فصل: تفسير الآيات (12- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 16):

{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}
ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله، أو مستثبتاً في أمره، ومنهم من كذبه، أتبعه سبحانه بعتابهم، في أسلوب خطابهم، مثنياً على من كذبه، فقال مستأنفاً محرضاً: {لولا} أي هلا ولم لا {إذ سمعتموه} أيها المدعون للإيمان. ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال: {ظن المؤمنون} أي منكم {والمؤمنات} وكان الأصل: ظننتم، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة: {بأنفسهم} حقيقة {خيراً} وهم دون من كذب عليها، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه، وبالمرأة إذا خلت بابنها، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين {وقالوا هذا إفك} أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه {مبين} أي واضح في نفسه، موضح لغيره، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول: خذوني فهو يسعى في التستر جهده، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي، إدلالاً بحسن عمله، غافلاً عما يظن به أهل الريب، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر، تعرف به خيانته، فالأمور تذاق، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه، ولقد عمل أبو أيوب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية؛ قال ابن اسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: بلى وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. وروى البغوي أنه قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه. ثم علل سبحانه بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه إلى ظن الخير: {لولا} أي هلا ولم لا {جاءو} أي المفترون له أولاً {عليه} إن كانوا صادقين {بأربعة شهداء} كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها.
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال: {فإذ} أي فحين {لم يأتوا بالشهداء} أي الموصوفين {فأولئك} أي البعداء من الصواب {عند الله} أي في حكم الملك الأعلى، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه {هم الكاذبون} أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً.
ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو، فقال عاطفاً على {ولولا} الماضية: {ولولا فضل الله} أي المحيط بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي معاملته لكم بمزيد الإنعام، الناظر إلى الفضل والإكرام، اللازم للرحمة {في الدنيا} بقبول التوبة والمعاملة بالحلم {والآخرة} بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم {لمسكم} أي عاجلاً عموماً {في ما أفضتم} أي اندفعتم على أي وجه كان {فيه} بعضكم حقيقة، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار {عذاب عظيم} أي يحتقر معه اللوم والجلد، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله: {إذ} أي مسكم حين {تلقونه} أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه {بألسنتكم} بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين {وتقولون} وقوله: {بأفواهكم} تصوير لمزيد قبحه، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل؛ وأكد هذا المعنى بقوله: {ما ليس لكم به علم} أي بوجه من الوجوه، وتنكيره للتحقير {وتحسبونه} بدليل سكوتكم عن إنكاره {هيناً وهو} أي والحال أنه {عند الله} أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته {عظيم} أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها، فكيف وهو في جنابها المصون، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم.
ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله: {لولا إذ سمعتموه} تأديباً فقال: {ولولا إذ} أي وهلا حين {سمعتموه قلتم} أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها عنه، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه: {ما يكون} أي ما ينبغي وما يصح {لنا أن نتكلم} حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار {بهذا} أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم: {سبحانك} تعجباً من أن يخطر بالبال، في حال من الأحوال.
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي: {هذا بهتان} أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله: {عظيم} والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه.

.تفسير الآيات (17- 19):

{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}
ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً، ترجمه بقوله: {يعظكم الله} أي يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله فيمهل بحمله، ولا يمهل بحكمته وعلمه، بالتحذير على وجه الاستعطاف: {أن} أي كراهة لأن {تعودوا لمثله أبداً} أي ما دمتم أهلاً لسماع هذا القول؛ ثم عظم هذا الوعظ، وألهب سامعه بقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي متصفين بالإيمان راسخين فيه فإنكم لا تعودون، فإن عدتم فأنتم غير صادقين في دعواكم الاتصاف به {ويبين الله} أي بما له من الاتصاف بصفات الجلال والإكرام {لكم الآيات} أي العلامات الموضحة للحق والباطل، من كل أمر ديني أو دنيوي {والله} أي المحيط بجميع الكمال {عليم} فثقوا ببيانه {حكيم} لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك، فلا تتوقفوا في أمر من أوامره، واعلموا أنه لم يختر لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا الخلص من عباده، على حسب منازلهم عنده، وقربهم من قلبه.
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً: {إن الذين يحبون} عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة {أن تشيع} أي تنتشر بالقول أو بالفعل {الفاحشة} أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها {في الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته، وتبوأ غايته {لهم عذاب أليم} ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى {في الدنيا} بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به {والآخرة} فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا {والله} أي المستجمع لصفات الجلال والجمال {يعلم} أي له العلم التام، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله، ولا تتجاوزوه تضلوا.

