فصل: تفسير الآيات (73- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 77):

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}
ولما ذكر وصفهم الذي فاقوا به، أشار إلى وصف الجهلة الذي سفلوا به، فقال: {والذين إذا ذكروا} أي ذكرهم غيرهم كائناً من كان، لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله {بآيات ربهم} أي الذي وفقهم لتذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة {لم يخروا} أي لم يفعلوا فعل الساقطين المستعلين {عليها} الساترين لها؛ ثم زاد في بيان إعراضهم وصدهم عنها فقال منبهاً على أن المنفي القيد لا المقيد، وهو الخرور، بل هو موجود غير منفي بصفة السمع والبصر: {صماً وعمياناً} أي كما يفعل المنافقون والكفار في الإقبال عليها سماعاً واعتباراً، والإعراض عنها تغطية لما عرفوا من حقيتها، وستراً لما رأوا من نورها، فعل من لا يسمع ولا يبصر كما تقدم عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق، وذلك وصف لعباد الرحمن بفعل ضد هذا، أي أنهم يسقطون عند سماعها ويبكون عليها، سقوط سامع منتفع بسمعه، بصير منتفع ببصره وبصيرته، سجداً يبكون كما تقدم في أول أوصافهم وإن لم يبلغوا أعلى الدرجات البصيرة- بما أشارت إليه المبالغة بزيادة النون جمع العمى.
ولما ذكر هذه الخصلة المثمرة لما يلي الخلصة الأولى، ختم بما ينتج الصفة الأولى. فقال مؤذناً بأن إمامة الدين ينبغي أن تطلب ويرغب فيها: {والذين يقولون} علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة: {ربنا هب لنا من أزواجنا} اللاتي قرنتها بنا كما فعلت لنبيك صلى الله عليه وسلم، فمدحت زوجته في كلامك القديم، وجعلت مدحها يتلى على تعاقب الأزمان والسنين {وذرياتنا قرة} ولما كان المتقون- الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها- قليلاً في جنب العاصين، أتى بجمع القلة ونكر فقال: {أعين} أي من الأعمال أو من العمال يأتمون بنا، لأن الأقربين أولى بالمعروف، ولا شيء أسر للمؤمن ولا أقر لعينه من أن يرى حبيبه يطيع الله، فما طلبوا إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم، ف من إما تكون مثلها في: رأيت منك أسداً، وإما أن تكون على بابها، وتكون القرة هي الأعمال، أي هب لنا منهم أعمالاً صالحة فجعلوا أعمال من يعز عليهم هبة لهم، وأصل القرة البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد، فجعل ذلك كناية عن السرور {واجعلنا} أي إيانا وإياهم {للمتقين} أي عامة من الأقارب والأجانب.
ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في المتابعة واحدة، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس، فقالوا: {إماماً} أي فنكون علماء مخبتين متواضعين كما هو شأن إمامة التقوى في إفادة التواضع والسكينة، لنحوز الأجر العظيم، إذ الإنسان له أجره وأجر من اهتدى به فعمل بعمله «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وعكسه.
ولما وصف سبحانه عباده المؤمنين بضد أوصاف الكافرين من الرفق والسكينة، والتواضع والحلم والطمأنينة والشكر لربهم والرغبة إليه والرهبة منه. وقال الرازي: فوصف مشيهم خطابهم وانتصابهم له ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتهم وتيقظهم وانتباههم وصدقهم ومحبتهم ونصحهم. تشوف السامع إلى ما لهم عنده بعد المعرفة بما للكافرين، فابتدأ الخبر عن ذلك بتعظيم شأنهم فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة، العظيمو المنزلة. ولما كان المقصود إنما هو الجزاء، بني للمفعول قوله: {يجزون} أي فضلاً من الله على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية، والأحوال الصافية {الغرفة} أي التي هي لعلوها واتساعها وطيبها لا غرفة غيرها، لأنها منتهى الطلب، وغاية الأرب، لا يبغون عنها حولاً، ولا يريدون بها بدلاً، وهي كل بناء عال مرتفع، والظاهر أن المراد بها الجنس.
ولما كانت الغُرَب في غابة التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن، رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء فقال: {بما صبروا} أي أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، وغير ذلك من معاني جلالهم.
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة، قال: {ويلقون} أي يجعلهم الله لاقين بأيسر أمر؛ وهلى قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف والبناء للفاعل والأمر واضح {فيها تحية} أي دعاء بالحياة من بعضهم لبعض، ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم، ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله ينطقون، وذلك على وجه الإكرام والإعظام مكان ما أهانهم عباد الشيطان {وسلاماً} أي من الله ومن الملائكة وغيرهم، وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب.
ولما كان هذا ناطقاً بدوام حياتهم سالمين بصريحه، وبعظيم شرفهم بلازمه، دل على أنهم لا يبرحون عنه بقوله: {خالدين فيها} أي الغرفة مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا؛ ودل على علو أمرها، وعظيم قدرها، بإبراز مدحها في مظهر التعجب فقال: {حسنت} أي ما أحسنها {مستقراً} أي موضع استقرار {ومقاماً} أي موضع إقامة.
ولما ثبت أمر الرحمانية، فظهر أمر الرحمن وما عليه عباده من الدعاء الذي هو الخضوع والإخلاص، وختم أوصافهم الحسنة بالدعاء حقيقة الدال على الإخلاص في الخضوع، وذكر حسن جزائهم وكريم منقلبهم، أمر النذير أن يقول لعباد الشيطان الذين تكبروا عن السجود للرحمن، وعن الاعتراف والإيمان، ليرجعوا عن العصيان، ويزداد المؤمنون في الطاعات والإيمان: إن ربه لا يعتد بمن لا يدعوه، فمن ترك دعاءه فليرتقب العذاب الدائم، فقال: {قل ما يعبأ} أي يعتد ويبالي ويجعلكم ممن يسد به في موضع التعبئة الآن- على أن {ما} نافية {بكم} أي أيها الكافرون {ربي} أي المحسن إليّ وإليكم برحمانيته، المخصص لي بالإحسان برحيميته، وإنما خصه بالإضافة لا عترافه دونهم {لولا دعاؤكم} أي نداؤكم له في وقت شدائدكم الذي أنتم تبادرون إليه فيه خضوعاً له به لينجيكم، فإذا فعلتم ذلك أنقذكم مما أنتم فيه، معاملة لكم معاملة من يبالي بالإنسان ويعتد به ويراعيه، ولولا دعاؤه إياكم لتعبدوه رحمة لكم لتزكوا أنفسكم وتصفّوا أعمالكم ولا تكونوا حطباً للنار {فقد كذبتم} أي فتسبب عن ذلك لسوء طباعكم ضد ما كان ينبغي لكم من الشكر والخير بأن عقبتم بالإنجاء وحققتم وقرنتم التكذيب بالرحمن بعد رحمتكم بالبيان مع ضعفكم وعجزكم، وتركتم ذلك الدعاء له وعبدتم الأوثان، وادعيتم له الولد وغيره من البهتان، أو ما يعتد بكم شيئاً من الاعتداد لولا دعاؤكم إياه وقت الشدائد، فهو يعتد بكم لأجله نوع اعتداد، وهو المدة التي ضربها لكم في الدنيا لا غيرها، بسب أنكم قد كذبتم، أو ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، لأنكم قد كذبتم، فكنتم شراً من البهائم، فدعاكم فتسبب عن دعائه إياكم أنكم فاجأتم الداعي بالتكذيب، والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء، لأنكم مكذبون، وإنما قلت: الآن لأن ما لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، عكس لا {فسوف} أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يجازيكم على ذلك، ولكنه مع قوته وقدرته واختياره لا يعاجلكم، بل {يكون} جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال، وكل بعيد عندكم قريب عنده، وكل آتٍ قريب، فتهيؤوا واعتدوا لذلك اليوم {لزاماً} أي لازماً لكم لزوماً عظيماً لا انفكاك له عنكم بحال، وهذا تنبيه على ضعفهم وعجزهم، وذلهم وقهرهم، لأن الملزوم لا يكون إلا كذلك، فأسرهم يوم بدر من أفراد هذا التهديد، فقد انطبق آخر السورة على أولها بالإنذار بالفرقان، لمن أنكر حقيقة الرحمن- والله ولي التوفيق بالإيمان.

.سورة الشعراء:

.تفسير الآيات (1- 5):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)}
{طسم} لعله إشارة إلى الطهارة الواقعة بذي طوى من طور سيناء وطيبة ومكة وطيب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مما يجمع ذلك كله- كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرشد إلى ذلك، وإلى خلاص بني إسرائيل بما سمعه موسى عليه السلام من الكلام القديم، وبإتمام أمرهم بتهيئتهم للملك بإغراق فرعون وجنوده ونصرهم على من ناوأهم في ذلك الزمان بعد تطهيرهم بطول البلاء الذي أوصلهم إلى ذل العبودية، وذلك كله إشارة إلى تهديد قريش بأنهم إن لم يتركوا لددهم فعل بهم ما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال بأي وجه أراد. وخلص عباده منهم، وأعزهم على كل من ناوأهم.
ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل، وبين ذلك غاية البيان، وفصل الرحمن من عباد الشيطان، وأخبر أنه عم برسالته صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق، وختم بشديد الإنذار لأهل الإدبار، بعد أن قال {فقد كذبتم} وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم، كما كان في آخر سوة مريم، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان، والحفظ عن نوازل الحدثان، وكان ذلك أيضاً ربما أوجب أن يظن ظان، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال {تلك} أي الآيات العالية المرام، الحائزة أعلى مراتب التمام، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم {ءايات الكتاب} أي الجامع لكل فرقان {المبين} أي الواضح في نفسه أنه معجز، وأنه من عند الله، وأن فيه كل معنى جليل، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها، فإن الإبانة هي الفصل والفرق، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفاً الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها- والله الموفق.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين، وختمت بما ذكر من الوعيد، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام، وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه: {لعلك باخع نفسك} الآيتين، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35]، {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13]، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99]، {ولو شاء الله ما فعلوه} [الأنعام: 137] ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير {أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} {وإذ نادى ربك موسى} وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة، وتأنيساً له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفاً على فوت إيمان قومه؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون} فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها، وتعجز العقول عن تقديرها، ثم أخبر تعالى أنه {بلسان عربي مبين} ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال: {وإنه لفي زبر الأولين} وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين} الآية، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب- مع أنه هدى ونور- قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى:
{يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26]، {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] فقال تعالى في هذا المعنى {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} الآيات، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون} أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه، بل هم معزولون عن السمع، مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم- والمراد المؤمنون- فقال: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه، وأهلية ما تخيلوه، فقال: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه صلى الله عليه وسلم عما تقولوه، ثم هددكم وتوعدهم فقال: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} انتهى.
ولما كان قد قدم في تلك أنه عم برسالته جميع الخلائق، وختم بالإنذار على تكذيبهم في تخلفهم، مع إزاحة جميع العلل، نفي كل خلل، وكان ذلك مما يقتضي شدة أسفه صلى الله عليه وسلم على المتخلفين كما هو من مضمون {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} على ما تقدم. وذلك لما عنده صلى الله عليه سلم من مزيد الشفقة، وعظيم الرحمة، قال تعالى يسليه، ويزيل من أسفه ويعزيه، على سبيل الاستئناف، مشيراً إلى أنه لا نقص في إنذاره ولا في كتابه الذي ينذر به يكون سبباً لوقوفهم عن الإيمان. وإنما السبب في ذلك محض إرادة الله تعالى: {لعلك باخع نفسك} أي مهلكها غمّاً. وقاتلها أسفاً، من بخع الشاة إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار {أن} أي لأجل أن {لا يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك- لمزيد حرصك على نفعهم- بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.
ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: {إن نشأ} وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: {ننزل} إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت والقهر، قال: {عليهم} وقال محققاً للمراد: {من السمآء} أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، أشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال: {آية} أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على {ننزل} لأنه في معنى {أنزلنا}: {فظلت} أي عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر وألإعراض {لها} أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة {خاضعين} جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطامن والسكون واللين ذلاً وانكساراً {وما} أي هذه صفتنا والحال أنه ما {يأتيهم} أي الكفار {من ذكر} أي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله: {إلا كانوا} أي كوناً هو كالخلق لهم؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص إلى ما لهم من سعة الأفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال: {عنه} أي خاصة {معرضين} أي إعراضاً هو صفة لهم لازمة.