالنفي لصورة لا روح لها والإثبات لذات الروح، فقد تفيد النية من غير عمل كما قال صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ما معناه. «إن بالمدينة رجالاً ما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً إلا كانوا فيه حبسهم العذر» ولا يفيد العمل بغير نية، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمداً والله الموفق؛ ثم كرر التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به فقال: {كذلك} أي التسخير العظيم {سخرها} أي الله الجامع لصفات الكمال {لكم} بعظمته وغناه عنكم {لتكبروا}.
ولما ذكر التكبير، صوره بالاسم الأعظم فقال: {الله} وضمن التكبير فعل الشكر، فكان التقدير: شاكرين له {على ما هداكم} أي على هدايتكم له والأمور العظيمة التي هداكم إليها.
ولما كان الدين لا يقوم إلا بالنذارة والبشارة، وكان السياق لأجل ما تقدم من شعائر الحج، ومعالم العج والثج- بالبشارة أليق، ذكرها مشيراً إلى النذارة بواو العطف ليؤذن أن التقدير: فأنذر أيها الداعي المسيئين: {وبشر المحسنين} أي الذين أوجدوا الإحسان لأفعالهم صورة ومعنى.
ولما ذكر سبحانه الحج المذكر للمهاجرين بأوطانهم المخاصمة التي أنزلت في غزوة بدر، وذكر ما يفعل فيه من القربات، عظم اشتياق النفوس إلى ذلك وتذكرت علو المشركين الذي يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وظهورهم ومنعهم لمن أراد هذه الأفعال، على هذه الأوصاف الخالصة، والأحوال الصالحة، وفتنتهم له، فأجابها سبحانه عن هذا السؤال بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {يدافع عن الذين آمنوا} لأنهم بدخولهم في الإيمان لم يكونوا مبالغين في الخيانة ولا في الكفر فهو يحبهم، فكيف بالمحسنين الذين ختمت بهم الآية السالفة، أي فيظهرهم على عدوهم- هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بغير ألف، وفي قراءة الباقين مبالغة بإخراج الفعل على المغالبة، فكأنه قال: بشرهم بأن الله يدفع عنهم، ولكنه تعالى أظهر الأوصاف ليفهم أنها مناط الأحكام والتعبير، فعبر بالفعل الماضي ترغيباً، أي لكل من أوقع هذا الوصف في الخارج إقياعاً ما دفع عنه؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي لا يكرم كما يفعل المحب {كل خوان} في أمانته، مانع لعباده من بيته الذي هو للناس سواء العاكف فيه والبادي {كفور} لنعمته بالتقرب إلى غيره، فهو يفعل مكارم الأخلاق صورة ليس فيها معنى أصلاً، لا يصححها بذكر الله وحده، ولا يجملها بالإحسان، وأتى بالصفتين على صيغة المبالغة لأن نقائص الإنسان لا يمكنه أن يفعلها خالية عن المبالغة، لأنه يخون نفسه بالعزم أولاً، والفعل ثانياً وغيره من الخلق ثالثاً، وكذا يخون نفسه ربه سبحانه وهكذا في الكفر وغيره، ولما كانت الخيانة منبع النقائص، كانت المبالغة فيها أكثر.

.تفسير الآيات (39- 44):

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
ولما كان كأنه قد قيل: كيف تكون المدافعة وبمن؟ فقيل: بعباده المؤمنين، عبر عن ذلك بقوله: {أذن} وأشار بقراءة من بناه للمجهول إلى سهولة ذلك عليه سبخانه {للذين يقاتلون} أي للذين فيهم قوة المدافعة، في المدافعة بالقتلا بعد أن كانوا يمنعون منه بمكة ويؤمرون بالصفح؛ ثم ذكر سبب الإذن فقال {بأنهم ظلموا} أي وقع ظلم الظالمين لهم بالإخراج من الديار، والأذى بغير حق.
ولما كان التقدير: فأن الله أراد إظهار دينه بهم، عطف عليه قوله: {وإن الله} أي الذي هو الملك الأعلى، وكل شيء في قبضته، ويجوز عطفه على قوله: {إن الله يدفع} أي بإذنه لهم في القتال وأنه {على نصرهم} وأبلغ في التأكيد لا ستبعاد النصرة إذ ذاك بالكفار من الكثرة والقوة، وللمؤمنين من الضعف والقلة، فقال: {لقدير} ثم وصفهم بما يبين مظلوميتهم على وجه يجمعهم ويوثقهم بالله فقال: {الذين أخرجوا من ديارهم} إلى الشعب والحبشة والمدينة {بغير حق} أوجب ذلك {إلا أن يقولوا} أي غير قولهم، أو ألا قولهم: {ربنا الله} المحيط بصفات الكمال، الموجب لإقرارهم في ديارهم، وحبهم ومدحهم واقتفاء آثارهم، فهو من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وفي سوق ذلك المساق الاستثناء عند من يجعله منقطعاً إشارة إلى أن من أخلص لله، صوب الناس إليه سهام مكرهم، ولم يدعوا في أذاه شيئاً من جهدهم.
ولما ذكر مدافعته، وذكر أنها بالمؤمنين، بين سرها عموماً ليفهم منها هذا الخاص، وصورها تقريباً لفهمها، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلولا إذن الله لهم لاستمر الشرك ظاهراً، والباطل- باستيلاء الجهلة على مواطن الحج- قاهراً: {ولولا دفع الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة في كل شريعة، وفي زمن كل نبي أرسله {الناس} أي عموماً {بعضهم ببعض} أي بتسليط بعضهم على بعض {لهدمت صوامع} وهي معابد صغار مرتفعة للرهبان {وبيع} للنصارى {وصلوات} أي كنائس اليهود {ومساجد} أي للمسلمين، أخرها لتكون بعيدة من الهدم قريبة من الذكر {يذكر فيها اسم الله} أي الملك الذي لا ملك غيره، ولعل العدول عن الإضمار إلى الإظهار للإشارة إلى اختلاف ذكره تعالى في الأماكن المذكورة بالإخلاص وغيره {كثيراً} لأن كل فرقة تريد هدم ما للأخرى، بل ربما أراد بعض أهل ملة إخراب بعض معابد أهل ملته، لا فبدفعه الله بمن يريد من عباده، وإذا تأملت ذلك وجدت فيه من الأسرار، ما يدق عن الأفكار، فإنه تعالى لما أراد بأكثر الناس الفساد، نصب لهم من الأضداد، ما يخفف كثيراً من العناد.
ولما كان لتقدير: ولكن لم تهدم المذكورات، لأن الله دفع بعضهم ببعض، وجعل بعضهم في نحور بعض، عطف عليه أو على قوله: {أذن} قوله: {ولينصرن الله} أي الملك الأعظم، وأظهر ولم يضمر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {من ينصره} كائناً كم كان منهم ومن غيرهم، بما يهيئ له من الأسباب، إجراءً له على الأمر المعتاد، وبغير أسباب خرقاً للعادة، كما وقع في كثير من الفتوحات، كخوض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح إلى جواثاء بالبحرين، واقتحام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة مع عظمها في ذلك العام وطموها، وزيادتها وعلوها، وزلزلة أسوار حمص بالتكبير وتهدّم كثيراً من بيوتها، عن إتقان بنيانها، وإحكام قواعدها وأركانها ونحو ذلك؛ ثم علل نصره وإن ضعف المنصور، بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {لقوي} أي على ما يريد {عزيز} لا يقدر أحد على مغالبته، ومن كان ناصره فهو المنصور، وعدوه المقهور، ولقد صدق سبحانه فيما وعد به، فأذل بأنصار دينه رضي الله عنهم- جبابرة أهل الأرض وملوكهم، ومن أصدق من الله حديثاً.
ولما وصف نفسه سبحانه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصره، وصفهم بما يبين أن قتالهم له، لا لهم، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل، فقال: {الذين} ولما كان وقت النصرة مبهماً آخره يوم الفصل، عبر بأداة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال: {إن مكناهم} بما لنا من العظمة {في الأرض} بإعلائهم على أضدادهم {أقاموا الصلاة} أي التي هي عماد الدين، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} المؤذنة بالزهذ في الحاصل منه، المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع وأجاره {ونهوا عن المنكر} المعرف بأنه لا أنس لهم إلا به سبحانه، ولا خوف لهم إلا منه، ولا رجاء فيه والآية دالة على صحة خلافة الأئمة الأربعة.
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفاً على {ولولا دفع} فللّه بادئة الأمور، عطف عليه قوله: {ولله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء {عاقبة الأمور} فتمكينهم كائن لا محالة، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان- كما هو المشاهد في الأغلب- حظاً في البادئة، ليتبين الصادق من الكاذب، والمزلزل من الثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخر ذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص. ولما كان في ترغيب هذه الآيات وترهيبها ما يعطف العاقل، ويقصف الجاهل، طوي حكم العاقل لفهمه ما سبق، وهو: فإن يؤمنوا بك مكناهم في الأرض، ودل عليه بعطف حكم الجاهل على غير مذكور في سياق يسلي به نبيه صلى الله عليه وسلم ويعزيه، ويؤنسه ويواسيه، فقال {وإن يكذبوك} أي أخذتهم وإن كانوا أمكن الناس، فقد فعلت بمن قبلهم ذلك، فلا يحزنك أمرهم {فقد كذبت} وأتى سبحانه بتاء التأنيث تحقيراً للمكذبين في قدرته وإن كانوا أشد الناس.
ولما كانت هذه الأمم لعظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كله، لم يأت بالجار فقال: {قبلهم قوم نوح} وكانوا أطول الناس أعماراً، وأشدهم اقتداراً؛ ولما لم يتعلق في هذا السياق غرض بالمخالفة في ترتيبهم، ساقهم على حسب ترتبيهم في الوجود فقال: {وعاد} أي ذوو الأبدان الشداد {وثمود} أولو الأبنية الطوال، في السهول والجبال {وقوم إبراهيم} المتجبرون المتكبرون {وقوم لوط} الأنجاس، بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس {وأصحاب مدين} أرباب الأموال، المجموعة من خزائن الضلال.
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحد ممن تقدمه، فكان تكذيبه في غاية من البعد، غير سبحانه الأسلوب تنبيهاً على ذلك، وعلى أن الذين أطبقوا على تكذيبه القبط، وأما قومه فما كذبه منهم إلا ناس يسير، فقال: {وكذب موسى} وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية {فأمليت للكافرين} أي فتعقب عن تكذيبهم أني أمهلتهم بتأخير عقوبتهم إلى الوقت الذي ضربته لهم، وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال: {ثم أخذتهم} ونبه سبحانه وتعالى على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب، وأهوال وغرائب، بالاستفهام في قوله: {فكيف كان نكير} أي إنكاري لأفعالهم، فليحذر هؤلاء الذين أتيتهم بأعظم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك.