فصل: تفسير الآيات (59- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (59- 63):

{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار، وكان ذلك من أفضل الرزق، قال دالاً على ختام التي قبل: {ليدخلنهم مدخلاً} أي دخولاً ومكان دخول قراءة نافع وأبي جعفر بفتح الميم، وإدخالاً ومكان إدخال على قراءة الباقين {يرضونه} لا يبغون به بدلاً، بما أرضوه به بما خرجوا منه.
ولما كان التقدير: فإن الله لشكور حميد، وكان من المعلوم قطعاً أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد، لأن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فلو أوخذ بذلك هلك، وكان ربما ظن ظان أنه لو علم ما قصروا فيه لغضب عليهم، عطف على ما قدرته قوله: {وإن الله} أي الذي عمت رحمته وتمت عظمته {لعليم} أي بمقاصدهم وما علموا مما يرضيه وغيره {حليم} عما قصروا فيه من طاعته، وما فرطوا في جنبه سبحانه.
ولما ختم هذه الآيات- التي الإذن للمظلومين في القتال للظالمين- بصفة الحلم، فكان ذلك مخيلة لوجوب العفو عن حقوق العباد كما في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، نفى ذلك بقوله إذناً للمجهارين فيمن أخرجهم من ديارهم أن يخرجوه من دياره ويذيقوه بعض ما توعده الله به من العذاب المهين: {ذلك} أي الأمر المقرر من صفة الله تعالى ذلك {ومن عاقب} من العباد بأن أصاب خصمه، لمصيبة يرجو فيها العاقبة {بمثل ما عوقب} أي عولج علاج من يطلب حسن العاقبة {به} من أي معاقب كان فلم يتجاوز إلى ظلم {ثم بغي} أي من أيّ باغ كان {عليه} بالعود إلى خصومته لأخذه حقه.
ولما كان ما يحصل للمبغي عليه بالكسر عوداً على بدء من الذل والهوان مبعداً لأن ينجبر، أكد وعده فقال: {لينصرنه الله} أي الذي لا كفوء له.
ولما قيد ذلك بالمثلية، وكان أمراً خفياً، لا يكاد يوقف عليه، فكان ربما وقعت المجاوزة خطأ، فظن عدم النصرة لذلك، أفهم تعالى أن المؤاخذة إنما هي بالعمد، بقوله؛ ويجوز أن يكون التقدير ندباً إلى العفو بعد ضمان النصر: إن الله لعزيز حكيم، ومن عفا وأصلح فقد تعرض لعفو الله عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، فهو احتباك: ذكر النصرة دليل العزة والحكمة، وذكر العفو منه سبحانه دليل حذف العفو من العبد {إن الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لعفو} أي عمن اقتص ممن ظلمه أول مرة {غفور} لمن اقتص ممن بغى عليه.
ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح، عاماً للخلائق، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال: {ذلك} أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين {بأن الله} المتصف بجميع صفات الكمال {يولج} لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن {الليل في النهار} فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار {ويولج النهار في الليل} فينسخ ضياءه بظلامه، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على ضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها {وأن الله} بجلاله وعظمته {سميع} لما يمكن أن يسمع {بصير} أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر، لأنه منزه عن الأعراض، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة، ولا يمكن أن يفوته أمر، أو يكون التقدير: ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم.
ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله: {ذلك} أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم {بأن الله} الحاوي لصفات الكمال، القادر على إخراج المعدوم وتجديد ما فات، من نشر الأموات وغيره {هو} وحده {الحق} أي الواجب الوجود {وأن ما يدعون} أي دعاء عبادة وهم لا يسمعون.
ولما كان سبحانه فوق كل شيء بقهره وسلطانه، قال محقراً لهم: {من دونه} أي من هذه الأصنام وغيرها، ولم يتقدم هنا من الدليل على بطلان الأوثان مثل ما ذكره في لقمان الداعي الحال إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: {هو الباطل} لأنه ممكن وجوده وعدمه، فليس له من ذاته إلا العدم كغيره من الممكنات {وأن الله} لكونه هو الحق الذي لا كفوء له {هو} وحده {العلي الكبير} وكل ما سواه سافل حقير، تحت قهره وأمره، فهو يحيي الموتى كما تقدم أول السورة.
ولما دل ما تضمنه رزقه سبحانه للميت في سبيله بقتل أو غيره على إحيائه له، ودل سبحانه على ذلك وعلى أنه خير الرازقين بما له من العظمة، وختم بهذين الوصفين، أتبعه دليلاً آخر على ذلك كله بآية مشاهدة جامعة بين العالم العلوي والسفلي قاضية بعلوه وكبره، فقال: {ألم تر} أي أيها المخاطب {أن الله} أي المحيط قدرة وعلماً {أنزل من السماء ماء} بأن يرسل رياحاً فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الملساء.
ولما كان هذا الاستفهام المتلو بالنفي في معنى الإثبات لرؤية الإنزال لكونه فيه معنى الإنكار، عطف على {أنزل} معقباً له على حسب العادة قوله، معبراً بالمضارع تنبيهاً على عظمة النعمة بطول زمان أثر المطر وتجدد نفعه: {فتصبح الأرض} أي بعد أن كانت مسودة يابسة، ميتة هامدة {مخضرة} حية يانعة، مهتزة نامية، بما فيه رزق العبادة، وعمار البلاد، ولم ينصب على أنه جوابه لئلا يفيد نفي الاخضرار، وذلك لأن الاستفهام من حيث فيه معنى الإنكار نفي لنفي رؤية الإنزال الذي هو إثبات الرؤية، فيكون ما جعل جواباً له منفياً، لأن الجواب متوقف على ما هو جوابه، فإذا نفى ما عليه التوقف انتفى المتوقف عليه، أي إذا نفى الملزوم انتفى اللازم، وإذا نفي السبب انتفى المسبب كما تقدم {فتكون لهم قلوب} فلو نصب يصبح على أنه جواب الاستفهام لكان المعنى أن عدم الاخضرار متوقف على نفي النفي للإنزال الذي هو إثبات الإنزال، وهو واضح الفساد- أفاده شيخنا الإمام أبو الفضل رحمه الله.
ولما كان هذا إنتاجاً للأشياء من أضدادها، لأن كلاًّ من الماء في رقته وميوعه والتراب في كثافته، وجموده في غاية البعد عن النبات في تنوعه وخضرته، ونموه وبهجته، قال سبحانه وتعالى منبهاً على ذلك: {إن الله} أي الذي له تمام العز وكمال العلم {لطيف} أي يسبب الأشياء عن أضدادها {خبير} أي مطلع على السرائر وإن دقت، فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، والإحسان في رزقه.

.تفسير الآيات (64- 67):

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}
ولما اقتضى ذلك أنهى التصرف، لأنه لابد بعد اختلاط الماء بالتراب من أمور ينشأ عنها النبات، على تلك الهيئات الغريبة المختلفة، فأوجب ذلك أن يكون هو المالك المطلق، قال: {له ما في السماوات} أي التي أنزل منها الماء، ولما كان السباق لإثبات البعث والانفراد بالملك والدلالة على ذلك، اقتضى الحال التأكيد بإعادة الموصول فقال: {وما في الأرض} أي التي استقر فيها، وذلك يقتضي ملك السماوات والأرضين، فإن كل واحدة منها في التي فوقها حتى ينتهي الأمر إلى عرشه سبحانه الذي لا يجوز أصلاً أن يكون لغيره.
ولما كان من المألوف عندنا أن المالك فقير إلى ما في يده؛ مذموم على إمساكه بالتقتير، وعلى بذله بالتبذير، بين أنه بخلاف ذلك فقال: {وإن الله} أي الذي له الإحاطة التامة {لهو} أي وحده {الغني} أي عنهما وعما فيهما، ما خلق شيئاً منهما أو فيهما لحاجة له إليه بل لحاجتكم أنتم إليه {الحميد} في كل ما يعطيه أو يمنعه، لما في ذلك من الحكم الخفية والجلية؛ ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: {ألم تر} أي أيها المخاطب {أن الله} أي الحائز لصقفات الكمال، من الجلال والجمال {سخّر لكم} فضلاً منه {ما في الأرض} كله من مسالكها وفجاجها وما فيها من حيوان وجماد، وزروع وثمار، فعلم أنه غير محتاج إلى شيء منه، ولما كان تسخير السلوك في البحر من أعجب العجب، قال: {والفلك} أي وسخرها لكم موسقة بما تريدون من البضائع. ثم بين تسخيرها بقوله: {تجري في البحر} أي العجاج، المتلاطم بالأمواج، بريح طيبة على لطف وتؤدة.
ولما كان الراكب فيها- مع حثيث السير وسرعة المر- مستقراً كأنه على الأرض، عظم الشأن في سيرها بقوله: {بأمره} ولما كان إمساكها على وجه الماء مع لطافته عن الغرق أمراً غريباً كإمساك السماء على متن الهواء عن الوقوع، أتبعه قوله: {ويمسك السماء} ثم فسر ذلك بقوله مبدلاً: {أن تقع} أي مع علوها وعظمها وكونها بغير عماد {على الأرض} التي هي تحتها.
ولما اقتضى السياق أنه لابد أن تقع لانحلاله إلى أن يمنع وقوعها لأنها جسم كثيف عظيم، ليس له من طبعه إلا السفول، أشار إلى ذلك بقوله: {إلا بإذنه} أي فيقع إذا أذن في وقوعها حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء. ولما كان هذا الجود الأعظم والتدبير المحكم محض كرم من غير حاجة أصلاً، أشار إليه بقوله: {إن الله} أي الذي له الخلق والأمر.
ولما كان الجماد كله متاعاً للحيوان، اقتضى تقديم قوله: {بالناس} أي على ظلمهم {لرؤوف} أي بما يحفظ من سرائرهم عن الزيغ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب ونصب المناسك، التي يجمع معظمها البيت الذي بوأه لإبراهيم عليه السلام، وهو التوحيد والصلاة والحج الحامل على التقوى التي بنيت عليها السورة، فإن الرأفة كما قال الحرالي: ألطف الرحمة وأبلغها، فالمرؤوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكن هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب، وهذا خاص بمن له بالمنعم نوع وصلة.
{رحيم} بما يثبت لهم عموماً من الدرجات على ما منحهم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية لما تقدم في الفاتحة من أن الرحيم خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية، وتقدم في البقرة تحقيق هذا الموضع.
ولما بين سبحانه جملاً من أمهات الدين، وأتبعها الإعانة لأهله على المعتدين، وختم بما بعد الموت للمهاجرين، ترغيباً في منابذة الكافرين، وعرّف بما له من تمام العلم وشمول القدرة، ومثل ذلك بأنواع من التصرف في خلق السماوات والأرضين، وأنهاه بالدلالة على أنه كله لنفع الآدميين نعمة منه، تلا ذلك بما هو أكبر منه نعمة عليهم فقال: {وهو} أي وحده {الذي أحياكم} أي عن الجمادية بعد أن أوجدكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً، منة منه عليكم مستقلة، لزم منها المنة بما تقدم ذكره من المنافع الدنيوية لتستمر حياتكم أولاً، الدينية لتنتفعوا بالبقاء ثانياً {ثم يميتكم} ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم، وزاجراً لهم عما طبعوا عليه من الأخلاق المذمومة {ثم يحييكم} للتحلي بفصل القضاء وإظهار العدل في الجزاء.
ولما علم أن كل ما في الوجود من جوهر وعرض نعمة على الإنسان حتى الحياة والموت، وكان من أجلى الأشياء، وكانت أفعاله معرضة عن الرب هذه النعم بالعبادة لغيره، أو التقصير في حقه على عموم فضله وخيره، ختم الآية سبحانه بقوله: {إن الإنسان لكفور} أي بليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به.
ولما تقدم ذكر المناسك، وكان لكثرة الكفار قد يقع في النفس أن إقامتها معجوز عنها، وكشف سبحانه غمة هذا السؤال بآية {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} وما بعدها، فأنتج ذلك علمنا بتصرفه التام بقدرته الباهرة، وعلمه الشامل المقتضي لإقبال العباد إليه، واجتماعهم كلهم عليه، فمن شك في قدرته على إظهار دينه بمدافعته عن أهله، أو نازع فيه فهو كفور، ذكر بإظهار أول هذا الخطاب بآخر ذلك الخطاب مؤكداً لما أجاب به عن ذلك السؤال من تمام القدرة وشمول العلم أنه هو الذي مكن لكل قوم ما هم فيه من المناسك التي بها انتظام الحياة، فإن وافقت الأمر الإلهي كانت سبباً للحياة الأبدية، وإلا كانت سبباً للهلاك الدائم، وهو سبحانه الذي نصب من الشرائع لكل قوم ما يلائمهم، لأنه بتغيير الزمان بإيلاج الليل في النهار على مر الأيام وتوالي الشهور والأعوام، بسبب من الأسباب- لأجل امتحان العباد، وإظهار ما خبأ في جبلة كل منهم من طاعة وعصيان، وشكر وكفران- ما يصير الفعل مصلحة بما يقتضيه من الأسباب بعد أن كان مفسدة وبالعكس، لاقتداره على كل شيء وإظهار اقتداره كما قال تعالى عند أول ذكره للنسخ: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] الآيات، فعلم أن منازعتهم فيه كفر، فلذلك أتبع هذا قوله من غير عاطف لما بينهما من تمام الاتصال: {لكل أمة} أي في كل زمان {جعلنا} أي بما لنا من العظمة {منسكاً} أي شرعاً لاجتماعهم به على خالقهم حيث وافق أمره، ولاجتماعهم على أهوائهم إذا لم يوافقه، وعن ابن جرير أن أصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو لشر.
ولما كان بحيث إن ما أراده سبحانه كان لا محالة، قال: {هم ناسكوه} أي متعبدون به، لأنا ندافع عنهم من يعاديهم فيه حتى يستقيم لهم أمره، لإسعادهم به أو إشقائهم، فمن شك في قدرتنا على تمكينهم منه فهو كفور، فإن وافق الأمر كان ربحاً وإيماناً، وإن خالفه كان كفراً وخسراناً.
ولما كان قد حكم بإظهار دينه على الدين كله، وبأن الكفار على كثرتهم يغلبون بعد ما هم فيه من البطر، أعلم بذلك بالتعبير بصيغة الزجر لهم بقوله مسبباً عن هذه العظمة: {فلا ينازعنك في الأمر} أي بما يلقيه الشيطان إليهم من الشبه ليجادلوا به، من طعنهم في دينك بالنسخ بقولهم: لو كان من عند الله لما أمر اليوم بشيء ونهي عنه غداً. لأنه يلزم منه البدء، فليس الأمر كما زعموا، بل هو دال على العم بالعواقب والاقتدار التام على شرع المذاهب، وغير ذلك من الشبه كما مضت الإشارة إليه، فلا يلتفت إليهم في شيء نازعوا فيه كائناً ما كان، وروي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم، ولا تأكلون ما قتل الله- يعنون الميتة.
ولما كان النهي عن المنازعة في الحقيقة له صلى الله عليه وسلم إلهاباً وتهييجاً إلى الإعراض عنهم لأنهم أهل لذلك، لأن كيدهم في تضليل، والإقبال على شأنه، وكان التعبير بما تقدم من تحويله إليهم لتأكيد الأمر مع دلالته على إجلاله صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بالنهي، عطف عليه قوله: {وادع} أي أوقع الدعوة لجميع الخلق {إلى ربك} أي المحسن إليك بإرسالك، بالحمل لهم على كل ما أمرك به متى ما أمرك، ولا يهولنك قولهم، فإنهم مغلوبون لا محالة، ولا تتأمل عاقبة من العواقب، بل أقدم على الأمر وإن ظن أن فيه الهلاك، فإنه ليس عليك إلا ذلك. وأما نظم الأمور على نهج السداد في إظهار الدين، وقهر المعاندين، فإلى الذي أمرك بتلك الأوامر، وأحكم الشأن في جميع الزواجر؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنك} مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار {لعلى هدى مستقيم} فإنه تأصيل العليم القدير وإن طرقه التغيير.