فصل: تفسير الآيات (18- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 23):

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}
ولما كان التقدير: فإن تصدقوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة، عطف عليه قوله: {وإن تكذبوا} والذي دلنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف {فقد} أي فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه {كذب أمم} في الأزمان الكائنة {من قبلكم} كثيرة، كعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة والمطيع للرسول وهلاك العاصي له، ولم يضر ذلك بالرسول شيئا وما ضروا به إلا أنفسهم {وما على الرسول} أن يقهركم على التصديق، بل ما عليه {إلا البلاغ المبين} الموضح مع- ظهوره في نفسه- للأمر بحيث لا يبقى فيه شك، بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.
ولما كان التقدير: ألم تروا إلى مصارعهم؟ واتساق الحال في أمرهم؟ فيكفيكم ذلك زاجراً، عطف عليه للدلالة على الرجوع إليه منكراً قوله: {أو لم يروا} بالخطاب في قراءة حمزة والكسائي وفي رواية عن أبي بكر عن عاصم جرياً على النسق السابق، وبالغيب للباقين، إعراضاً للإيذان بالغضب {كيف يبدئ الله} أي الذي له كل كمال {الخلق} أي يجدد إبداءه في كل لحظة، وهو بالضم من أبدأ، وقرئ بالفتح من بدأ، وهما معاً بمعنى الإنشاء من العدم؛ قال القزاز: أبدأت الشيء أبدئه إبداء- إذا أنشأته، والله المبدئ أي الذي بدأ الخلق، يقال: بدأهم وأبدأهم، وفي القاموس: بدأ الله الخلق: خلقهم كأبدأ. ورؤيتهم للإبداء موجودة في الحيوان للإبداء والإعادة في النبات، ولا فرق في الإعادة بين شيء وشيء فيكون قوله- {ثم يعيده} أي يجدد إعادته في كل لمحة- معطوفاً على {يبدئ} ولو لم يكن كذلك لكان عطفه عليه من حيث إن مشاهدة حال الابتداء جعلت مشاهدة لحال الإعادة من حيث إنه لا فرق، ولا حاجة حينئذ إلى تكلف عطفه على الجملة من أولها. ثم حقر أمره بالنسبة إلى عظيم قدرته، فقال ذاكراً نتيجة الأمر السابق: {إن ذلك} أي الإبداء والإعادة، وأكد لأجل إنكارهم {على الله يسير} لأنه الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص.
ولما ساق العزيزالجليل هذا الدليل، عما حاج به قومه الخليل، انتهزت الفرصة في إرشاد نبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وذلك أنه لما استدل عليه السلام على الوحدانية المستلزمة للقدرة على المعاد بإبطال إلهية معبوداتهم المستلزم لإبطال كل ما شاكلها، فحصل الاستعداد للتصريح بأمر المعاد، فصرح به، كان ذلك فخراً عظيماً، ومفصلاً بيناً جسيماً، لإقامة الحجة على قريش وسائر العرب، فانتهزت فرصته واقتحمت لجته، كما هي عادة البلغاء، ودأب الفصحاء الحكماء، لأن ذلك كله إنما سيق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعظاً لقومه فقيل: {قل} أي يا محمد لهؤلاء الذين تقيدوا بما تقلدوا من مذاهب آبائهم من غير شبهة على صحته أصلاً: قد ثبت أن هذا كلام الله لما ثبت من عجزكم عن معارضته، فثبت أن هذا الدليل كلام أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنتم مصرحون بتقليد الآباء غير متحاشين من معرته ولا أب لكم أعظم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإذا قلدتم من لا يفارقه في عبادة ما لا يضر ولا ينفع من غير شبهة أصلاً فقلدوا أباكم الأعظم في عبادة الله وحده لكونه أباكم، ولما أقام على ذلك من الأدلة التي لا مراء فيها قال: أو {سيروا} إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، وتتأملوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع {في الأرض} إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم.
ولما كان السياق لإثبات الإلهية التي تجب المبادرة إلى تفريغ الفكر وتوجيه كل الذهن إلى الاستدلال عليها، عبر بالفاء المعقبة فقال: {فانظروا} أي نظر اعتبار {كيف بدأ} أي ربكم الذي خلقكم ورزقكم {الخلق} من الحيوانات والنبات من الزروع والأشجار، وغيرها مما تضمنته الجبال والسهول والأوعار، وهذا يدل على أن الأول فيما هو أعم من الحيوان، فتقريرهم على الإعادة فيه حسن.
ولما كان المقصود بالذات بيان الإعادة التي هي من أجل مقاصد السورة، لإظهار ما مضى أولها من العدل يوم الفصل، وكانوا بها مكذبين، بين الاهتمام بأمرها بإبراز الاسم الأعظم بعد تكريره في هذا السياق غير مرة، وأضمره في سياق البداءة لإقرارهم له بها، إشارة إلى أنه باطن في هذه الدار، ظاهر بجميع الصفات في تلك، فقال: {ثم الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال فلا يفوته شيء، المتردي بالجلال، فاخشوا سطوته، واتقوا عقوبته ونقمته {ينشئ النشأة الآخرة} بعد النشأة الأولى. ثم علل ذلك بقوله مؤكداً تنزيلاً لهم منزلة المنكر لإنكارهم البعث: {إن الله} فكرر ذكره تنبيهاً بعد التيمن به على ما ذكره وعلى أنه في كل أفعاله لاسيما هذا مطلق غير مقيد بجهة من الجهات، ولا مشروط بأمر من الأمور {على كل شيء قدير} لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة.
ولما ثبت ذلك، أنتج لا محالة قوله: مهدداً بعد البيان الذي ليس بعده إلا العناد: {يعذب} بعدله {من يشاء} أي منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة، فلا يقدر أحد بشفاعة ولا غيرها على الحماية منه {ويرحم} بفضله {من يشاء} فلا يقدر أحد على أن يمسه بسوء {وإليه} أي وحده {تقلبون} أي بعد موتكم بأيسر سعي.
ولما لم يبق للقدرة على إعادتهم مانع يدعي إلا ممانعتهم منها، أبطلها على تقدير ادعائهم لها فقال: {وما أنتم} أي أجمعون العرب وغيرهم {بمعجزين} أي بواقع إعجازهم في بعثكم وتعذيبكم {في الأرض} كيفما تقلبتم في ظاهرها وباطنها.
ولما كان الكلام هنا له أتم نظر إلى ما بعد البعث، وكانت الأحوال هناك خارجة عما يستقل به العقل، وكان أثر القدرة أتم وأكمل، وأهم وأشمل، وكان بعض الأرواح يكون في السماء بعد الموت قال: {ولا في السماء} أي لو فرض انكم وصلتم إليها بعد الموت بالحشر أو قبله، لأن الكل بعض ملكه، فكيف يعجزه من في ملكه، ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمرود في بنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لاسيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبلها ومن بعدها.
ولما اخبرهم أنهم مقدور عليهم، وكان ربما بقي احتمال أن غيرهم ينصرهم، صرح بنفيه فقال: {وما لكم} أي أجمعين أنتم وغيركم أيها المحشورون، وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله: {من دون الله} أي الذي هو أعظم من كل عظيم؛ وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ولي} أي قريب يحميكم لأجل القرابة {ولا نصير} لشيء غير ذلك لأنه لا كفوء له.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه أولئك يرجون رحمتي وأولئك لهم نعيم مقيم، وكان قد أمرهم بالاستدلال، وهددهم ليرجعوا عن الضلال، بما أبقى للرجال بعض المحال، أتبعه ما قطعه، فقال عاطفاً على ذلك المقدر: {والذين كفروا} أي ستروا ما أظهرته لهم أنوار العقول {بآيات الله} أي دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها {ولقائه} بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل على قدرته عليه بما لا أجلى منه {أولئك} أي البعداء البغضاء البعيدو الفهم المحطوطون عن رتبة الإنسان، بل رتبة مطلق الحيوان {يئسوا} أي تحقق يأسهم من الآن، بل من الأزل، لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً؛ ولا قال أحد منهم {رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
ولما كان أكثرهم متعنتاً، بين أن المتكلم بهذا الكلام، العالي عن متناول الأنام، هو الله المنوه باسمه في هذا النظام، بالالتفات إلى أسلوب التلكم، تنبيهاً لمفات السامعين بما ملأ الصدور وقصم الظهور فقال: {من رحمتي} أي من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم؛ وكرر الإشارة تفخيماً للأمر فقال: {وأولئك} أي الذين ليس بعد بعدهم بعد، وتهكم بهم في التعبير بلام الملك التي يغلب استعمالهما في المحبوب فقال: {لهم عذاب أليم} أي مؤلم بالغ إيلامه في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآيات (24- 27):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
ولما ختم سبحانه هذه الجملة الاعتراضية بما ابتدأها به وبما ختم به ما قبلها من كلام الخليل عليه الصلاة والسلام، وزاد هذا ما ترى من التهديد الشديد، شرع في إكمال قصته عليه الصلاة والسلام دالاً على أنه لا أحد يعجزه، ولا يقدر على نصر أحد من عذابه الأليم، مشيراً إلى أنهم سببوا عن قوله ضد ما يقتضيه إيذاناً بالعناد، والإصرار على سوء الاعتقاد، فقال: {فما كان جواب قومه} أي الذين يرجى قبولهم لنصحه علماً منهم بوفور شفقته وعظم أمانته ونصيحته {إلا أن قالوا} بأعظم فظاظة {اقتلوه} أي بالسيف {أو حرقوه} أي بالنار.
ولما استقر رأي الجميع على هذا الثاني، ولم يكن له فيهم نصير، أشار إليه سبحانه بقوله ناسقاً له على ما تقديره: فأبى المعظم القتل لأنه عذاب مألوف لمن يستحقه من المجرمين، وهو قد عمل عملة مفردة في الدهر فالذي ينبغي أن يخص العذاب عليها بعذاب لم يعهد مثله وهو الإحراق على هيئة غريبة، فرجعوا عن القتل واستقر رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملأ ما بين الجبال، وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال، وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة إنجاء وحيّاً من غير احتياج إلى تدريج {من النار} أي من إحراقها وأذاها، ونفعته بأن أحرقت وثاقه.
ولما اشتملت قصته بهذا السياق على دلائل واضحات، وأمور معجزات، عظم أمرها سبحانه بقوله مؤكداً لمزيد التنويه بذكرها، وتنزيلاً في توقفهم عما دعت إليه الآيات الظاهرة من الإيمان منزلة المنكر لها: {إن في ذلك} أي ما ذكر من أمره وما خللت به قصته من الحكم {لآيات} أي براهين قاطعة في الدلالة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني، لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مر عليها من طائر، ومع رؤيته ذلك لم يؤمنوا ولم يقدروا على ضرره بشيء غير ذلك.
ولما كان ما للشيء إنما هو في الحقيقة ما ينفعه، وكان قد حجبها سبحانه بالشهوات والحظوظ الشاغلة عن استعمال نور العقل، قال: {لقوم يؤمنون} أي يقبلون على استعمال نور العقل الذي وهبهموه الله فيصدقون بالغيب حتى صار الإيمان بكثرة ما صقلوا مرائي قلوبهم بالنظر في أسبابه- لهم خلقاً بحيث إنهم في كل لحظة يجددون الترقي في مراتبه، والتنقل في أخبيته ومضاربه.
ولما تقدم سلبه النفع عن هذه الأوثان، أشار هنا إلى نفع يعقب من الضر ما لا نسبة له منه، فليس حينئذ بنفع، فقال تعالى: {وقال} أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير هائب لتهديدهم بقتل ولا غيره، مؤكداً لأجل ما أشار إليه مما ينكرونه من ضعف شركائهم وعجزها: {إنما اتخذتم} أي أخذتم باصطناع وتكلف، وأشار لى عظمة الخالق وعلو شأنه بقوله: {من دون الله} أي الذي كل شيء تحت قهره، ولا كلفة- في اعتقاد كونه رباً- باحتياج إلى مقدمة جعل وصنعة ولا غير ذلك، وقال: {أوثاناً} إشارة إلى تكثرها الذي هو مناف لرتبة الإلهية؛ وأشار إلى ذلك النفع بقوله: {مودة} أي لأجل مودة- عند من نصب سواء ترك التنوين وهم حمزة وخفص عن عاصم وروح عن يعقوب أو نوّن وهم الباقون {بينكم} من خفضه على الاتساع ورفع {مودة} وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب كان المعنى: هي مودة البين الجامع لكم بمعنى مودتكم على وجه أبلغ، لأن المودة إذا كانت لبين جامع الناس كانت لأولئك الناس بطريق الأولى، ومن خفضه ونصبها وهم حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب فالمعنى: لأجل المودة، ومن نصبها ونوّن وهم نافع وابن عامر وأبو جعفر وشعبة فالبين عنده ظرف {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جداً، لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس، بما فيها من الإلباس، وعظيم البأس.
ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضر، ذكر ما يعقبه من الضر البالغ، فقال معبراً بأداة البعد إشارة إلى عظيم ذلك اليوم، وإلى أنه جعل لهم في الحياة أمداً يمكنهم فيه السعي للتوقي من شر ذلك اليوم: {ثم يوم القيامة} ساقه مساق ما لا نزاع فيه لما قام عليه من الأدلة {يكفر بعضكم ببعض} فينكر كل منهم محاسن أخيه، ويتبرأ منه بلعن الأتباع القادة، ولعن القادة الأتباع، وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها لا ضر ولا نفع لها، وتقرون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها، وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم {ويلعن بعضكم بعضاً} على ما ذكر {ومأواكم} جميعاً أنتم والأوثان {النار} لتزيد في عذابكم ويزداد بغضكم لها {وما لكم} وأعرق في النفي فقال: {من ناصرين} أصلاً يحمونكم منها، ويدخل في هذا كل من وافق أصحابه من أهل المعاصي أو البطالة على الرذائل ليعدوه حسن العشرة مهذب الأخلاق لطيف الذات، أو خوفاً من أن يصفوه بكثافة الطبع وسوء الصحبة، ولقد عم هذا لعمري أهل الزمان ليوصفوا بموافاة الإخوان ومصافاة الخلان، معرضين عن رضى الملك الديان.
ولما كان في سياق الابتلاء، وذكر من الأنبياء من طال ابتلاؤه، بين أنه لم يكن لهم من أممهم تابع يقدر على نصرهم، وأن الله سبحانه تولى كفايتهم فلم يقدر واحد على إهلاكهم، وأهلك أعدائهم، فلم يكن لهم من ناصرين فقال: {فآمن له} أي لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات {لوط} أي ابن أخيه هاران وحده، وهو أول من صدقه من الرجال {وقال} أي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مؤكداً لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها: {إني مهاجر} أي خارج من أرضي وعشيرتي على وجه الهجر لهم فمنتقل ومنحاز {إلى ربي} أي إلى أرض ليس بها أنيس ولا عشير، ولا من ترجى نصرته، ولا من تنفع مودته، فحينئذ يتبين الرضى بالله وحده، والاعتماد عليه دون ما سواه، فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدسة، فكانت له هجرتان، وهو أول من هاجر في الله، قال مقاتل: وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.
ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل وده من ذوي رحمه وأنسابه وأولي قربه، فقال مؤكداً تسكيناً لمن عساه يتبعه وتهويناً عليه لفراق ما ألفت النفوس من أنه لا عز إلا به من العشائر والأموال والمعارف: {إنه هو} أي وحده {العزيز} أي فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه {الحكيم} فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرض له بإذلال، بفعل أو مقال، كما صنع بي حين أراد إذلالي من كان جديراً بإعزازي من عشيرتي وأهل قربى، وبالغ في أذاي ممن كان حقيقاً بنفعي من ذوي رحمي وحبي.
ولما كان التقدير: فأعززناه كما ظن بنا إعزازاً أحكمناه حتى استمر في عقبه إلى القيامة، عطف عليه قوله: {ووهبنا له} أي بجليل قدرتنا شكراً على هجرته {إسحاق} من زوجته سارة عليها السلام التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس بكبرها، وعطفه لهبته له بالواو دليل على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الصافات من أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام لتعقيبه للهبة هناك على الهجرة بالفاء {ويعقوب} من ولده إسحاق عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان السياق في هذه السورة للامتحان، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ابتلي في إسماعيل عليه الصلاة والسلام بفراقه مع أمه رضي الله عنهما ووضعهما في قضيعة من الأرض لا أنيس بها، لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان، وأفرد إسحاق عليه الصلاة والسلام لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك، ولأن المنة به- لكون أمه عجوزاً وعقيماً- أكبر وأعظم لأنها أعجب، وذكر إسماعيل عليه الصلاة والسلام تلويحاً في قوله: {وجعلنا} أي بعزتنا وحكمتنا {في ذريته} من ولد إسحاق وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {النبوة} فلم يكن بعده نبي أجنبي عنه، ومتى صحت هذه المناسبة لزم قطعاً أن يكون الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه أعرى ذكر هذه السورة منه، ويكون كأنه قيل: إنا بشرناه بما يسرّ به من إسحاق بعد أن أمرناه بما يضر من إسماعيل عليهما السلام فصبر في محنة الضراء، وشكر في محنة السراء {والكتاب} فلم ينزل كتاب إلا على أولاده، وأفرد ليدل- مع تناوله بالجنسية الكتب الأربعة- على أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها، أو كان راجعاً إليه، ولو جمع لم يفد هذا المعنى {وآتيناه أجره} على هجرته {في الدنيا} بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق، ورغد العيش، وكثرة الخدم، والولد في الشيخوخة، وكثرة النسل، والثناء الحسن، والمحبة من جميع الخلق، وغير ذلك.
ولما كان الكافر يعتقد- لإنكاره البعث- أنه نكد حياته بالهجرة نكداً لا تدارك له، اقتضى الحال التأكيد في قوله: {وإنه في الآخرة} أي التي هي الدار وموضع الاستقرار {لمن الصالحين} الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة.