فصل: تفسير الآيات (68- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (68- 72):

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
ولما أمره بالإقبال على ما يهمه، والإعراض عن منازعتهم، في صيغة نهيهم عن منازعته، علمه الجواب إن ارتكبوا منهيه بعد الاحتهاد في دفعهم، لما لهم من اللجاج والعتو، فقال: {وإن جادلوك} أي في شيء من دينك بشيء مما تقدم من أقوالهم السفسافة أو بغيره {فقل} معرضاً عن عيب دينهم الذي لا أبين فساداً منه: {الله} أي الملك المحيط بالعز والعلم {أعلم بما تعملون} مهدداً لهم بذلك، مذكراً لنفسك بقدرة ربك، قاطعاً بذلك المنازعة من حيث رقّب، متوكلاً على الذي أمرك بذلك في حسن تدبيرك والمدافعة عنك ومجازاتهم بما سبق علمه به مما يستحقونه؛ قال الرازي في اللوامع: وينبغي أن يتأدب بهذا كل أحد، فإن أهل الجدل قوم جاوزوا حد العوام بتحذلقهم، ولم يبلغوا درجة الخواص الذين عرفوا الأشياء على ما هي عليه، فالعوام منقادون للشريعة، والخواص يغرفون أسرارها وحقائقها، وأهل الجدل قوم في قلوبهم اضطراب وانزعاج.
ولما أمره بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوفها إلى النصرة، رجاه في ذلك بقوله: مستأنفاً مبدلاً من مقول الجزاء تحذيراً لهم: {الله} أي الذي لا كفوء له {يحكم بينكم} أي بينك مع أتباعك وبينهم {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن {فيما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {فيه} أي خاصة {تختلفون} في أمر الدين، ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حل به قبله {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] قال البغوي: والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
ولما كان حفظ ما يقع بينهم على كثرتهم في طول الأزمان أمراً هائلاً، أتبعه قوله: {ألم تعلم أن الله} بجلال عزه وعظيم سلطانه {يعلم ما في} ولما كان السياق لحفظ أحوال الثقلين للحكم بينهم، وكان أكثر ما يتخيل أن بعض الجن يبلغ استراق السمع من السماء الدنيا، لم تدع حاجة إلى ذكر أكثر منها، فأفرد معبراً بما يشمل لكونه جنساً- الكثير أيضاً فقال: {السماء والأرض} مما يتفق منهم ومن غيرهم من جميع الخلائق الحيوانات وغيرها.
ولما كان الإنسان محل النسيان، لا يحفظ الأمور إلا بالكتاب، خاطبه بما يعرف، مع ما فيه من عجيب القدرة، فقال: {إن ذلك} أي الأمرالعظيم {في كتاب} كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه وكتب جزاءه؛ ولما كان جمع ذلك في كتاب أمراً بالنسبة إلى الإنسان متعذراً، أتبعه التعريف بسهولته عنده فقال: {إن ذلك} أي علم ذلك الأمر العظيم بلا كتاب، وجمعه في كتاب قبل كونه وبعده {على الله} أي الذي لا حد لعظمته، وحده {يسير}.
ولما أخبر سبحانه أن الشك لا يزال ظرفاً لهم- لما يلقى الشيطان من شبهه في قلوبهم القابلة لذلك بما لها من المرض وما فيها من الفساد إلى إتيان الساعة، وعقب ذلك بما ذكر من الحكم المفصلة، والأحكام المشرفة المفضلة، إلى أن ختم بأنه وحده الحكم في الساعة، مرهباً من تمام علمه وشمول قدرته، قال معجباً ممن لا ينفعه الموعظة ولا يجوز الواجب وهو يوجب المحال، عاطفاً على {ولا يزال}: {ويعبدون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {من دون الله} أي من أدنى رتبة من رتب الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال، وتنزهه عن شوائب النقص {ما لم ينزل به سلطاناً} أي حجة واحدة من الحجج.
ولما كان قد يتوهم أن عدم إنزال السلطان لا ينفيه، قال مزيلاً لهذا الوهم: {وما ليس لهم به علم} أي أصلاً {وما} أي والحال أنهم ما لهم، ولكنه أظهر إشارة إلى الوصف الذي استحقوا به الهلاك فقال: {للظالمين} أي الذين وضعوا التعبد في غير موضعه بارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر؛ وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار فقال: {من نصير} أي ينصرهم من الله، لا مما أشركوه به ولا من غيره، لا في مدافعة عنهم ولا في إثبات حجة لمذاهبهم، فنفى أن يكون أحد يمكنه أن يأتي بنصرة تبلغ القصد بأن يغلب المنصور عليه، وأما مطلق نصر لا يفيد بما تقدم من شبه الشيطان فلا.
ولما ذكر اعترافهم بما لا يعرف بنقل ولا عقل، ذكر إنكارهم لما لا يصح أن ينكر فقال: {وإذا تتلى} أي على سبيل التجديد والمتابعة من أيّ تالٍ كان {عليهم آياتنا} أي المسموعة على ما لها من العظمة والعلو، حال كونها {بينات} لا خفاء بها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع {تعرف} بالفراسة في وجوههم- هكذا كان الأصل، ولكنه أبدل الضمير بظاهر يدل على عنادهم فقال: {في وجوه الذين كفروا} أي تلبسوا بالكفر {المنكر} أي الإنكار الذي هو منكر في نفسه لما حصل لهم من الغيظ؛ ثم بين ما لاح في وجوههم فقال: {يكادون يسطون} أي يوقعون السطوة بالبطش والعنف {بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي الدالة على أسمائنا الحسنى، وصفاتنا العلى، القاضية بوحدانيتنا، مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا، لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها.
ولما استحقوا- بإنكارهم وما أرادوه من الأذى لأولياء الله- النكال، تسبب عنه إعلامهم بما استحقوه، فقال مؤذناً بالغضب بالإعراض عنهم، آمراً له صلى الله عليه وسلم بتهديدهم: {قل أفأنبئكم} أي أتعون فأخبركم خبراً عظيماً {بشر من ذلكم} الأمر الكبير من الشر الذي أردتموه بعباد الله التالين عليكم للآيات وما حصل لكم من الضجر من ذلك، فكأنه قيلك ما هو؟ فقيل: {النار} ثم استأنف قوله متهكماً بهم بذكر الوعد: {وعدها الله} العظيم الجليل {الذين كفروا} جزاء لهم على همهم هذا، فبئس الموعد هي {وبئس المصير}.

.تفسير الآيات (73- 76):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}
ولما أخبر تعالى عن أنه لا حجة لعابد غيره، وهدد من عاند، أتبعه بأن الحجة قائمة على أن ذلك الغير في غاية الحقارة، ولا قدرة له على دفع ما هدد به عابدوه ولا على غيره، فكيف بالصلاحية لتلك الرتبة الشريفة، والخطة العالية المنيفة، فقال منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً: {يا أيها الناس}.
ولما كان المقصود من المثل تعقله لا قائله، بني للمفعول قوله: {ضرب مثل} حاصله أن من عبدتموه أمثالكم، بل هم أحقر منكم {فاستمعوا} أي أنصتوا متدبرين {له} ثم فسره بقوله: {إن الذين تدعون} أي في حوائجكم، وتجعلونهم آلهة {من دون الله} أي الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترون، ولما تدعون فيها مفترون، لأن سلب القدرة عنها يبين أنها في أدنى المراتب {لن يخلقوا ذباباً} أي لا قدرة لهم على ذلك الآن، ولا يتجدد لهم هذا الوصف أصلاً في شيء من الأزمان، على حال من الأحوال، مع صغره، فكيف بما هو أكبر منه {ولو اجتمعوا} أي الذين زعموهم شركاء {له} أي الخلق، فهم في هذا أمثالكم {وإن} أي وأبلغ من هذا أنهم عاجزون عن مقاومة الذباب فإنه إن {يسلبهم الذباب} أي الذي تقدم أنه لا قدرة لهم على خلقه وهو في غاية الحقارة {شيئاً} من الأشياء جل أو قل مما تطلونهم به من الطيب أو تضعونه بين أيديهم من الأكل أوغيره {لا يستنقذوه} أي يوجدوا خلاصه أو يطلبوه {منه} فهم في هذا أحقر منكم، وجهة التمثيل به في الاستلاب الوقاحة، ولهذا يجوز عند الإبلاغ في الذب، فلو كانت وقاحته في الأسد لم ينج منه أحد، ولكن اقتضت الحكمة أن تصحب قوة الأسد النفرة، ووقاحة الذباب الضعف، وهو واحد لا جمع، ففي الجمع بين العباب والمحكم أن ابن عبيدة قال: إنه الصواب، ثم قال: وفي كتاب ما تلحن فيه العامة لأبي عثمان المازني: ويقال: هذا ذباب واحد، وثلاثة أذّبة، لأقل العدد ولأكثره ذباب، وقول الناس: ذبابة- خطأ، فلا تقله-.
ولما كان هذا ربما أفهم قوة الذباب، عرف أن المقصود غير ذلك بقوله، فذلكة للكلام من أوله: {ضعف الطالب} أي للاستنقاذ من الذباب، وهو الأصنام وعابدوها {والمطلوب} أي الذباب والأصنام، اجتمعوا في الضعف وإن كان الأصنام أضعف بدرجات.
ولما أنتج هذا جهلهم بالله، عبر عنه بقوله: {ما قدروا الله} أي الذي له الكمال كله {حق قدره} في وصفهم بصفته غيره كائناً من كان، فكيف وهو أحقر الأشياء. ولما كان كأنه قيل: ما قدره؟ قال: {إن الله} أي الجامع لصفات الكمال {لقوي} على خلق كل ممكن {عزيز} لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء بخلاف أصنامهم وغيرها.
ولما نصب الدليل على أن ما دعوه لا يصلح أن يكون شيء منه إلهاً بعد أن أخبر أنه لم ينزل إليهم حجة بعبادتهم لهم، وختم بما له سبحانه من وصفي القوة والعزة بعد أن أثبت أن له الملك كله، تلا ذلك بدليله الذي تقتضيه سعة الملك وقوة السلطان من إنزال الحجج على ألسنة الرسل بأوامره ونواهيه الموجب لإخلاص العبادة له المقتضي لتعذيب تاركها، فقال: {الله} أي الملك الأعلى {يصطفي} أي يختار ويخلص {من الملائكة رسلاً} إلى ما ينبغي الإرسال فيه من العذاب والرحمة، فلا يقدر أحد على صدهم عما أرسلوا له، ولا شك أن قوة الرسول من قوة المرسل {ومن الناس} أيضاً رسلاً يأتون عن الله بما يشرعونه لعباده، لتقوم عليهم بذلك حجة النقل، مضمومة إلى سلطان العقل، فمن عاداهم خسر وإن طال استدراجه. ولما كان ذلك لا يكون إلا بالعلم، قال: {إن الله} أي الذي له الجلال والجمال {سميع} أي لما يمكن أن يسمع من الرسول وغيره {بصير} أي مبصر عالم بكل ما يمكن عقلاً أن يبصر ويعلم، بخلاف أصنامهم.
ولما كان المتصف بذلك قد يكون وصفه مقصوراً على بعض الأشياء، أخبر أن صفاته محيطة فقال: {يعلم ما بين أيديهم} أي الرسل {وما خلفهم} أي علمه محيط بما هم مطلعون عليه وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه، فإنه يسلك من بين أيديهم ومن خلفهم رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وإن ظن الجاهلون غير ذلك، لاحتجابه سبحانه وتعالى في الأسباب، فلا يقع في فكر أصلاً أن المحيط علماً بكل شيء الشامل القدرة لكل شيء يكل رسولاً من رسله إلى نفسه، فيتكلم بشيء لم يرسله به، ولا أنه يمكن شيطاناً أو غيره أن يتكلم على لسانه بشيء، بل كل منهم محفوظ في نفسه {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3، 4] محفوظ عن تلبيس غيره {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] {وإلى الله} أي الذي لا كفوء له، وحده {ترجع} أي بغاية السهولة بوعد فصل لابد منه {الأمور} يوم يتجلى لفصل القضاء، فكيون أمره ظاهراً لاخفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد أنه منه. ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، والذي هو بهذه الصفة له أن يشرع ما يشاء، وينسخ من الشروع ما يشاء، ويحكم بما يريد.

.تفسير الآيات (77- 78):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
ولما أثبت سبحانه أن الملك والأمر له وحده، وأنه قد أحكم شرعه، وحفظ رسله، وأنه يمكن لمن يشاء أيّ دين شاء، وختم ذلك بما يصلح للترغيب والترهيب، وكانت العادة جارية بأن الملك إذا برزت أوامره وانبثت دعاته، أقبل إليه مقبلون، خاطب المقبلين إلى دينه، وهم الخلص من الناس، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي قالوا: آمنا {اركعوا} تصديقاً لقولكم {واسجدوا} أي صلوا الصلاة التي شرعتها للآدميين، فإنها رأس العبادة، لتكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان، وخص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة بهما، لأنهما- لمخالفتهما الهيئات المعتادة- هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما عنها جداً في السورة التي جمعت جميع الفرق الذين فيهم من يستقبح- لما غلب عليه من العتو- بعض الهيئات الدالة على ذل.
ولما خص أشرف العبادة، عم بقوله: {واعبدوا} أي بأنواع العبادة {ربكم} المحسن إليكم بكل نعمة دنيوية ودينية. ولما ذكر عموم العبادة، أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، وقد يكون بلا نية، فقال: {وافعلوا الخير} أي كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المرضى ونحو ذلك، من معالي الأخلاق بنية وبغير نية، حتى يكون ذلك لكم عادة فيخف عليكم عمله لله، وهو قريب من «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» قال أبو حيان: بدأ بخاص ثم بأعم. {لعلكم تفلحون} أي ليكون حالكم حال من يرجو الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب؛ قال ابن القطاع: أفلح الرجل: فاز بنعيم الآخرة، وفلح أيضاً لغة فيه. وفي الجمع بين العباب والمحكم: الفلح والفلاح: الفوز والبقاء وفي التنزيل {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] أي نالوا البقاء الدائم، وفي الخبر: أفلح الرجل: ظفر. ويقال لكل من أصاب خيراً: مفلح.
ولما كان الجهاد أساس العبادة، وهو- مع كونه حقيقة في قتال الكفار- صالح لأن يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل بالسيف وغيره، وكل اجتهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل، ختم به فقال: {وجاهدوا في الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له في كل ما ينسب إليه سبحانه، لا يخرج منه شيء عنه كما لا يخرج شيء من المظروف عن الظرف {حق جهاده} باستفراغ الطاقة في إيقاع كل ما أمر به من الجهاد العدو والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما جهاداً يليق بما أفهمته الإضافة إلى ضميره سبحانه من الإخلاص والقوة، فإنه يهلك جميع من يصدكم عن شيء منه.
ولما أمر سبحانه بهذه الأوامر، أتبعها بعض ما يجب به شكره، وهو كالتعليل لما قبله، فقال: {هو اجتباكم} أي اختاركم لجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أكرم الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم- لكونكم أتباعه- خير الأمم {وما جعل عليكم في الدين} الذي اختاره لكم {من حرج} أي ضيق يكون به نوع عذر لمن توانى في الجهاد الأصغر والأكبر كما جعل على من كان قبلكم كما تقدم ذكره بعضه في البقرة وغيرها، أعني {ملة}.
ولما كان أول مخاطب بهذا قريشاً، ثم مضر، وكانوا كلهم أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام حقيقة، قال: {أبيكم إبراهيم} أي الذي ترك عبادة الأصنام ونهى عنها، ووحد الله وأمر بتوحيده، يا من تقيدوا بتقليد الآباء! فالزموا دينه لكونه اباً، ولكوني أمرت به، وهو أب لبعض المخاطبين من الأمة حقيقة، ولبعضهم مجازاً بالاحترام والتعظيم، فيعم الخطاب الجميع، ولذلك حثهم على ملته بالتعليل بقوله: {هو} أي إبراهيم عليه السلام {سمّاكم المسلمين} في الأزمان المتقدمة {من قبل} أي قبل إنزال هذا القرآن، فنوّه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، وسماكم أيضاً مسلمين {وفي هذا} الكتاب الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب كما أخبرتكم عن دعوته في قوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128] لأنه بانتفاء الحرج يطابق الاسم المسمى، ويجوز- ولعله أحسن- أن يكون {هو سمّاكم} تعليلاً للأمر بحق الجهاد بعد تعليله بقوله: {هو اجتباكم} فيكون الضمير لله تعالى، ويشهد له بالحسن قراءة أبي رضي الله عنه بالجلالة عوضاً عن الضمير، أي أن كل أمة تسمت باسم من تلقاء نفسها، والله تعالى خصكم باسم الإسلام مشتقاً له من اسمه {السلام} [الحشر: 3] مع ما خصكم به من اسم الإيمان اشتقاقاً له من اسمه المؤمن، فأثبت لكم هذا الاسم في كتبه، واجتباكم لاتباع رسوله.
ولما كان الاسم إذا كان ناشئاً عن الله تعالى سواء كان بواسطة نبي من أنبيائه أو بغير واسطة يكن مخبراً عن كيان المسمى، وكان التقدير: رفع عنكم الحرج وسماكم بالإسلام لتكونوا أشد الأمم انقياداً لتكونوا خيرهم، علل هذا المعنى بقوله: {ليكون الرسول} يوم القيامة {شهيداً عليكم} لأنه خيركم، والشهيد يكون خيراً ولكون السياق لإثبات مطلق وصف الإسلام فقط، لم يقتض الحال تقديم الظرف بخلاف آية البقرة، فإنها لإثبات ما هو أخص منه {وتكونوا} بما في جبلاتكم من الخير {شهداء على الناس} بأن رسلهم بلغتهم رسالات ربهم، لأنكم قدرتم الرسل حق قدرهم، ولم تفرقوا بين أحد منهم، وعلمتم أخبارهم من كتابكم على لسان رسولكم صلى الله عليه وسلم، فبذلك كله صرتم خيرهم، فأهلتم للشهادة وصحت شهادتكم وقبلكم الحكم العدل، وقد دل هذا على أن الشهادة غير المسلم ليست مقبولة.
ولما ندبهم لأن يكونوا خير الناس، تسبب عنه قوله: {فأقيموا} أي فتسبب عن إنعامي عليكم بهذه النعم وإقامتي لكم في هذا المقام الشريف أني أقول لكم: أقيموا {الصلاة} التي هي زكاة قلوبكم، وصلة ما بينكم وبين ربكم {وآتوا الزكاة} التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم {واعتصموا بالله} أي المحيط بجميع صفات الكمال.
في جميع ما أمركم به، من المناسك التي تقدمت وغيرها لتكونوا متقين، فيذب عنكم من يريد أن يحول بينكم وبين شيء منها ويقيكم هول الساعة؛ ثم علل أهليته لاعتصامهم به بقوله: {هو} أي وحده {مولاكم} أي المتولي لجميع أموركم، فهو ينصركم على كل من يعاديكم، بحيث تتمكنون من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها؛ ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله: {فنعم المولى} أي هو {ونعم النصير} لأنه إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحداً أعلاه على كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته» الحديث، «إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت» وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها. فقد انطبق آخر السورة على أولها. ورد مقطعها على مطلعها- والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وهو الهادي للصواب.