فصل: تفسير الآيات (28- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (28- 32):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}
ولما كان- كما مضى- السياق للابتلاء، خص بالبسط في القص من لم يكن له ناصر من قومه، أو كان غريباً منها، ولذلك أتبع الخليل عليه الصلاة والسلام ابن أخيه الذي أرسله الله إلى أهل سدوم: ناس لا قرابة له فيهم ولا عشيرة، فقال: {ولوطاً} أي أرسلناه، وأشار إلى إسراعه في الامتثال بقوله: {إذ} أي وأرسلناه حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، حين فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، منكراً ما رأى من حالهم، وقبيح فعالهم، مؤكداً له إشارة إلى أنه- مع كونه يرونه من أعرف المعارف- جدير بأن ينكر: {إنكم لتأتون الفاحشة} أي المجاوزة للحد في القبح، فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها. ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله: {ما سبقكم} أو هي حال مبينة لعظيم جرأتهم على المنكر، أي غير مسبوقين {بها} وأعرق في النفي بقوله: {من أحد} وزاد بقوله: {من العالمين} أي كلهم فضلاً عن خصوص الناس؛ ثم كرر الإنكار تأكيداً لتجاوز قبحها الذي ينكرونه فقال: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة، وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر، بياناً لاستحقاق الذم من وجوه، فأوجب حالهم ظن أنهم وصلوا من الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، فقال {وتقطعون السبيل} أي بأذى الجلابين والمارة.
ولما خص هذين الفسادين، عم دالاً على المجاهرة فقال: {وتأتون في ناديكم} أي المكان الذي تجلسون فيه للتحدث بحيث يسمع بعضكم نداء بعض من مجلس المؤانسة، وهو ناد ما دام القوم فيه، فإذا قاموا عنه لم يسم بذلك {المنكر} أي هذا الجنس، وهو ما تنكره الشرائع والمروءات والعقول، ولا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى، من غير أن يستحي بعضكم من بعض؛ ودل على عنادهم بقوله مسبباً عن هذه النصائح بالنهي عن تلك الفضائح: {فما كان جواب قومه} أي الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم، ويتقي أذاهم وضرهم، لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عناداً وجهلاً واستهزاء: {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجرأة. ولما كان الإنكار ملزوماً للوعيد بأمر ضار قالوا: {إن كنت} أي كوناً متمكناً {من الصادقين} أي في وعيدك وإرسالك، إلهاباً وتهييجاً.
ولما كان كأنه قيل: بم أجابهم؟ قيل: {قال} أي لوط عليه الصلاة والسلام معرضاً عنهم، مقبلاً بكليته على المحسن إليه: {رب} أي أيها المحسن إليّ {انصرني على القوم} أي الذين فيهم من القوة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين} بإتيان ما تعلم من القبائح.
ولما كان التقدير: فاستجبنا له فأرسلنا رسلنا بشرى لعمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام، تحقيقاً لانتقامنا من المجرمين، وإنعامنا على الصالحين، ولابتلائنا لمن نريد من عبادنا حيث جعلنا النذارة مقارنة للبشارة، عطف عليه قوله: {ولما جاءت} وأسقط أن لأنه لم يتصل المقول بأول المجيء بل كان قبله السلام والإضافة؛ وعظم الرسل بقولهك {رسلنا} أي من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم ولما جاؤوا به {إبراهيم بالبشرى} أي بإسحاق ولداً له، ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان المقام للابتلاء والامتحان، أجمل البشرى، وفصل النذري، فقال: {قالوا} أي الرسل عليهم الصلاة والسلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم، جواباً لسؤاله عن خطبهم، تحقيقاً لأن أهل السيئات مأخوذون، وأكدوا لعلمهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام يود أن يهديهم الله على يد ابن أخيه ولا يهلكهم، فقالوا: {إنا مهلكو} وأضافوا تحقيقاً لأن الأمر قد حق وفرغ منه فقالوا: {أهل هذه القرية} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن أهلها} مظهرين غير مضمرين إفهاماً لأن المراد أهلها الأضلاء في ذلك، إخراجاً للوط عليه السلام: {كانوا ظالمين} أي عريقين في هذا الوصف، فلا حيلة في رجوعهم عنه.
ولما كان السامع بحيث يتشوف إلى معرفة ما كان بعد ذلك، كان كأنه قيل: لم يقنع الخليل عليه السلام لخطر المقام بهذا التلويح، بل {قال} مؤكداً تنبيهاً على جلالة ابن أخيه، وإعلاماً بشدة اهتمامه به، وأنه ليس ممن يستحق الهلاك، ليعلم ما يقولون في حقه، لأن الحال جد، فهو جدير بالاختصار: {إن} وأفهم بقوله: {فيها لوطاً} دون، منهم، أنه نزيل تدرجاً إلى التصريح بالسؤال فيه، وسؤالاً في الدفع عنهم بكونه فيهم، لأنه بعيد عما عللوا به الإهلاك من الظلم، {قالوا} أي الرسل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {نحن أعلم} أي منك {بمن فيها} أي من لوط وغيره.
ولما كان كلامهم محتملاً للأنجاء والإرداء، صرحوا بقولهم على سبيل التأكيد، لأن إنجاءه من بينهم جدير بالاستبعاد: {لننجينه} أي إنجاءاً عظيماً {وأهله} ولما أفهم هذا امرأته استثنوها ليكون ذلك أنص على إنجاء غيرها من جميع أهله فقالوا: {إلا امرأته} فكأنه قيل: فما حالها؟ فقيل: {كانت} أي جبلة وطبعاً {من الغابرين} أي الباقين في الأرض المدمرة والجماعة الفجرة، ليعم وجهها معهم الغبرة.

.تفسير الآيات (33- 38):

{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}
ولما لم يبق بعد هذا إلا خبر الرسل مع لوط عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره: ثم فارقوه ومضوا إلى المدينة التي فيها لوط عليه السلام، مفهماً بالعدول عن الفاء إلى الواو أن بين المكانين بعداً: {ولما} وأثبت ما صورته صورة الحرف المصدري لما اقتضاه مقصود السورة، وأكثر سياقاتها بين التسليك في مقام الامتحان والاجتهاد في النهي عن المنكر، ولذا ذكر هنا في قصة إبراهيم عليه السلام القتل والإحراق، وأتبعت بشراء بإهلاك القرية الظالمة، فقال: {أن جاءت رسلنا} أي المعظمون بنا {لوطاً} بيانا لأنه {سيء} أي حصلت له المساءة {بهم} أول أوقات مجيئهم إليه وحين قدومهم عليه، فاجأته المساءة من غير ريب لما رأى من حسن أشكالهم، وخاف من تعرض قومه لهم، وهو يظن أنهم من الناس، وذلك أن أن في مثل هذا صلة وإن كان أصلها المصدر لتؤكد وجود الفعلين مرتباً وجود أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما فإنها وجدا في جزء واحد من الزمان، قال ابن هشام في المغني ما معناه أن علة ذلك أن الزائد يؤكد معنى ما جيء به لتأكيده، ولما تقيد وقوع الفعل الثاني عقيب الأول وترتبه عليه فالحرف الزائد يؤكد ذلك. {وضاق بهم} أي بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {ذرعاً} أي ذرعة طاقتهم كما بين وأشبع القول فيه في سورة هود عليه السلام، والأصل في ذلك أن من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها، فضرب مثلاً في العجز والقدرة، وذلك أنهم أتوه في صورة مردان ملاح جداً، وقد علم أمر أهل القرية في مثل ذلك ولم يعلم أنهم رسل الله.
