فصل: تفسير الآيات (9- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 14):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
ولما أتم سبحانه ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم، التفت سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له فقال: {انظر} ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله: {كيف ضربوا} وقدم ما به العناية فقال: {لك الأمثال} فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلىلأرباح والفوائد، بلطيف الحيلة وغريز العقل، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل، وتارة ساحراً تأتي بما يعجز عنه قواهم، وتحير فيه أفكارهم {فضلوا} أي عن جميع طرق العدل، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولاً يستقرون عليه وأبعدوا جداً {فلا يستطيعون} في الحال ولا في المآل، بسبب هذا الضلال {سبيلاً} أي سلوك سبيل من السبل الموصلة غلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة، وفيافي مهلكة.
ولما ثبت أنه لا وجود لهم لأنهم لا علم لهم ولا قدرة، وأنهم لا يمن لهم ولا بركة، لا على أنفسهم ولا غيرهم، أثيت لنفسه سبحانه ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء فقال: {تبارك} أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة، لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك خيراً من ذلك} أي الذي قالوه على سبيل التهكم؛ ثم أبدل منه قوله: {جنات} فضلاً عن جنة واحدة {تجري من تحتها الأنهار} أي تكون أرضها عيوناً نابعة، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي.
ولما كان القصر- وهو بيت المشيد- ليس مما يستمر فيه الجعل كالجنة التي هذه صفتها، عبر فيه بالمضارع إيذاناً بالتجديد كلما حصل خلل يقدح في مسمى القصر فقال: {ويجعل لك قصوراً} أي بيوتاً مشيدة تسكنها بما يليق بها من الحشم والخدم، قال البغوي: والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً. وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم، لعلمهم بأن مراسله قادر على ما يريد، لكنه سبحانه أغناه عن ذلك بتأييده بالأعوان، من الملائكة والإنس والجان، حتى اضمحل أمرهم، وعيل صبرهم، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية، وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه، روى البغوي من طريق ابن المبارك، والترمذي- وقال: حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» وروي عن طريق أبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً ويقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» وسيأتي في سورة سبأ عند {وأرسلنا له عين القطر} [سبأ: 12] ما يتم هذا، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة- وإن كانت في أسلوب الشرط إلى ما فتح عليه صلى الله عليه وسلم من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خيبر ووادي القرى، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي، وفي القصور بالمضارع، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز، فإن اللائق بمقام الملوك أن تكون إشاراتهم أوسع من عباراتهم، فإذا ذكروا شيئاً ممكناً على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم، والممكن في كلامهم كالواجب، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء! وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى أعلى الناس فهماً، وأغزرهم علماً، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق. روى البيهقي في دلال النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة أربعين ذراعاً، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً قوياً، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة، قال عمرو: فكسرت حديدنا. وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة، فأخبر فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعاً، وكسرها في الثالثة، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل برقة تكبيرة، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان للقوم: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم! يا رسول الله! بأبينا أنت وأمنا! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر، لانرى شيئاً غير ذلك، فقال: أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها» فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله! موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون {هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22] وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فافتتح أصحابه رضي الله عنهم جميع ما ذكر، وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر، وقد كان صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك، لأن وعد الله لا خلف فيه، بل غائبه أعظم من حاضره غيره، وموعودة أوثق من ناجز سواه، فأعطى صلى الله عليه وسلم تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم، وأعطى خريم بن أوس- الذي يقال له: شويل- كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح علىأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة، نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عنه وفتحه على أصحابه، تشريفاً لهم بإزالة أهل الشرك عنه، وإنعاماً عليهم به تصديقاً لوعده، وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصر أوليائه وتكثير أمته، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين {ما لهذا الرسول} [الفرقان: 7] إلى آخره، وقد كان قادراً على أن يقويه بجميع ذلك قبل موته، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر، لأن نصره على خلاف ما ينصر به أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة، ولا أموال وافرة، ولا ملوك معينة قاهرة، بل كانت الملوك عليه، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه، بيد أصحابه من بعده وأحبابه.
ولما ثبت بما أثبت لنفسه الشريفة من الكمال أنه لا مانع من إيجاد ما ساقوه مساق التوبيخ إلا عدم المشيئة، لا عجز من الجاعل ولا هوان بالمجعول له، تسلية له صلى الله عليه وسلم في أسلوب مشير بأنه يعطيه ذلك، سلاه أيضاً بأن ما نسبوه إليه لا يعتقدون حقيقته، فأضرب عن كلامهم قائلاً: {بل} أي لا تظن أنهم كذبوا بما جئت به لأنهم يعتقدون فيك كذباً وافتراء للقرآن، أو نقصاناً لأكلك الطعام ومشيك في الأسواق، أو في شيء من أحوالك، أو لا تظن أنهم يكذبون بقدرته تعالى على ما ذكر أنه إن شاء جعله لك بل، أو المعنى: دع التفكر فيما قالوه من هذا فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل {كذبوا بالساعة} أي بقدرتنا عليها، واستقر ذلك في أنفسهم دهوراً طويلة، وأخذوه خلفاً عن سلف، وأشرب قلوبهم حب هذا الحطام الفاني، وتقيدت أوهامهم بهذه الظواهر كالبهائم، فعسر انفكاكهم عن ذلك بما جاءهم من البيان الذي لا يشكون فيه، فاجترؤوا لذلك على العناد لعدم الخوف من أهوال يوم القيامة كما قال تعالى عن أهل الكتاب: {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران: 24] {وأعتدنا} أي والحال أنا أعتدنا أي هيأنا بما لنا من العظمة {لمن كذب} من هؤلاء وغيرهم {بالساعة سعيراً} أي ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم {إذا رأتهم} أي إذا كانت بحيث يمكن أن يروها وتراهم لو كانت مبصرة {من مكان بعيد} وهو أقصى ما يمكن رؤيتها منه وهم يساقون إليها {سمعوا لها} أي خاصة {تغيظاً} أي صوتاً في غليانها وفورانها كصوت المتغيظ في تحرقه ونكارته إذا غلا صدره من الغضب {وزفيراً} أي صوتاً يدل على تناهي الغضب، وأصله صوت يسمع من الجوف.
ولما وصف ملاقاتها لهم، وصف إلقاءهم فيها قال: {وإذا ألقوا} أي طرحوا طرح إهانة فجعلوا بأيسر أمر ملاقين {منها} أي النار {مكاناً} ووصفه بقوله: {ضيقاً} زيادة في فظاعتها {مقرنين} بأيسر أمر، أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل، أو حبال المسد، أو مع من أغواهم من الشياطين، والتقرين: جمع شيء إلى شيء في قرن وهو الحبل {دعوا هنالك} أي في ذلك الموضع البغيض البعيد عن الرفق {ثبوراً} أي هلاكاً عظيماً فيقولون: يا ثبوراه! لأنه لا منادم لهم غيره، وليس بحضرة أحد منهم سواه؛ قال ابن جرير: وأصل الثبر في كلام العرب الانصراف عن الشيء. فالمعنى حينئذ: دعوا انصرافهم عن الجنة إلى النار الذي تسببوا فيه بانصرافهم عن الإيمان إلى الكفر، فلم يكن لهم سمير إلا استحضارهم لذلك تأسفاً وتندماً، فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله تعالى: {لا تدعوا اليوم} أيها الكفار {ثبوراً واحداً} لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب الهلاك {وادعوا ثبوراً كثيراً} لا يحصره الإحصاء ولا آخر له، فإنكم وقعتم فيما يوجب ذلك لأن أنواع الهلاك لا تبارحكم أصلاً ولكنه لا موت.

.تفسير الآيات (15- 18):

{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}
ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق، اقتضى الحال سؤالهم: هل أعدوا لما هددوا به من الخالق عدة أم لا؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة، وتهكماً بهم، فقال تعالى: {قل أذلك} أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة.
ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد، أو يكون ذلك على طريق التنزل وإرخاء العنان، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال: {خير أم جنة الخلد} أي الإقامة الدائمة {التي وعد المتقون} أي وقع الوعد الصادق المحتم بها، ممن وعده هو الوعد، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل؛ ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: {كانت} أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه {لهم جزاء} على تصديقهم وأعمالهم {ومصيراً} أي مستقراً ومنتهى، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل واسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات.
ولما ذكر تعالى نعيمهم بها ذكر، تنعمهم فيها فقال: {لهم فيها} أي الجنة خاصة لا في غيرها {ما يشاؤون} من كل ما تشتهيه أنفسهم {خالدين} لا يبغون عنه حولاً {كان} أي ذلك كله {على ربك} أي المحسن إليك بالإحسان إلى أتباعك {وعداً}.
ولما أشار سبحانه إلى إيجاب ذلك على نفسه العظيمة بالتعبير ب {على} والوعد، وكان الإنسان لاسيما مجبولاً على عزة النفس، لا يكاد يسمح بأن يسأل فيما لا يحقق حصوله، قال: {مسئولاً} أي حقيقاً بأن يسأل إنجازه، لأن سائله خليق بأن يجاب سؤاله، وتحقق ظنونه وآماله، فالمعنى أنه إذا انضاف إلى تحتيمه الشيء على نفسه سؤال الموعود به إياه، أنجز لا محالة، وهو من وادي {أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] وفيه حث عظيم على الدعاء، وترجية كبيرة للإجابة، كما وعد بذلك سبحانه في {أجيب دعوة الداع} [البقرة: 186] و{ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وإن لم ير الداعي الإنجاز فإن الأمر على ما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى المنذري: بأسانيد جيدة- والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: أما أن يجعل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر».
وللحاكم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ فيقول: نعم! يا رب فيقول: أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجيب لك؟ أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول: نعم! يا رب! فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً؟ قال: نعم! يا رب فيقول: إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها؟ فيقول: نعم! يا رب! فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها؟ فيقول: نعم! يارب! فيقول أني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة، فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه» ولابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد» وللترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وللبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» وفي رواية لمسلم والترمذي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» قال المنذري: يستحسر أي يمل ويعيى فيترك الدعاء- انتهى. وقد فهم من الآية ومن الحديث في استثناء الإثم وقطيعة الرحم أن ما لا مانع من سؤاله موعود بإجابته ونواله، فليدع الإنسان به موقناً بالإجابة.
ولما ذكر لهم حالهم في الساعة معه سبحانه، أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه، فقال بالالتفات إلى مظهر العظمة على قراءة الجماعة: {ويوم} أي قل لهم ما أمرتك به، واذكر لهم يوم {يحشرهم} أي المشركين، بما لنا من العظمة التي نبرزها في ذلك اليوم، من القبور؛ وقرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وحفص عن عاصم بالياء التحتية فيكون الضمير للرب {وما يعبدون} أي من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن يعقل وممن لا يعقل؛ ونبه على سفول رتبتهم عن ذلك وعدم أهليتهم بقوله: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، وذكرها بلفظ ما إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جماد بل عدم بالنسبة إليه سبحانه بما أشار إليه التعبير بالاسم الأعظم الدال على جميع الكمال، مع أن ما موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم وإن كان أكثر استعماله في غير العقلاء، وعبر سبحانه بقوله: {فيقول} بإعادة ضمير الغيبة بعد التعبير بنون العظمة في {نحشر} في قراءة غير ابن عامر لتقدم الجلالة الشريفة، تحقيقاً للمراد وتصريحاً به، وإعلاماً بأن المراد بالنون العظمة لا جمع، وقرأ ابن عامر بالنون موحداً الأسلوب: {أنتم} أي أيها المعبودات! بإيلاء الهمزة الضمير سؤالاً عن المضل، لأن ضلال العبدة معروف لا يسأل عنه {أضللتم} بالقهر والخداع والمكر {عبادي هؤلاء} حتى عبدوكم كما في الآية الأخرى: {ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} [سبأ: 40] في أمثالها من الآيات كما في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالهم الشياطين» {أم} ولما كان السؤال- كما مضى- عن الفاعل لا عن الفعل، كان لابد من قوله: {هم} أي باختيار منهم لإهمالهم استعمال ما أعطيتهم من قويم العقل وسديد النظر {ضلوا} وأوصل الفعل بدون عن كما في هداة الطريق بدون إلى لكثرة الدور، وللإشارة إلى قوة الفعل فقال: {السبيل} أي الذي نهجته ونصبت عليه الأدلة القاطعة، البراهين الساطعة {قالوا} أي المعبودات الحي منهم والجماد، المطيع والعاصي: {سبحانك} أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال.
ولما أنتج التنزيه أنهم لا فعل لغيره سبحانه، عبروا عنه بقولهم: {ما كان ينبغي} أي يصح ويتصور {لنا أن نتخذ} أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك {من دونك} وكل ما سواك فهو دونك {من أولياء} أي ينفعوننا، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء من العلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده، وهو أبعد بعيد من كل معنى من معاني الولاية، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك، وهذه عبارة صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم، فإن كانت من الصالحين فمعناها: ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم، كما قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس} [آل عمران: 79] الآية؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى: ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك، ولكن فعلوه بطراً؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى: ما كان لنا هذا، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس- فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة، وقراءة ابي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعنى، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره.
ولما كان المعنى: إنا ما أضللناهم، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله، وفي الظاهر بطرهم النعمة، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن إمعان النظر، وأوقفتهم مع الظواهر، حسن الاستدراك بقوله: {ولكن} أي ما أضللناهم نحن، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت {متعتهم وآباءهم} في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن، وأطلت أعمارهم في ذلك {حتى نسوا الذكر} الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل، مع البراءة من شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها، فأنت الملك الفعال لما تريد، لا فعل لأحد سواك {وكانوا} في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} هلكى.