فصل: تفسير الآيات (82- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (82- 86):

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}
ولما فرغ من عظيم زجرهم بتسليته صلى الله عليه وسلم في أمرهم وختم بالإسلام، عطف عليه ذكر ما يوعدون مما تقدم استعجالهم له استهزاء به، وبدأ منه بالدابة التي تميز المسلم من غيره، فقال محققاً بأداة التحقيق: {وإذا وقع القول} أي حان حين وقوع الوعيد الذي هو معنى القول، وكأنه لعظمه لا قول غيره {عليهم} بعضه بالإتيان حقيقة وبعضه بالقرب جداً {أخرجنا} أي بما لنا من العظمة {لهم} من أشراط الساعة {دآبة} وأيّ دابة في هولها وعظمها خلقاً وخلقاً {من الأرض} أي أرض مكة التي هي أم الأرض، لأنه لم يبق بعد إرسال أكمل الخلق بأعلى الكتب إلا كشف الغطاء.
ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال: {تكلمهم} أي بكلام يفهمونه، روى البغوي من طريق مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» ومن طريق ابن خزيمة عن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة، ثم تمكن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية، ثم بينما الناس يوماً في أعظم المساجد على الله عز وجل حرمة وأكرمها على الله عز وجل- يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو- كذا قال عمرو- يعني ابن محمد العبقري أحد رواة الحديث- ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط ذلك، فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب، فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان! الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في الأموال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن: يا مؤمن، ويقال للكافر: يا كافر»؛ ومن طريق الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر».
ثم علل سبحانه إخراجه لها بقوله: {أن الناس} أي بما هم ناس لم يصلوا إلى أول أسنان الإيمان، وهو سن {الذين آمنوا} بل هم نائسون مترددون مذبذبون تارة، وتارة {كانوا} أي كوناً هو لهم كالجبلة {بآياتنا} أي المرئيات التي كتبناها بعظمتنا في ذوات العالم، والمسموعات المتلوات، التي أتيناهم بها على ألسنة أكمل الخلق: الأنبياء والرسل، حتى ختمناهم بإمامهم الذي هو أكمل العالمين، قطعاً لحجاجهم، ورداً عن لجاجهم، ولذا عممنا برسالته وأوجبنا على جميع العقل أتباعه {لا يوقنون} من اليقين، وهو إتقان العلم بنفي الشبه، بل هم فيها مزلزلون، فلم يبق بعده صلى الله عليه وسلم إلا كشف الغطاء عما ليس من جنس البشر بما لا تثبت له عقولهم.
ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر بما لا يستطيعون دفعه، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه يجمعهم يوم القيامة في ناحية، وسوقهم من غير اختلاط بالفريق الآخر، فقال عاطفاً على العامل في {وإذا وقع القول}: {ويوم نحشر} أي نجمع- بما لنا من العظمة- على وجه الإكراه؛ قال أبو حيان: الحشر: الجمع على عنف {من كل أمة فوجاً} أي جماعة كثيرة {ممن يكذب} أي يوقع التكذيب للهداة على الاستمرار، مستهيناً {بآياتنا} أي المرئية بعدم الاعتبار بها، والمسموعة بردها والطعن فيه على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ وأشار إلى كثرتهم بقوله متسبباً عن العامل في الظرف من نحو: يكونون في ذل عظيم: {فهم يوزعون} أي يكف بأدنى إشارة منه أولهم على- آخرهم، وأطرافهم على أوساطهم، ليتلاحقوا، ولا يشذ منهم أحد، ولا يزالون كذلك {حتى إذا جاءوا} أي المكان الذي أراده الله لتبكيتهم {قال} لهم ملك الملوك غير مظهر لهم الجزم بما يعلمه من أحوالهم، في عنادهم وضلالهم، بل سائلاً لهم إظهاراً للعدل بإلزامهم بما يقرون به من أنفسهم، وفيه إنكار وتوبيخ وتبكيت وتقريع: {أكذبتم} أي أيها الجاهلون {بآياتي} على ما لها من العظم في أنفسها، وبإتيانها إليكم على أيدي أشرف عبادي {و} الحال أنكم {لم تحيطوا بها علماً} أي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى الإحاطة بها في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه ويليق بها بدليل لا مرية فيه {أمّاذا كنتم} أي في تلك الأزمان بما هو لكم كالجبلات {تعملون} فيها هل صدقتم بها أو كذبتم بعد الإحاطة بعلمها؟ أخبروني عن ذلك كله! ما دهاكم حيث لم تشتغلوا بهذا العمل المهم؟ فإن هذا- وعزتي- مقام العدل والتحرير، ولا يترك فيه قطمير ولا نقير، ولا ظلم فيه على أحد في جليل ولا حقير، ولا قليل ولا كثير، والسؤال على هذا الوجه منبه على الاضطرار إلى التصديق أو الاعتراف بالإبطال، لأنهم إن قالوا: كذبنا، فإن قالوا مع عدم الإحاطة كان في غاية الوضوح في الإبطال، وإن قالوا مع الإحاطة كان أكذب الكذب.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق: فأجابوا بما تبين به أنهم ظالمون، عطف عليه قوله: {ووقع القول} أي مضمون الوعيد الذي هو القول حقاً، مستعلياً {عليهم بما ظلموا} أي بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما نشأ عنه من الضلال، في الأقوال والأفعال {فهم لا ينطقون} أي بسبب ما شغلهم من وقوع العذاب المتوعد به مما أحاط بقواهم، فهد أركانهم، وما انكشف لهم من أنه لا ينجيهم شيء.
ولما ذكر الحشر، استدل عليه بحشرهم كل ليلة إلى المبيت، والختم على مشاعرهم، وبعثهم من المنام، وإظهار الظلام الذي هو كالموت بعد النور، وبعث النور بعد إفنائه بالظلام، فقال: {ألم يروا} مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به {أنا جعلنا} أي بعظمتنا التي لا يصل أحد إلى مماثلة شيء منها الدالة على تفردنا وفعلنا بالاختيار {الليل} أي مظلماً {ليسكنوا فيه} عن الانتشار {والنهار مبصراً} أي بإبصار من يلابسه، لينتشروا فيه في معايشهم بعد أن كانوا ماتوا الموتة الصغرى، وكم من شخص منهم بات سوياً لا قلبة به فمات، ولو شئنا لجعلنا الكل كذلك لم يقم منهم أحد، وعدل عن {ليبصروا فيه} تنبيهاً على كمال كونه سبباً للإبصار، وعلى أنه ليس المقصود كالسكون، بل وسيلة المقصود الذي هو جلب المنافع، فالآية من الاحتباك: ذكر السكون أولاً دليل على الانتشار ثانياً، وذكر الإبصار ثانياً دليل على الإظلام أولاً، ثم عظم هذه الآية حثاً على تأمل ما فيها من القدرة الهادية إلى سواء السبيل فقال: {إن في ذلك} أي الحشر والنشر الأصغرين مع آيتي الليل والنهار {لآيات} أي متعددة، بينة على التوحيد والبعث الآخر والنبوة، لأن من قلب الملوين لمنافع الناس الدنيوية، أرسل الرسل لمنافعهم في الدراين.
ولما كان من مباني السورة تخصيص الهداية بالمؤمنين، خصهم بالآيات لاختصاصهم بالانتفاع بها وأن كان الكل مشتركين في كونها دلالة لهم، فقال: {لقوم يؤمنون} أي قضيت بأن إيمانهم لا يزال يتجدد، فهم كل يوم في علو وارتفاع.

.تفسير الآيات (87- 91):

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)}
ولما ذكر هذا الحشر الخاص، والدليل على مطلق الحشر والنشر، ذكر الحشر العام، لئلا يظن أنه إنما يحشر الكافر، فقال مشيراً إلى عمومهم بالموت كما عمهم بالنوم، وعمومهم بالإحياء كما عمهم بالإيقاظ: {ويوم ينفخ} أي بأيسر أمر {في الصور} أي القرن الذي جعل صوته لإماتة الكل.
ولما كان ما ينشأ عنه من فزعهم مع كونه محققاً مقطوعاً به كأنه وجد ومضى، يكون في آن واحد، أشار إلى ذلك وسرعة كونه بالتعبير بالماضي فقال: {ففزع} أي صعق بسسب هذا النفخ {من في السماوات}.
ولما كان الأمر مهولاً، كان الإطناب أولى، فقال: {ومن في الأرض} أي كلهم {إلا من شاء الله} أي المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة، أن لا يفزع؛ ثم أشار إلى النفخ لإحياء الكل بقوله: {وكل} أي من فزع ومن لم يفزع {أتوه} أي بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها، دليلاً على تمام القدرة في كونه أقامهم بما به أنامهم {داخرين} أي صاغرين منكسرين؛ واستغنى عن التصريح به بما يعلم بالبديهة من أنه لا يمكن إتيانهم في حال فزعهم الذي هو كناية عن بطلان إحساسهم، هذا معنى ما قاله كثير من المفسرين والذي يناسب سياق الآيات الماضية- من كون الكلام في يوم القيامة الذي هو ظرف لما بين البعث ودخول الفريقين إلى داريهما- أن يكون هذا النفخ بعد البعث وبمجرد صعق هو كالغشي كما أن حشر الأفواج كذلك، ويؤيده التعبير بالفزع، ويكون الإتيان بعده بنفخة أخرى تكون بها الإقامة، فهاتان النفختان حينئذ هما المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «يصعق الناس يوم القيامة» الحديث، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى لفظاً ومعنى، ويحل ما فيه من إشكال في آخر سورة الزمر.
ولما ذكر دخورهم، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً، وأهول أمراً، فقال: عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره: كانت أمور محلولة، معبراً بالمضارع لأن ذلك وإن شارك الفزع في التحقق قد فارقه في الحدوث والتجدد شيئاً فشيئاً: {وترى الجبال} أي عند القيام من القبور، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ليدل ذلك- لكونه صلى الله عليه وسلم أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة- على عظم الأمر، وإما لكل أحد لأن الكل صاروا بعد قيامهم أهلاً للخطاب بعد غيبتهم في التراب {تحسبها جامدة} أي قائمة ثابته في مكانها لا تتحرك، لأن كل كبير متباعد الأقطار لا يدرك مشيته إلا تخرصاً {وهي تمر} أي تسير حتى تكون كالعهن المنفوش فينسفها الله فتقع حيث شاء كأنها الهباء المنثور، فتستوي الأرض كلها بحيث لا يكون فيها عوج، وأشار إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله: {مر السحاب} أي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا طبق الجو لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإن لم تنكشف الشمس بلا لبس، وكذا كل كبير الجرم أو كثير العد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه بكثرته البصر، يكون سائراً، والناظر الحاذق يظنه واقفاً.
ولما كان ذلك أمراً هائلاً، أشار إلى عظمته بقوله، مؤكداً لمضمون الجملة المتقدمة: {صنع الله} أي صنع الذي له الأمر كله ذلك الذي أخبر أنه كائن في ذلك اليوم صنعاً، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادي على سداده، والصارخ بعلو مقداره، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا هكذا، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع: {الذي أتقن كل شيء}.
ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن، والنظام الأمكن، أنتج قطعاً قوله: {إنه} أي الذي أحكم هذه الأمور كلها {خبير بما يفعلون} أي لأن الإتقان نتيجة القدرة، وهي نتيجة العلم، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لا، لأنه في سياق البيان لعماهم، ونفي العلم عنهم، وقرئ بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا، المرهب من الإبعاد، المقرون بالسخط، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة، وما أبدع ما لاءم ذلك ولاحمه ما بعده على تقدير الجواب لسؤال من كأنه قال: ماذا يكون حال أهل الحشر مع الدخور عند الناقد البصير؟ فقال: من إتقانه للأشياء أنه رتب الجزاء أحسن ترتيب {من جاء بالحسنة} أي الكاملة وهي الإيمان {فله} وهو من جملة إحكامه للأشياء {خير} أي أفضل {منها} مضاعفاً، أقل ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله، وأكرمت وجوههم عن النار، وهؤلاء أهل القرب الذين سبقت لهم الحسنى {وهم من فزع يومئذ} أي إذا وقعت هذه الأحوال، العظيمة الأهوال {آمنون} أي حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفزع إفزاعاً واحداً، ولأمر ما أعجز القوي، وأخرس الشقاشق والادعاء {ومن جاء بالسيئة} أي التي لا سيئة مثلها، وهي الشرك لقوله: {فكبت} أي بأيسر أمر {وجوههم في النار} مع أنه ورد في الصحيح أن مواضع السجود- التي أشرفها الوجوه- لا سبيل للنار عليها، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس.
ولما كانوا قد نكسوا أعمالهم وعكسوها بعبادة غير الله، فوضعوا الشيء في غير موضعه، فعظموا ما حقه التحقير، واستهانوا أمر العلي الكبير. وكان الوجه محل ظهور الحياء والانكسار، لظهور الحجة، وكانوا قد حدقوا الأعين جلادة وجفاء عند العناد، وأظهروا في الوجوه التجهم والعبوس والارتداد، بدع قوله بناء على ما تقديره بما دل عليه الاحتباك: وهم من فزع يومئذ خائفون، وليس لهم إلا مثل سيئتهم: {هل} أي مقولاً لهم: هل {تجزون} أي بغمس الوجوه في النار؛ وبني للمفعول لأن المرغب المرهب الجزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه يكون بأيسر أمر، لأن من المعلوم أن المجازي هو الله لا غيره {إلا ما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي تكررون عمله وأنتم تزعمون أنه مبني على قواعد العلم بحيث يشهد كل من رآه أنه مماثل لأعمالكم سواء بسواء، وهو شامل أيضاً لأهل القسم الأول، والآية من الاحتباك: ذكر الخيرية والأمن أولاً دليلاً على حذف المثل والخوف ثانياً، والكب في النار ثانياً دليلاً على الإكرام عنه أولاً.
ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة: المبدأ والمعاد والنبوة، ومقدمات القيامة وأحوالها، وبعض صفتها وما يكون من أهوالها، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب، مرهبة أعظم ترهيب، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول: فما الذي نعمل ومن نعبد؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي. المأمور بإبلاغ هذه الجوامع، الداعي لمن سمعه، الهادي لم اتبعه، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه، وهو ما أمره به ربه، فقال: {إنما أمرت} أي بأمر من لا يرد له أمر، ولا يعد أن يكون بدلاً من قوله: {الحمد لله وسلام على عباده الذين اصصفى} فيكون محله نصباً بقل، وعظم المأمور به بإحلاله محل العمدة فقال: {أن أعبد} أي بجميع ما أمركم به {رب} أي موجب ومدبر وملك؛ وعين المراد وشخصه وقربة تشريفاً وتكريماً بقوله: {هذه البلدة} أي مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من يراها، ثم تؤمن أهل السعادة، أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما عدلتموه به سبحانه وادعيتم أنهم شركاء، وهم من جملة ما خلق؛ ثم وصف المعبود الذي أمر بعبادة أحد غيره بما يقتضيه وصف الربوبية، وتعين البلدة التي أشار إليها بأداة القرب لحضورها في الأذهان لعظمتها وشدة الإلف بها وإرادتها بالأرض التي تخرج الدابة منها، فصارت لذلك بحيث إذا أطلقت البلدة انصرفت إليها وعرف أنها مكة، فقال: {الذي حرمها} تذكيراً لهم بنعمته سبحانه عليهم وتربيته لهم بأن أسكنهم خير بلاده، وجعلهم بذلك مهابة في قلوب عباده، بما ألقى في القلوب من أنها حرم، لا يسفك بها دم، ولا يظلم أحد، ولا يباح بها صيد، ولا يعضد شجرها، وخصها بذلك من بين سائر بلاده والناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون لا ينالهم شيء من فزعهم وهولهم.
ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف، قال احتراساً عما لعله يتوهم: {وله كل شيء} أي من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً وملكاً، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم.
ولما كانوا ربما قالوا: ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال: {وأمرت} أي مع الأمر بالعبادة له وحده، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال: {أن أكون} أي كوناً هو في غاية الرسوخ {من المسلمين} أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد، ثابتاً على ذلك غاية الثبات.