فصل: تفسير الآيات (24- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 27):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب فقال: {ومن آياته} ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية، وكان يتجدد في حين دون حين، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال: {يريكم البرق} أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات: {خوفاً} أي للإخافة من الصواعق المحرقة {وطمعاً} أي وللاطماع في المياه الغدقة، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه.
ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث، أتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال: {وينزّل} ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه {من السماء ماء}.
ولما جعل سبحانه ذلك سبباً لتعقب الحياة قال: {فيحيي به} أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره {الأرض} أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم، وكان إحياؤها به متكرراً، فكان كأنه دائم، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً: {بعد موتها} أي بيبسه وتهشمه {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي القدر {لآيات} لاسيما على القدرة على البعث. ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر، وعلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر، وكان من الوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال: {لقوم يعقلون}.
ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذه الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات، ذكر أمراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال: {ومن آياته} أي على تمام القدرة وكمال الحكمة.
ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد، أتى بالحرف الدال على المصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال، وعبر بالمضارع لأنه لابد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال: {أن تقوم} أي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد {السماء} أفرد لأن السماء الأولى لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس {والأرض} على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط {بأمره} لا بشيء سواه.
ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة، قال معبراً بأداة التراخي لتدل- مع دلالتها على ما هي له- على العظمة، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء {ثم إذا دعاكم} وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله: {دعوة من الأرض} على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو أقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة: {إذا أنتم تخرجون} أي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور، ولاسيما بانضمامها إلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور، كما تأتي الإشارة إليه في آية «وهو أهون عليه».
ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن، ذكر قهره للكل فقال: {وله} أي وحده بالملك الأتم {من في السماوات والأرض} أي كلهم، وأشار إلى الملك بقوله: {كلٌّ له} أي وحده. ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله: {قانتون} أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مطيعون طاعة الإرادة وإن عصوا أمره في العبادة- نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت.
ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال: {وهو} أي لا غيره {الذي يبدأ الخلق} أي على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال: {ثم يعيده} أي بعد أن يبيده.
ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال: {وهو} أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة {أهون عليه} خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها.
ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر، ولا في قدرته أولى من الآخر، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك: {وله} أي وحده {المثل الأعلى} أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص، واستولى على كل رتبة كمال، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم، كما تقدم في البقرة في شرح المثل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54].
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال: {في السماوات والأرض} اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما، وقد قالوا: إن المراد بالمثل هنا الصفة، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول: الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا: فلان جلس على سرير الملك، بمعنى: استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] مثلناه بما لو قهر سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا محق سيفه أعداءه فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته، وإذا قيل: تجري بأعيننا، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا هو في غاية اليقظة فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم، ولذلك قال تعالى: {وهو} أي وحده {العزيز} أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان {الحكيم} أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر، فكان عدم هذا الموجود خيراً من وجوده وأحكم.

.تفسير الآيات (28- 30):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}
ولما بان من هذا أنه المتفرد في الملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة، اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله: {ضرب لكم} أي بحكمته في أمر الأصنام وبيان إبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير: {مثلاً} مبتدئاً {من أنفسكم} التي هي أقرب الأشياء إليكم، فأنتم لما تذكرون به أجدر بأن تفهموه.
ولما كان حاصل المثل أنه لا يكون مملوك كمالك، وكان التقرير أقرب إلى التذكير وأبعد عن التنفير، قال منكراً موبخاً مقرراً: {هل لكم} أي يا من عبدوا مع الله بعض عبيده {من ما} أي من بعض ما {ملكت أيمانكم} أي من العبيد أو الإماء الذين هم بشر مثلكم، وعم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله: {من شركاء} أي في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء، ونبه على ما في إيجاد الرزق ثم قسمته بين الخلق وغير ذلك من شؤونه بقوله: التفاتاً بعد طول التعبير بالغيبة التي قد يتوهم معها بعد- إلى التلكم بالنون الدال مع القرب على العظمة ولذة الإقبال بالمخاطبة: {فيما رزقناكم} أي لما لنا من العظمة من مال أو جاه مع ضعف ملككم فيه.
ولما كانت الشركة سبباً لتساوي الشريكين في الأمر المشترك قال: {فأنتم} أي معاشر الأحرار والعبيد. ولما كان ربما توهم أن {من شركاء} صفة لأولاد من سراريهم، قدم الصلة دفعاً لذلك فقال: {فيه} أي الشيء الذي وقعت فيه الشركة من ذلك الرزق خاصة لا غيره من نسب أو حسب ونحوهما أو خفة في بدن أو قلب أو طول في عمر ونحوها، وأما أولادهم من السراري فربما ساووهم في ذلك وغيره من النسب ونحوه، والعبيد ربما ساووهم في قوة البدن وطول العمر أو زادوا {سواء} ثم بين المساواة التي هي أن يكون حكم أحد القبيلين في المشترك على السواء كحكم الآخر لا يستبد أحدهما عن الآخر بشيء بقوله: {تخافونهم} أي معاشر السادة في التصرف في ذلك الشيء المشترك.
ولما كانت أداة التشبيه أدل، أثبتها فقال: {كخيفتكم أنفسكم} أي كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه، فظهر أن حالكم في عبيدكم مثل له فيمن أشركتموهم به موضح لبطلانه، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن يستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه بخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون؟.
ولما كان هذا المثال، في الذروة من الكمال، كان السامع جديراً بأن يقول: جل ألله! ما أعلى شأن هذا البيان! هل يبين كل شيء هكذا؟ فقال: {كذلك} أي مثل هذا البيان العالي {نفصل} أي نبين، لأن الفصل هو الميز وهو البيان، وذلك على وجه عظيم- بما أشار إليه التضعيف مع التجديد والاستمرار: {الآيات} أي الدلالات الواضحات.
ولما كان البيان لا ينفع المسلوب قال: {لقوم يعقلون} إشارة إلى أنهم إن لم يعملوا بمقتضى ذلك كانوا مجانين، لأن التمثيل يكشف المعاني بالتصوير والتشكيل كشفاً لا يدع لبساً، فمن خفي عليه لم يكن له تمييز.
ولما كان جوابهم قطعاً: ليس لنا شركاء بهذا الوصف، كان التقدير، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً، فنسق عليه: {بل} وكان الأصل: اتبعتم، ولكنه أعرض عنهم، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {اتبع} أي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى {الذين ظلموا} أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام {أهواءهم} وهو ما يميل إليه نفوسهم.
ولما كان اتباع الهوى قد يصادف الدليل، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال: {بغير علم} إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء، وأما العالم فربما رده علمه.
ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه، دل بفاء السبب على أن التقدير: وهذا ضلال منهم بإرادة الله، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى: {فمن يهدي} أي بغير إرادة الله، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال: {من أضل الله} الذي له الأمر كله، ودل بواو العطف على أن التقدير: ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله: {وما لهم} وأعرق في النفي فقال: {من ناصرين} أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان، ومما يسببه من النيران، ونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه، أو لأنه ورد جواباً لنحو {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون} [مريم: 81] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد {لا تجزي نفس عن نفس} [البقرة: 123]، و{أن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] و{فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 10] في أمثالها.
ولما تحررت الأدلة، وانتصبت الأعلام، واتضحت الخفايا، وصرحت الإشارات، وأفصحت ألسن العبارات، أقبل على خلاصة الخلق، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته: {فأقم وجهك} أي قصدك كله {للدين} أي نصباً بحيث تغيب عما سواه، فلا تلتفت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره، وقوم له وجهه.
ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم، وكثافتهم وغباوتهم، وجمودهم وقساوتهم، بقوله: {حنيفاً} أي حال كونك ميالاً مع الدليل هيناً ليناً نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر، ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغاراً أسهل شيء انقياداً، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائماً حتى تصير لبعضهم طبعاً تجريبياً فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه، وأكثر ما يكون هذا من قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له: روى أحمد وابن أبي الدنيا من طريق الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال المنذري: ولم يسمع منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لصبي: تعال هاك! ثم لم يعطه فهي كذبة»، ولأبي داود والبيهقي وابن أبي الدنيا عن مولى عبد الله بن عامر- قال ابن أبي الدنيا: زياد عن عبد الله بن عامر- أن أمه رضي الله عنها قالت له: تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة»، فقال مبيناً لهم صحة دينه بأمر هو في أنفسهم، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم: {فطرت الله} أي الزم فطرة الملك الذي لا رادَّ لأمره، وهي الخلقة الأولى التي خلق عليها البشر والطبع الأول، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في بيان العقل في هذه الآية: أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه، أعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك- انتهى، ثم أكد ذلك بقوله: {التي فطر الناس} أي كل من له أهلية التحرك {عليها} كلهم الأشقياء والسعداء، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع الأطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد لظاهر الدليل، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، كما تجد الأخرس يدرك أمر المعاد إدراكاً بيناً، وله فيه ملكة راسخة، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد بن منيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي رواية للبخاري: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثالٌ للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك، وكذا حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في مسلم في صفة النار والنسائي في فضائل القرآن وأبي داؤد الطالسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي» حنفاء كلهم «وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وآمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه» ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وآية سبحان {كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84] وذلك أنه لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهل النار، فلا يزاد فيهم ولا ينقص، قالوا: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فالكتاب حجة عليهم، لأن مبناه على أن فلاناً من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهو العمل، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان، ونظير ذلك أمران: الرزق المقسوم مع الأمر بالمكسب، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن- ذكر معناه الرازي في اللوامع عن الخطابي.
ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمراً مستمراً، قال: {لا تبديل} ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال: {لخلق الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، لا يقدر أحد أن يجعل طفلاً في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يريبه، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان، أو طاعة أو عصيان، أو نكر أو عرفان، قليلاً قليلاً، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده، فإن مات قبل ذلك الجوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعياً ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر، ولا يعذب بما يكون عارضاً منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش لأرهقهما ظغياناً وكفراً، فقد علم منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا طبعي، فالعبرة بالموت، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة- والله الهادي.
ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمراً لا يكتنه قدره ولا ينال إلا بتوفيق من الله، أشار إلى عظمته بقوله: {ذلك} أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يشير إليه ويحث عليه {الدين القيِّم} الذي لا عوج فيه {ولكن أكثر الناس} قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلاً حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء.