فصل: تفسير الآيات (40- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (40- 44):

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}
ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفاً على {كسراب} قوله: {أو} للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق {كظلمات} أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة {في بحر} هو مثال قلب الكافر {لجي} أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضاً، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه: ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً، وبحر لجي: واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج. {يغشاه} أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه {موج} وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن {من فوقه} أي هذا الموج {موج} آخر {من فوقه} أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول {سحاب} قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض.
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: {ظلمات} أي من البحر والموجين والسحاب {بعضها}. ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: {فوق بعض} متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: {إذا أخرج} أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر {يده} وهي أقرب شيء إليه {لم يكد} أي الكائن فيه {يراها} أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه {ومن لم يجعل الله} أي الملك الأعظم {له نوراً} من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار {فما له من نور} أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.
ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك: {ألم تر} أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة {أن الله} الحائز لصفات الكمال {يسبح له} أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة {من في السماوات}.
ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: {والأرض} أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب {من} لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً: {والطير صافات} أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال: ليله قائم، ونهاره صائم، {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} [المائدة: 13] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال: {كل} أي من المخلوقات {قد علم} أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال {صلاته} أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه {وتسبيحه} أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتاً جامداً، وهذا بنموه مهتزاً رابياً، إلجاء وقهراً، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق» وقال الغزالي في الإحياء: وروي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون» قال فقلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه» قال الحافظ زين الدين العراقي: رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال: غريب من حديث مالك، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك.
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم بما يفعلون} بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185] ما ينفع هنا.
ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث، أخبر عنهما بالتصريح به فقال: {ولله} أي الذي لا ملك سواه {ملك السماوات والأرض} مع كونه مالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك، فهو جامع للملك والملك.
ولما كان التقدير: ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم، عطف عليه قوله: {وإلى الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {المصير} أي لهم كلهم بعد الفناء، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه.
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: {ألم تر أن الله} أي ذا الجلال والجمال {يزجي} أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق. {سحاباً} أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً، قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة، والمعنى: يسوق سحابة إلى سحابة. وهو معنى {ثم يؤلف بينه} أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة {ثم يجعله ركاماً} في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي المطر، قال القزاز: وقيل: هو احتفال المطر. {يخرج من خلاله} أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض {وينزل من السماء} أي من جهتها مبتدئاً من {من جبال فيها} أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال: {من برد} هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله: {فيصيب به} أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة {من يشاء} من الناس وغيرهم {ويصرفه عمن يشاء} صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال: {يكاد سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو، ملتبساً {بالأبصار} لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر، ونذيراً بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار، فقال مترجماً لما مضى بزيادة: {يقلب الله} أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً، والنقص تارة والزيادة أخرى، مع المطر تارة والصحو أخرى {الليل والنهار} فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم {لعبرة لأولي الأبصار} أي النافذة، والقلوب الناقدة، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية.

.تفسير الآيات (45- 51):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}
ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال: {والله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دآبة} أي مما تقدم أنه يسبح له.
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: {من ماء} أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء هامر كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه {فمنهم} أي الدواب.
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: {من يمشي على بطنه} أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة {ومنهم من يمشي على رجلين} أي ليس غير {ومنهم من يمشي على أربع} أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {يخلق الله} وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال: {ما يشاء} دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: {إن الله} أي الذي الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير}.
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقامت أدلة الوحدانية على ساق، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق، قال مترجماً لتلك الأدلة: {لقد أنزلنا} أي في هذه السورة وما تقدمها، بما لنا من العظمة {آيات} أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق، لأن الله قد أراد هدايتكم، بعضكم بالبيان، وبعضكم بخلق الإذعان {والله} أي الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من العابد كلهم {إلى صراط مستقيم} بالقوة بإنزال الآيات، والفعل بخلق الإيمان والإخبات، فيؤمنون إيماناً ثابتاً.
ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير: والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذكر الحكيم، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي، معجباً ممن عمي عن دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعالى أعظم من نور الشمس: {ويقولون} أي الذين ظهر لهم نور الله، بألسنتهم فقط: {آمنا بالله} الذي أوضح لنا جلاله، وعظمته وكماله {وبالرسول} الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة {وأطعنا} أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال: {ثم يتولى} أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله، ضلالاً منهم عن الحق {فريق منهم} أي ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة.
ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم- كما أشير إليه- في غاية البعد وإن كان في أقل زمن، أشار إليه بأداة التراخي، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ: {من بعد ذلك} أي القول السديد الشديد المؤكد، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق {وما أولئك} أي البعداء البضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد {بالمؤمنين} أي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً، وإنما هم من أهل الوصف اللساني، المجرد عن المعنى الإيقاني.
ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم، قبح عليهم ما أظهروه، فقال معبراً بأداة التحقيق: {وإذا دعوا} أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان {إلى الله} أي ما نصب الملك الأعظم من أحكامه {ورسوله ليحكم} أي الرسول {بينهم} بما أراه الله {إذا فريق منهم} أي ناس مجبولون على الأذى المفرق {معرضون} أي فاجؤوا الإعراض، إذا كان الحق عليهم، لاتباعهم أهواءهم، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه {وإن يكن} أي كوناً ثابتاً جداً {لهم} أي على سبيل الفرض {الحق} أي بلا شبهة {يأتوا إليه} أي بالرسول {مذعنين} أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، لا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً، ناسب أن يسأل عنه، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات: {أفي قلوبهم مرض} أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال {أم ارتابوا} بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق {أم} ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارئ، بل الخلل في الحاكم فهم {يخافون أن يحيف} أي يجور {الله} الغني عن كل شيء، لأن له كل شيء {عليهم} بنصب حكم جائر وهو منزه عن الأغراض {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس.
ولما لم يكن شيء من ذلك كائناً أضرب عنه فقال: {بل أولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة {الظالمون} أي الكاملون في الظلم، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب، لا أن فيها نوعاً واحداً منه، وليسوا يخافون الجور، بل هو مرادهم إذا كان الحق عليهم.
ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به، كان كأنه سئل عن حال المؤمنين فقال: {إنما كان} أي دائماً {قول المؤمنين} أي العريقين في ذلك الوصف، وأطبق العشرة على نصب القول ليكون اسم كان أوغل الاسمين في التعريف، وهو أن وصلتها لأنه لا سبيل عليه للتنكير، ولشبهه كما قال ابن جني في المحتسب بالمضمر من حيث إنه لا يجوز وصفه كما لا يجوز وصف المضمر، وقرأ على رضي الله عنه بخلاف وابن أبي إسحاق {قول} بارفع {إذا دعوا} أي من أي داع كان {إلى الله} أي ما أنزل الملك الذي لا كفوء له من أحكامه {ورسوله ليحكم} أي الله بما نصب من أحكامه أو الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخاطبهم به من كلامه {بينهم} أي في حكومة من الحكومات لهم أو عليهم {أن يقولوا سمعنا} أي الدعاء {وأطعنا} أي بالإجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كان التقدير: فأولئك هم المؤمنون، عطف عليه قوله: {وأولئك} أي العالو الرتبة {هم} خاصة {المفلحون} الذين تقدم في أول المؤمنون وصفهم بأنهم يدركون جميع مأمولهم.