فصل: تفسير الآيات (14- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 20):

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)}
ولما كانت النفس ربما تشوفت إلى أنه هل يكون بعد إبلاسهم شيء آخر، قال مفيداً له مهولاً بإعادة ما مضى: {ويوم تقوم الساعة} أي ويا له من يوم، ثم زاد في تهويله يقوله: {يومئذ يتفرقون} أي المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها، هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين. حكى لي بعض القضاة من أصحابي- عفا الله عنه- وهو يبكي أنه رأى مناماً مهولاً، وذلك أنه رأى القيامة قد قامت، والناس يحشرون- على ما وصف في الأحاديث- في صعيد واحد عرايا خائفين حائرين، يموج بعضهم في بعض، فإذا شخص مما له أمر قد أشار بسوط معه وخط به في الأرض فقسمهم قسمين فقال: هؤلاء مطيعون، وهؤلاء عصاة، قال: فكنت في العصاة، وفي الحال غاب عنا الطائعون، فلم تر منهم أحداً ثم خط بذلك السوط مرة أخرى فقسمنا قسمين فقال: هؤلاء عصاة الأقوال، وهؤلاء عصاة الأفعال، قال: فكنت في عصاة الأفعال، ثم غاب في الحال عنا عصاة الأقوال، فلم نر منهم أحداً وبقينا نحن منا الجالس ومنا المضطجع، ونحن قليل بالنسبة إلى عصاة الأقوال، فبينا نحن كذلك إذ جاء آتٍ إلى شخص إلى جانبي فأخذه من كعبه ثم نشطه فأخرج جلده بمرة واحدة كأنه جراب نزع عن شيء فيه يابس، فحصل لي من ذلك ذعر شديد فبينا أنا كذلك إذ آتٍ جاءني من ورائي، فألقى عليّ جوخة فجعلها على أكتافي وأدارها على أفخاذي فسترني بها ولكن على غير هيئة لبس المخيط، قال: واستيقظت وأنا على ذلك فقصصته على بعض الصالحين فقال: أحمد الله على كونك من عصاة الأفعال، وأخذ من ستري بالجوخة على تلك الهيئة أني أحج، فبشرني بذلك فحججت في ذلك العام- والله تعالى المسؤول في التوبة، فإنه الفعّال لما يريد {فأما الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقاً لإقرارهم {الصالحات} أي كلها.
ولما تقدم هنا ذكر عمارة الأرض وإصلاحها للنبات ووعظ من جعلها أكبر همه بأنها لم تدم له ولا أغنت عنه شيئاً، ذكر أنه جزى من أعرض عنها بقلبه لاتباع أمره سبحانه أعظم ما يرى من زهرتها ونضرتها وبهجتها على سبيل الدوام فقال: {فهم} أي خاصة {في روضة} أي لا أقل منها وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهج- هذا أصلها في اللغة وقال الطبري: ولا تجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض. {يحبرون} أي يسرون على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه، وتبسم الأفواه، وتزهو العيون، فيظهر حسنها وبهجتها، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها.
قال الرازي في اللوامع: وأصله- أي الحبرة- في اللغة أثر في حسن، وقال غيره: حبره- إذا سره سروراً تهلل له وجهه، وظهر فيه أثره. {وأما الذين كفروا} أي غطوا ما كشفته أنوار العقول، {وكذبوا} عناداً {بآياتنا} التي لا تصدق منها ولا أضوأ من أنوارها، بما لها من عظمتنا {ولقآءِ الآخرة} الذي لم يدع لبساً في بيانه {فأولئك} أي البعداء البغضاء {في العذاب} أي الكامل لا غيره {محضرون} من أي محضر كان، بالسوق الحثيث، والزجر العنيف، فإذا وصلوا إلى مقره وكل بهم من يديم كونهم كذلك- لإفادة الجملة الاسمية الدوام، فلا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.
ولما بين سبحانه المبدأ بخلق السماوات والأرض، والمعاد بالجنة والنار، وأنهم كذبوا به، وكان تكذيبهم به مستلزماً لاعتقاد نقائص كثيرة منها العجز وإخلاف الوعد وترك الحكمة، كان ذلك سبباً لأن ينزه سبحانه نفسه المقدسة ويأمر بتنزيهها، لأن ذلك يدفع عن المنزه مضار الوعيد، ويرفعه إلى مسار الوعد، فقال ذاكراً من أفعاله العالية التي لا مطمع لغيره في القدرة على شيء منها ما يدل على خلاف ذلك الذي يلزم اعتقادهم، لافتاً الكلام عن صيغة العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم. {فسبحان الله} أي سبحوا الذي له جميع العظمة بمجامع التسبيح بأن تقولوا هذا القول الذي هو عَلَمه، فهو منزه عن كل نقص؛ ثم ذكر أوقات التسبيح إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث، فقال دالاً على الاستغراق بنزع الخافض مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل، لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً: {حين تمسون} أي أول دخول الليل بإذهاب النهار وتفريق النور، فيعتريكم الملل، ويداخلكم الفتور والكسل، على سبيل التجدد والاستمرار، وأكد الندب إلى التسبيح بإعادة المضاف فقال: {وحين تصبحون} بتحويل الأمر فتقومون أحياء بعد أن كنتم أمواتاً فتجدون نهاراً قد أضاء بعد ليل كان دجى، فتفعلون ما هو سبحانه منزه عنه من الحركة والسعي في جلب النفع ودفع الضرر، وأرشد السياق إلى أن التقدير: وله الحمد في هذين الجنسين.
ولما ذكر ما يدل على خصوص التنزيه، اتبعه ما يعرف بعموم الكمال، فقال ذاكراً لوقت كمال النهار وكمال الظلام، وتذكيراً بما يحدث عندهما للآدمي من النقص بالفتور والنوم اعتراضاً بين الأوقات للاهتمام بضم التحميد إلى التسبيح: {وله} أي وحده مع النزاهة عن شوائب النقص {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال.
ولما قدم سبحانه أن تنزهه ملأ الأزمان، وكان ذلك مستلزماً لملء الأكوان، وكان إثبات الكمال أبين شرفاً من التنزيه عن النقص، صرح فيه بالقبيلين فقال: {في السماوات} أي الأجرام العالية كلها التي تحريكها- مع أنها من الكبر في حد لا يحيط به إلا هو سبحانه- سبب للإمساء والإصباح وغيرهما من المنافع {والأرض} التي فيها من المنافع ما يجل عن إحاطتكم به مع أنها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في فلاة، ولولا ذلك لظهر لكم ذلك برؤية ما وراءها هو شأن كل مظل مع كل مقل كما تشاهدون السحاب ونحوه.
ولما خص الإمساء والإصباح، عمّ فقال معبراً بما يدل على الدوام، لأن وقت النوم الدال على النقص أولى بإثبات الكمال فيه: {وعشياً} أي من الزوال إلى الصباح {وحين تظهرون} أي تدخلون في شدة الحر، وسبحانه الله في ذلك كله، فالآية من الاحتباك: ذكر التسبيح أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والحمد ثانياً دليلاً على إرادته أولاً، ولعل المراد بالإظهار هنا ما هو أعم من وقت الظهر ليكون المراد به من حين يزول اسم الصباح من وقت ارتفاع الشمس إلى أن يحدث اسم المساء، وهو من الظهر إلى الغروب- قاله ابن طريف في كتابه الأفعال ونقله عن الإمام عبد الحق في كتابه الواعي، وذلك حين استبداد النهار فيكون كماله فيما دون ذلك من باب الأولى، وهذا مع هذه الدقائق إشارة إلى الصلوات الخمس، أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب، وفي وقت الصباح بالصبح، وفي العشى بالعشاء، وفي الإظهار بالظهر، وفي هذا التخريج من الحسن بيان الاهتمام بالصلاة الوسطى، فابتدأ سبحانه بالعصر التي قولها أصح الأقوال، ودخول المغرب في حيزها بطريق التبعية والقصد الثاني، وثنى بالصبح وهي تليها في الأصحيّة وهما القريبتان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة» رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه، «من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة» أسنده صاحب الفردوس عن عمارة بن روبية رضي الله عنه ورواه مسلم وغيره عنه بلفظ: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني الفجر والعصر كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم» ثم قرأ {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} رواه البخاري عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر» يدخل هنا.
ولما ذكر دلالة على البعث المستلزم للوحدانية مطلق التحويل الذي هو إحياء في المعنى بعد إماتة، أتبعه الإحياء والإماتة حقيقة، صاعداً من ذكر البعث تصريحاً بما كان ألقاه تلويحاً فقال: {يخرج الحي} كالإنسان والطائر {من الميت} كالنطفة والبيضة {ويخرج الميت} كالبيضة والنطفة {من الحي} عكس ذلك {ويحيي الأرض} باخضرار النبات.
ولما كان من الأراضي ما لا ينبت إلا بعد مدة إنزال المطر، ومنها ما ينبت من حين إنزال المطر عقب تحطم ما كان بها من النبات سواء، أسقط الجار هنا تنبيهاً على الأمر الثاني لأنه أدل على القدرة، فهو أنسب لهذا السياق ولمقصود السورة، ولأنه جعل فيه قوة إحيائها على الدوام فقال: {بعد موتها} بيبسه وتهشمه. ولما كان التقدير: كذلك يفعل على سبيل التكرر وأنتم تنظرون، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل فعله هذا الفعل البديع من إخراجه لهذا الحي حساً ومعنى من الميت {تخرجون} بأيسر أمر من الأرض بعد تفرق أجسامكم فيها من التراب الذي كان حياً بحياتكم- هذا على قراءة الجماعة البناء للمفعول. وبناه حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه للفاعل إشارة إلى أنهم لقوة تهيئهم لقبول البعث صاروا كأنهم يخرجون بأنفسهم- روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق رضي الله عنه، قال: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لانسلاخ رجب، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الغداة خطيباً إلى أن قال: «ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا، قال: فجلس الناس فقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب، فضحك لعمر الله وهز رأسه فقال: ضن ربك بمفاتيح الخمس من الغيب فذكره حتى ذكر البعث قال: فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحيا أبداً، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياماً حتى أشرقت عليها وهي شرفة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء كما أنه يجمع نبات الأرض فتخرجون». ولما كان التقدير: هذا من آيات الله التي تشاهدونها كل حين دلالة على بعثكم، عطف عليه التذكير بما هو أصعب منه في مجاري العادات فقال: {ومن آياته} أي على قدرته على بعثكم. ولما كان المراد إثبات قدرته سبحانه على بعثهم بعد أن صاروا تراباً بإيجاده لأصلهم من تراب يزيد على البعث في الإعجاب بأنه لم يكن له أصل في الحياة، وكان فعله لذلك إنما مكان مرة واحدة، قال معبراً بالماضي: {أن خلقكم} بخلق أبيكم آدم {من تراب} لم يكن له أصل اتصاف ما بحياة.
ولما كان ابتداء الإنسان من التراب في غاية العجب، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال: {ثم} أي بعد إخراجكم منه {إذا أنتم بشر} أي فاجأتم كونكم لكم بشرة هي في غاية التماسك والاتصال مع اللين عكس ما كان لكم من الوصف إذا كنتم تراباً، وأسند الانتشار إلى المبتدأ المخاطب لا إلى الخبر لأن الخطاب أدل على المراد فقال: {تنتشرون} أي تبلغون بالنشر كل مبلغ بالانتقال من مكان إلى مكان مع العقل والنطق، ولم يختم هذه الآية بما ختم به ما بعدها دلالة على أنها جامعة لجميع الآيات، ودلالة على جميع الكمالات، وختم ما بعدها بذلك تنبيهاً على أن الناس أهملوا النظر فيها على وضوحها، وكان من حقهم أن يجعلوها نصب أعينهم، دلالة على كل ما نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل، وكذلك أكد في الإخبار إعلاماً بأنهم صاروا لإهمالها في حيز الإنكار.

.تفسير الآيات (21- 23):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}
ولما كان أعجب من ذلك أن هذا الذي خلقه التراب ذكراً خلق منه أنثى، وجعلهما شبهي السماء والأرض ماء ونبتاً وطهارة وفضلاً، قال: {ومن آياته} أي على ذلك؛ ولما كان إيجاد الأنثى من الذكر خاص لم يكن إلا مرة واحدة كالخلق من التراب، عبر بالماضي فقال: {أن خلق لكم} أي لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد، وفي تقديم الجار دلالة على حرمة التزوج من غير النوع، والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل في قوله: {من أنفسكم} أي جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام {أزواجاً} إناثاً هن شفع لكم {لتسكنوا} مائلين {إليها} بالشهوة والألفة، من قولهم: سكن إليه- إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها.
ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الألفة قال: {وجعل} أي صير بسبب الخلق على هذه الصفة {بينكم مودة} أي معنى من المعاني يوجب أن لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من محبة الأذى، وإنما كان هذا معناه لأن مادة ودد مستوياً ومقلوباً تدور على الاتساع والخلو من الدو والدوية بتشديد الواو وهي الفلاة، والود والوداد قال في القاموس: الحب، وقال أبو عبد الله القزاز ونقله عنه الإمام عبد الحق في واعيه: الأمنية، تقول وددت أن ذاك كان، وذاك لاتساع مذاهب الأماني، وتشعب أودية الحب، وفي القاموس: ودان: قرية قرب الأبواء وجبل طويل قرب فيد، والمودة: الكتاب- لاتساع الكلام فيه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الود خلو عن إرادة المكروه، فإذا حصل إرادة الخير وإيثاره كان حياً، من لم يرد سواه فقد ود ومن أراد خيراً فقد أحب، والود أول التخلص من داء أثر الدنيا بما يتولد لطلابها من الازدحام عليها من الغل والشحناء، وذلك ظهور لما يتهياً له من طيب الحب، فمن ود لا يقاطع، ومن أحب واصل وآثر، والودود هو المبرأ من جميع جهات مداخل السور ظاهره وباطنه.
ولما كان هذا المعنى الحسن لا يتم إلا بإرادة الخير قال: {ورحمة} أي معنى يحمل كلاًّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير، ودفع الضير، لكن لما كانت إرادة الخير قد تكون بالمن ببعض ما يكره جمع بين الوصفين، وهما من الله، والفرك- وهو البغض- من الشيطان.
ولما كان ذلك من العظمة بمكان يجل عن الوصف، أشار إليه بقوله مؤكداً لمعاملتهم له بالإعراض عما يهدي إليه معاملة من يدعي أنه جعل سدى من غير حكمة، مقدماً الجار إشارة إلى أن دلالته في العظم بحيث تتلاشى عندها كل آية، وكذا غيره مما ان هكذا على نحو: {وما نريهم من آية إلا وهي أكبر من أختها} [الزخرف: 48]: {إن في ذلك} أي الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع {لآيات} أي دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته.
ولما كان هذا المعنى مع كونه دقيقاً يدرك بالتأمل قال: {لقوم} أي رجال أو في حكمهم، لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم {يتفكرون} أي يستعملون أفكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك.
ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى، المخلوقين من الأرض، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متقدماً على عكس ما كان في الإنسان، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً- بعد ما ذكر من آيات الأنفس- إلى آيات الآفاق: {من آياته} أي الدالة على ذلك، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً على حالة واحدة، عبر بالمصدر فقال: {خلق السماوات} على علوها وإحكامها {والأرض} على اتساعها وإتقانها.
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره، وتكوينه وتدبيره: {واختلاف ألسنتكم} أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة، لا حد ولا رخاوة، ولا لكنة ولا فصاحة، ولا إسهاب ولا وجازة، وغير ذلك من صفات النطق وأحواله، ونعوته وأشكاله، وأنتم من نفس واحدة، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة.
ولما كان لون السماء واحداً، وألوان الأراضي يمكن حصرها، قال: {وألوانكم} أي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف، ولضاعت المصالح، وفاتت المنافع، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض، فإن كان للسماء فلونها واحد، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم. وأما الألسنة فأمرها أظهر.
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه {لآيات} أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطبائع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية، ومع بعدها مضمحلة متلاشية {للعالمين} كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته، ففيه إشارة إلى أنهم عدم، فلا تبكيت أوجع منه.
ولما ذكر المقلة والمظلة ومن فيهما، وبعض صفاتهم اللازمة، ذكر ما ينشأ عن كل من ذلك من الصفات المفارقة فقال: {ومن آياته} أي على ذلك وغيره من أنواع القدرة والعلم {منامكم} أي نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً.
ولما كان الليل محل السكن والراحة والنوم، ذكر ما جعل من نوم النهار أيضاً لأن ذلك أدل على الفعل بالاختبار فقال: {بالّيل والنهار} أي الناشئين عن السماوات والأرض باختلاف الحركات التي تنشأ إلا عن فاعل مختار وانقطاعكم بالنوم عن معاشكم وكل ما يهمكم وقيامكم بعد منامكم أمراً قهرياً لا تقدرون على الانفكاك عن واحد منهما أصلاً {وابتغاؤكم} أي طلبكم بالجد والاجتهاد {من فضله} بالمعاش فيهما، فالآية من الاحتباك: دل ذكر النوم على القيام منه، ودل الابتغاء على الانقطاع عنه، حذف نهاية الأول وبداية الثاني {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط، والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل {لآيات} أي عديدة على القدرة والحكمة لاسيما البعث.
ولما كانت هذه الآيات في دلالتها على ما تشير إليه من البعث والفعل بالاختيار دقيقة لا يستقل العقل بها دون توقيف من الدعاة لأنه قد يسند النوم والابتغاء إلى العباد والا يتجاوز عن ذلك إلى الخالق إلا الأفراد من خلص العباد، وكان النائم يقوم صافي الذهن فارغ السر نشيط البدن. قال: {لقوم يسمعون} أي من الدعاة النصحاء سماع من انتبه من نومه فجسمه مستريح نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع من قبوله، أو المعنى: لقوم هم أهل للسمع بأن يكونوا قد تنبهوا من رقادهم، فرجعوا عن عنادهم، إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ. فهو غير متأهل لأن يسمع.