ولما كان التقدير: فقالوا له: يا لوط! إنا رسل ربك، فخفض عليك من هذا الضيق الذي نراه بك فإنا ما أرسلنا إلا لإهلاكهم، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي لما رأوا ما لقي في أمرهم: {لا تخف} أي من أن يصلوا إلينا أو من أن تهلك أنت أو أحد من أهل طاعتك ولا تحزن أي على أحد ممن نهلكه فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليهم بسببه؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد للإغناء به عن جمل طوال، إشارة إلى أن الوقت أرق فهو لا يحتمل التطويل: {إنا منجوك} أي مبالغون في إنجائك {وأهلك} أي ومهلكوا أهل هذه القرية، فلا يقع ضميرك أنهم يصلون إلينا، وقالوا: {إلا امرأتك} تنصيصاً على كل فرد منهم سواها؛ ثم دلوا على هلاكها بقولهم جواباً لمن كأنه قال: ما لها؟ فقيل: {كانت من الغابرين} أي كأن هذا الحكم في أصل خلقتها.
ولما أفهمت العبارة كما مضى إهلاكهم، صرحوا به فقالوا معينين لنوعه، معللين لما أخبروه به، مؤكدين إعلاماً بأن الأمر قد فرغ منه قطعاً لأن يشفع فيهم، جرياً على عادة الأنبياء في الشفقة على أممهم: {إنا منزلون} أي لا محالة {على أهل هذه القرية رجزاً} أي عذاباً يكون فيه اضطراب شديد يضطرب منه من أصابه كائناً من كان {من السماء} فهو عظيم وقعه، شديد صدعه {بما كانوا} أي كوناً راسخاً {يفسقون} أي يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء.
ولما كان التقدير: ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم، فتركناها، كأن لم يسكن بها أحد قط، عطف عليه قوله مؤكداً إشارة إلى فضيلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم، وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الإنخلاع من الهوى: {ولقد تركنا} بما لنا من العظمة {منها} أي من تلك القرية {آية} علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} وهو الماء الأسود المنتن الذي غمر قراهم كلها بعد الخسف بها وهو مباين لجميع مياه الأرض لكونه ماء السخط لمن باينوا بفعلهم الخلق مع اشتهار كونه على الخسف.
ولما كان سبحانه قد حجب عن الأبصار كثيراً من الناس قال: {لقوم يعقلون} فعد من لم يستبصر به عير عاقل ولا شاعر بأنها آية ولا فيه أهلية القيام بما يريد.
ولما كان السياق لإثبات يوم الدين وإهلاك المفسدين، ولمن طال ابتلاؤه من الصالحين ولم يجد له ناصراً من قومه، إما لغربته عنهم، وإما لقلة عشيرته لتسميتهم وعدم أتباعه، وكان شعيب عليه السلام ممن استضعفه قومه واستقلوا عشيرته لتسميتهم لهم رهطاً، والرهط ما دون العشرة أو من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، فكان عليه السلام كذلك في هذا العداد، عقب قصة لوط بقصته عليه الصلاة والسلام فقال: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {مدين أخاهم} أي من النسب والبلد {شعيباً}.
ولما كان مقصود السورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير فترة، عبر بالفاء فقال: {فقال} أي فتسبب عن إرساله وتعقبه أن قال: {يا قوم اعبدوا الله} أي الملك الأعلى وحده، ولا تشركوا به شيئاً، فإن العبادة التي فيها شرك عدم، لأن الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.
ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال: {وارجوا اليوم الآخر} أي حسن الجزاء فيه لتفعلوا ما يليق بذلك {ولا تعثوا في الأرض} حال كونكم {مفسدين} أي متعمدين الفساد.
ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم فتسبب عنه وتعقبه إهلاكهم، تحقيقاً لأن أهل السيئات لا يسبقون قال: {فكذبوه فأخذتهم} أي لذلك أخذ قهر وغلبة {الرجفة} أي الصيحة التي زلزلت بهم فأهلكتهم {فأصبحوا في دارهم} أي محالهم التي كانت دائرة بهم وكانوا يدورون فيها {جاثمين} أي واقعين على صدورهم، لازمين مكاناً واحداً، لا يقدرون على حركة أصلاً، لأنه لا أرواح لهم.
ولما كان من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشر على نسق، والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق، وكان إهلاك عاد وثمود- لما اشتهروا به من قوة الأبدان، ومتانة الأركان- في غاية الغرابة، وكان معنى ختام قصة مدين: فأهلكناهم، عطف عليه على ذلك المعنى قوله: {وعاداً} أي وأهلكنا أيضاً عاداً {وثموداْ} مع ما كانوا فيه من العتو، والتكبر والعلو {وقد تبين لكم} أي ظهر بنفسه غاية الظهور أيها العرب أمرهم {من مساكنهم} أي ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدة الأجسام، وسعة الأحلام، وعلو الاهتمام، وثقوب الأذهان، وعظيم الشأن، عند مروركم بتلك المساكن، ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام، فصرفوا أفكارهم في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا، فأملوا بعيداً، وبنوا شديداً، ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله {وزين لهم} في غاية التزيين {الشيطان} أي بعيد من الرحمة، المحترق باللعنة، بقوة احتياله، ومحبوب ضلاله ومحاله {أعمالهم} أي الفاسدة، فأقبلوا بكليتهم عليها مع العدو المبين، وأعرضوا عن الهداة الناصحين.
ولما تسبب عن هذا التزيين منعهم لعماهم عن الصراط المستقيم قال: {فصدهم عن السبيل} أي منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو، لكونه يوصل إلى النجاة، وغيره يوصل إلى الهلاك، فهو عدم بل العدم خير منه. ولما كان ذلك ربما ظن أنه لفرط غباوتهم قال: {وكانوا} أي فعل بهم الشيطان ما فعل من الإغواء والحال أنهم كانوا كوناً هم فيه في غاية التمكن {مستبصرين} أي معدودين بين الناس من البصراء العقلاء جداً لما فاقوهم به مما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا، ولم يسبقونا، بل أوقعناهم بعملهم السيئات فيما أردنا من أنواع الهلكات، فاحذروا مثل مصارعهم فإنكم لا تشابهونهم في القوة، ولا تقاربونهم في العقول.

.تفسير الآيات (39- 41):

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}
ولما كان لفرعون ومن ذكر معه من العتو بمكان لا يخفى، لما أتوا من القوة بالأموال والرجال قال: {وقارون} أي أهلكناه وقومه لأن وقوعه في أسباب الهلاك أعجب، لكونه من بني إسرائيل، ولأنه ابتلى بالمال والعلم، فكان ذلك سبب إعجابه، فتكبر على موسى وهاورن عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه {وفرعون وهامان} وزيره الذي أوقد له على الطين، فلا هو نجا ولا كان رأساً في الكفر، بل باع سعادته بكونه ذنباً لغيره.
ولما كان هلاكهم مع رؤية الآيات أعجب، فكان جديراً بالإنكار، إشارة إلى أن رؤية الآيات جديرة بأن يلزم عنها الإيمان قال: {ولقد جاءهم موسى بالبينات} أي التي لم تدع لبساً فتسببوا عما يقتضيه من الاستبصار الاستكبار {فاستكبروا} أي طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك {في الأرض} بعد مجيء موسى عليه الصلاة والسلام إليهم أكثر مما كانوا قبله.
ولما كان من يتكبر- وهو عالم بأنه مأخوذ- أشد لوماً ممن يجهل ذلك قال: {وما كانوا} أي الذين ذكروا هذا كلهم، كوناً ما {سابقين} أي فائتين ما نريدهم، بأن يخرجوا من قبضتنا، بل هم في القبضة كما ذكرنا أول السورة وهم عالمون بذلك {فكلاً} أي فتسبب عن تكذيبهم وعصيانهم أن كلاًّ منهم {أخذنا} أي بما لنا من العظمة {بذنبه} أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا {فمنهم من أرسلنا عليه} إرسال عذاب يا له من عذاب! {حاصباً} أي ريحاً ترمى لقوة عصفها وشدة قصفها بالحجارة كعاد وقوم لوط {ومنهم من أخذته} أخذ هلاك وغضب وعذاب، وعدل عن أسلوب العظمة لئلا يوهم الإسناد في هذه إليه صوتاً ليوقع في مصيبة التشبيه {الصيحة} التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود {ومنهم من} وأعاد أسلوب العظمة الماضي لسلامة من الإيهام المذكور في الصيحة وللتنبيه على أنه لا يقدر عليه غير الله سبحانه ففيه من الدلالة على عظمته ما يقصر عنه الوصف فقال: {خسفنا به الأرض} بأن غيبناه فيها كقارون وجماعته {ومنهم من أغرقنا} بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وجنوده، وعذاب قوم لوط صالحٌ للعد في الإغراق والعد في الخسف، فتارة نهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط، أو من الأرض كعاد، وأخرى بريح تقرع بالصرخة الأسماع فتزلزل القلوب والبقاع، ومرة نبيد بالغمس في الكثيف وكرة بالغمر في اللطيف- فللّه درّ الناظرين في هذه الأوامر النافذة، والمتفكرين في هذه الأقضية الماضية، ليعلموا حقيقة قوله: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} الآية.
ولما كان ذلك ربما جر لأهل التعنت شيئاً مما اعتادوه في عنادهم قال: {وما كان الله} أي الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا هو وله {ليظلمهم} أي مريداً ليعاملهم معاملة الظالم الذي يعاقب من لا جرم له، أو من أجرم ولم يتقدم إليه بالنهي عن إجرامه ليكف فيسلم، أو يتمادى فيهلك لأنه لا نفع يصل إليه سبحانه من إهلاكهم، ولا ضرر يلحقه عز شأنه من إبقائهم {ولكن كانوا} أي هم لا غيرهم {أنفسهم} لا غيرها {يظلمون} بارتكابهم ما أخبرناهم غير مرة أنه يغضبنا وأنا نأخذ من يفعله، فلم يقبلوا النصح مع عجزهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم، وأما ما عبدوه ورجوا نصره لهم وأملوه فأضعف منهم، ولكون شيء منه لم يغن عن أحد منم شيئاً فلم تختل سنة الله في أوليائه وأعدائه في قرن من القرون ولا عصر من العصور، بل جرت على أقوم نظام، واتقن إحكام، وصل بذلك قوله تعالى على وجه الاستنساج: {مثل الذين}.
ولما كان دعاء غير الله مخالفاً لقويم العقل، وصريح النقل، وسليم الفطرة وصحيح الفكرة فكان ذلك يحتاج إلى تدرب إلى الجلافة، وتطبع في الكثافة، قال: {اتخذوا} أي تكلفوا أن أخذوا.
ولما كانت الرتب تحت رتبته سبحانه لا تحصى، وكل الرتب دون رتبته، قال منبهاً على ذلك بالجار: {من دون الله} أي الذي لا كفوء له، فرضوا بالدون، عوضاً عمن لا تكفيه الأوهام والظنون {أولياء} ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها، في الضعف والوهي {كمثل العنكبوت} الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال؛ ثم استأنف ذكر وجه الشبه وعبر عنها بالتأنيث وإن كانت تقال بالتذكير تعظيماً لضعفها، لأن المقام لضعف ما تبنيه فقال: {اتخذت بيتاً} أي تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى، ويحميها البلا، كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم لينفعوهم، ويحفظوهم بزعمهم ويرفعوهم، فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره، وتعبها الشديد في شأنه، في غاية الوهن.
ولما كان حالها في صنعها حال من ينكر وهنه، قال مؤكداً: {وإن} وواوه للحال من ضمير- {اتخذت} أي والحال أنه أوهن- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتعميم فقال: {أوهن البيوت} أي أضعفها {لبيت العنكبوت} التي عانت في حوكه ما عانت وقاست في نسجه ما قاست، لأنه لا يكنّ من حر، ولا يصون من برد، ولا يحصن عن طالب، كذلك ما اتخذ هؤلاء من هذه الأوثان، وهذا الدين الذي لا أصل له فهو أوهن الأديان وأهونها {لو كانوا يعلمون} أي لو كان لهم نوع ما من العلم لانتفعوا به فعلموا أن هذا مثلهم، فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله.