فصل: تفسير الآيات (117- 129):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (117- 129):

{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)}
ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك: {قال} شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه: {رب} أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاماً بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال: {إن قومي كذبون} أي فلا نية لهم في اتباعي {فافتح} أي احكم {بيني وبينهم فتحاً} أي حكماً يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم {ونجني ومن معي} أي في الدين {من المؤمنين} مما تعذب به الكافرين.
ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال: {فأنجيناه ومن معه} أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم {في الفلك} ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال: {المشحون} أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.
ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد- ومظهر العظمة فقال: {ثم أغرقنا بعد} أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه {الباقين} أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيراً.
ولما كان ذلك أمراً باهراً، عظمه بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لآية} أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي أكثر العالمين بذلك {مؤمنين} وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق {وإن ربك} المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك، وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية {الرحيم} أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم؟ هل اتعظ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً: {كذبت عاد} أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين} بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم هود} لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه {ألا} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم {تتقون} أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله: {إني لكم رسول} أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون} أي في كل ما آمركم به من دوام تعظيمه {وما} أي أنا رسول داع والحال أني ما {أسئلكم عليه} أي الدعاء {من أجر} فتتهموني به {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين}.
ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظاً لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال: {أتبنون بكل ريع} أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان: وقال أبو عبيدة: الريع الطريق. وقال مجاهد: الفج بين الجبلين، وقيل: السبيل سلك أم لم يسلك. وأصله في اللغة الزيادة {آية} أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها.
ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال: {تعبثون} والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه.
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: {وتتخذون مصانع} أي أشياء بأخذ الماء، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال: {لعلكم تخلدون} وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.

.تفسير الآيات (130- 143):

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)}
ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال: {وإذا بطشتم} أي بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة {بطشتم جبارين} أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي: والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار، تسبب عنه أن قال: {فاتقوا الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام {وأطيعون}.
ولما كان ادكار الإحسان موجباً للإذعان، قال مرغباً في الزيادة ومرهباً من الحرمان: {واتقوا الذي أمدكم} أي جعل لكم مدداً، وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام {بما تعلمون} أي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر.
ولما أجمل، فصل ليكون أكمل، فقال: {أمدكم بأنعام} أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون. ولما قدم ما يقيم الأود، أتبعه قوله: {وبنين} أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز. ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال: {وجنات} أي بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها، وأشار إلى دوام الريّ بقوله: {وعيون}.
ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون: ما الذي تبقيه منه؟ قال: {إني أخاف عليكم} أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم- إن تماديتم على المعصية {عذاب يوم عظيم} وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب {قالوا} راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، {سواء علينا أوعظت} أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله: {أم لم تكن من الواعظين} أي متأهلاً لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدوداً في عدادهم، مذكوراً فيما بينهم، فهو أبلغ من أم لم تعظ أو تكن واعظاً، والوعظ كما قال البغوي: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. والمعنى أن الأمر مستوٍ في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن} أي ما {هذا} أي الذي جئتنا به {إلا خلق} بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي {الأولين*} أي كذبهم، أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام {وما نحن بمعذبين*} لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة.
ولما تضمن هذا التكذيب، سبب عنه قوله: {فكذبوه} ثم سبب عنه قوله: {فأهلكناهم} أي بالريح بما لنا من العظمة التي لا تذكر عندها عظمتهم، والقوة التي بها كانت قوتهم {إن في ذلك} أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين {لآية} أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي أكثر من كان بعدهم {مؤمنين*} فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان {وإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه {الرحيم*} في إنعامه وإكرامه وإحسانه، مع عصيانه وكفرانه، وإرسال المنذرين وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم، فلا يهلك إلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار؛ ثم دل على ذلك لمن قد ينسى إذ كان الإنسان مجبولاً على النسيان بقوله: {كذبت ثمود} وهو أهل الحجر {المرسلين*} وأشار إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي الذي يعرفون صدقه وأمانته، وشفقته وصيانته {صالح} وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض {ألا تتقون*} ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} أي من الله، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك، وإلا لم أعرضه عليكم {أمين*} لا شيء من الخيانة عندي، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم، الذي لا أحد أرحم بكم منه.

.تفسير الآيات (144- 154):

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)}
ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر، سبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق. ولما ذكر الأمانة قال: {وأطيعون*}.
ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال: {وما} أي إني لكم كذا والحال أني ما {أسئلكم عليه} وأعرق في النفي بقوله: {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين*} أي المحسن إليهم أجمعين، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم.
ولما ثبتت الأمانة، وانتفى موجب الخيانة، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره، فقال مخوفاً لهم من سطواته، ومرغباً في المزيد من خيراته. منكراً عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن، واستنادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني: {أتتركون} أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله {في ما هاهنا} أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم {آمنين*} أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن. بين ما أجمل بقوله مذكراً لهم بنعمة الله ليشكروها: {في جنات} أي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون*} تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع {وزروع} وأشار إلى عظم النخيل ولاسيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله: {ونخل طلعها} أي ما يطلع منها من الثمر؛ قال الزمخشري: كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. {هضيم*} أي جواد كريم من قولهم: يد هضوم- إذا كانت تجود بما لديها، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله القزاز معناه أنه قد هضم- أي ضغط- بعضه بعضاً لتراكمه، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كثير متقارب النضد، لا فرج بينه، ولطيف لين هش طيب الرائحة، من الهضم بالتحريك، وهو خمس البطن ولطف الكشح؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة، والهضم: البخور، والمهضومة: طيب يخلط بالمسك واللبان؛ قال الرازي في اللوامع: أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس، أو يهضم الطعام، وكل هذا يرجع إلى لطافته.
ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفاً على {أتتركون} أو مبيناً لحال الفاعل في {آمنين}: {وتنحتون} أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال بيوتاً فارهين*} أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيماً بذلك وبطراً، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره؛ واجتناب زواجره {وأطيعون*} أي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.
فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم فيكون سبباً لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون {ولا تطيعوا}.
ولما كان لانقياد للآمر إنما هو بواسطة ما ظهر من أمره قال: {أمر المسرفين*} اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقاً: ثم وصفهم بما بين إسرافهم، وهو ارتكاب الفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال: {الذين يفسدون في الأرض} أي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله.
ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحاً، نفى ذلك بقوله: {ولا يصلحون*} أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقاً في الإسراف بجمع هذين الأمرين.
ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه، عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين*} أي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور، وهي الرئات، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، يقال: سحره أي علله بالطعام والشراب. ويؤيده تفسيره بقولهم إشارة إلى أنه لا يصلح للرسالة: {ما أنت إلا بشر مثلنا} أي فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة، وهل يكون الرسول من البشر، وإتباعهم الوصف الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه. فالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل: الزمان حلو حامض، أي مر، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزوها إلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم: {فأت بآية} أي علامة تدلنا على صدقك {إن كنت} أي كوناً هو غاية الرسوخ {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريباً في قصة شعيب عليه السلام.