.تفسير الآيات (20- 22):

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب، منبهاً بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل: {ولولا فضل الله} أي الحائز لجميع الجلال والإكرام {عليكم ورحمته} بكم {وأن} أي ولولا أن {الله} أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه {رؤوف} بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود، الزاجرة عن الجهل، الحاملة على التقوى، التي هي ثمرة العلم، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد {رحيم} بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية، والجواب محذوف تقديره: لترككم في ظلمات الجهل تعمهون، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم.
ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم، بعد أن حذرهم موارد الجهل، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {لا تتبعوا} أي بجهدكم {خطوات} أي طريق {الشيطان} أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها في شيء من الأشياء، وكأنه أشار بصيغة الافتعال إلى العفو عن الهفوات.
ولما كان التقدير: فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف، عطف عليه قوله: {ومن يتبع} أي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال: {خطوات الشيطان} أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشئ عنها كل شر {فإنه} أي الشيطان {يأمر بالفحشاء} وهي ما أغرق في القبح {والمنكر} وهو ما لم يجوزه الشرع، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه، وربما درج بغير ذلك، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله، فصار في غاية السفول، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في {فإنه على من} والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح، عطف عليه قوله: {ولولا فضل الله} أي ذي الجلال والإكرام {عليكم} أي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه من الدنايا إلى المعالي {ورحمته} لكم بإكرامكم ورفعتكم بشرع التوبة المكفرة لما جرّ إليه الجهل من ناقص الأقوال وسفاف الأفعال {ما زكى} أي طهر ونما {منكم} وأكد الاستغراق بقوله: {من أحد} وعم الزمان بقوله: {أبداً ولكن الله} أي بجلاله وكماله {يزكي} أي يطهر وينمي {من يشاء} من عباده، من جميع أدناس نفسه وأمراض قلبه، وإن كان العباد وأخلاقهم في الانتشار والكثرة بحيث لا يحصيهم غيره، فلذلك زكى منكم من شاء فصانه عن هذا الإفك، وخذل من شاء.
ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {سميع} أي لجميع أقولهم {عليم} بكل ما يخطر في بالهم، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان، واصبروا على ذلك منهم، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم، فقبلت توبته، وغسلت حوبته، وهذا المراد من قوله: {ولا يأتل} أي يحلف مبالغاً في اليمين {أولوا الفضل منكم} الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم {والسعة} أي بما أوسعت عليهم في دنياهم.
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال: {أن يؤتوا} ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال: {أولي القربى} وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت! فقال سبحانه: {والمساكين} أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة {والمهاجرين} لأهلهم وديارهم وأموالهم {في سبيل الله} أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله، وتعدادها بجعلها علة للعفو- دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها.
ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو، وكان التقدير: فلؤتوهم، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله: {وليعفوا} أي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر. ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال: {وليصفحوا} أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك الإحسان، ومنه الصفوح وهو الكريم.
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال: {ألا تحبون} أي يا أولي الفضل {أن يغفر الله} أي الملك الأعظم {لكم} أي ما قصرتم في حقه، وسبب نزولها كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية.
وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه! ومن سؤدد وفخار ما أعلاه! ولاسيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين، وخير الخلائق أجمعين، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً، فيا لله من أخلاق ما أبهاها! وشمائل ما أطهرها وأزكاها! وأشرفها وأسندها.
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه: بلى والله! إنا لنحب أن يغفر الله لنا، وكان كأنه قيل: فاغفروا لمن أساء إليكم، فالله حكم عدل، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء، والله عليم شكور، يشكر لكم ما صنعتم إليهم، عطف عليه قوله: {والله} أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل {غفور رحيم} من صفته ذلك، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم، فإن الجزاء من جنس العمل.