فصل: تفسير الآيات (31- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 35):

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}
ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان، وسمت همته إلى مسابقة الفرسان، فلما رأى أنه لم يلتفت إليه، ولم يعول أصلاً عليه، كادت نفسه تطير، وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيماً له وحثاً لهم على التحلي بما خص به، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير {أقم} أو من العامل في {فطرت} إعلاماً بأنهم مرادون بالخطاب، مشار إليهم بالصواب، فقال: {منيبين} أي راجعين مرة بعد مرة بمجاذبة النفس والفطرة الأولى {إليه} تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل، الميالة إلى سواء السبيل.
ولما لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفاً من الزيغ عنها دأب المرة الأولى. قال عاطفاً على {فأقم}: {واتقوه} أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين، فإذا خفتموه فلزمتموها كنتم ممن تخلى عن الرذائل {وأقيموا الصلاة} تصيروا ممن تحلى بالفضائل- هكذا دأب الدين أبداً تخلية ثم تحلية: أول الدخول إلى الإسلام التنزيه، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة، وهو أمر ظاهر معقول، مثاله من أراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب، وإلا أفسد الأول ولم يقرأ الثاني- والله الموفق.
ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره، أكد النهي عنه بقوله: {ولا تكونوا} أي كوناً ما {من المشركين} أي لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبار والرهبان وغير ذلك.
ولما كانوا يظنون أنهم على صواب، نصب لهم دليلاً على بطلانه بما لا أوضح منه، ولا يمكن أحداً التوقف فيه، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفاً بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلاً: {من الذين فرقوا} لما فارقوا {دينهم} الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين من سواهم، وهو معنى {وكانوا} أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة {شيعاً} أي فرقاً متحالفين، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق.
ولما كان هذا أمراً يتعجب من وقوعه، زاده عجباً بقوله استئنافاً: {كل حزب} أي منهم {بما لديهم} أي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه {فرحون} طناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم.
ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال، فكان الحال جديراً بالسؤال، عن وجه الخلاص من هذا الضلال، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل {فرحون} فقال تعالى: {وإذا} وكان الأصل: مسهم، ولكنه قيل لأنه أنسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في أكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم: {مس الناس} تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهو التحرك، من الحيوانات العجم والجمادات لو نطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحوالها، فهذا هو الإجماع الذي لا يتصور معه نزاع {ضر دعوا ربهم} أي الذي لم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع مدة مسهم بذلك الضر- بما أشار إليه الظرف حال كونهم {منيبين} أي راجعين من جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه {إليه} علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات، ولا في أزمة من الأزمات، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء.
ولما كان كل واقع في شدة مستبعداً كل استبعاد الخلاص منها قال: {ثم} بأداة العبد {إذا أذاقهم} مسنداً الرحمة إليه تعظيماً للأدب وإن كان الكل منه. ولما كان السياق كله للتوحيد، فكانت العناية باستحضار المعبود باسمه وضميره أتم قال: {منه} مقدماً ضميره دالاً بتقديم الجار على الاختصاص وأن ذلك لا يقدر عليه غيره، وقال: {رحمة} أي خلاصاً من ذلك الضر، إشارة إلى أنه لو أخذهم بذنوبهم أهلكهم، فلا سبب لإنعامه سوى كرمه، ودل على شدة إسراعهم في كفران الإحسان بقوله معبراً بأداة المفاجأة: {إذا فريق منهم} أي طائفة هي أهل لمفارقة الحق {بربهم} أي المحسن إليهم دائماً، المجدد لهم هذا الإحسان من هذا الضر {يشركون} بدل ما لزمهم من أنهم يشكرون فعلم أن الحق الذي لا معدل عنه الإنابة في كل حال إليه كما أجمعوا في وقت الشدائد عليه، وأن غيره مما فرقهم ضلال، لا يعدله قبالاً ولا ما يعدله قبال.
ولما كان هذا الفعل مما لا يفعله إلا شديد الغباوة أو العناد، وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، ربا بهم عن منزلة البله إلى ما الجنون خير منه تهكماً بهم فقال: {ليكفروا بما} ولفت الكلام إلى مظهر العظمة فقال: {آتيناهم} أي من الرحمة التي من عظمتها أنه لا يقدر عليها غيرنا أمناً من أن يقعوا في شدة اخرى فنهلكهم بما أغضبونا، أو توسلاً بذلك إلى أن نخلصهم متى وقعوا في أمثالها، فلما أضل عقولهم وأسفه آراءهم!.
ولما كان فعلهم هذا سبباً لغاية الغضب، دل عليه بتهديده ملتفتاً إلى المخاطبة بقوله: {فتمتعوا} أي بما أردتم فيه بالشرك من اجتماعكم عند الأصنام وتواصلكم بها وتعاطفكم، وسبب عن هذا التمتع قوله: {فسوف تعلمون} أي يكون لكم بوعد لا خلف فيه علم فتعرفون إذا حل بكم البلاء وأحاط بكم جميعاً المكروه هل ينفعكم شيء من الأصنام أو من اتخذتم عنده يداً بعبادتها ووافقتموه في التقرب إليها.
ولما بكتهم بقوله: {هل لكم مما ملكت أيمانكم} ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله: {أم أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليهم سلطاناً} أي دليلاً واضحاً قاهراً {فهو} أي ذلك السلطان لظهور بيانه {يتكلم} كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه، ويشهد {بما} أي بصحة الذي {كانوا} أي كوناً راسخاً {به} أي خاصة {يشركون} بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك.

.تفسير الآيات (36- 39):

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}
ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم، ولا دليل عقلي ظاهر، ولا أمر من الله قاهر، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول، لمح هنا، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة، والدلالة الشهودية المستقرة، فقال عاطفاً على {وإذا مس} دالاً على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول: {وإذا} معبراً بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال: {أذقنا} وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال: {الناس رحمة} أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا {فرحوا بها} أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها، ناسين شكر من أنعم بها، وقال: {وإن} بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً، وقال: {تصبهم} غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه {سيئة} أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه.
ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها: {بما قدمت أيديهم} أي من المخالفات، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها {إذا هم} أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم {يقنطون} أي فاجاؤوا البأس، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً، ولذلك أنكر عليه عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلاً: {أولم يروا} أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم.
ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال: {أن الله} بجلاله وعظمته {يبسط الرزق} أي يكثره {لمن يشاء} أي من عباده منهم ومن غيرهم {ويقدر} أي يضيق، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا، بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء، فقد عرف من حالهم أنهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة.
يغلطون في الأمور المتكررة المشاهدة، فلا عجب في تقيدهم في إنكار البعث بهذه الحياة الدنيا.
ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً

أشار سبحانه إلى عظمته بقوله، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية {لآيات} أي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن {لقوم} أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه {يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر، والاعتماد في الرزق على من قال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق، لأن «أفضل العبادة انتظار الفرج» بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه، وهو القدير العليم.
ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأن الاكتراث بها لا يزيدها، والتهاون بها لا ينقصها، فصار ذلك لا يفيد إلا تعجيل النكد بالكد والنصب، وكان مما تقدم أن السيئة من أسباب المحق، سبب عنه الإقبال على إنفاقها في حقوقها إعراضاً عنها وإيذاناً بإهانتها وإيقاناً بأن ذلك هو استيفاؤها واستثمارها واستنماؤها، فقال خاصاً بالخطاب أعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره لأن ذلك أوقع في نفوس الأتباع، وأجدر بحسن القبول منهم والسماع: {فآت} يا خير الخلق! {ذا القربى حقه} بادئاً به لأنه أحق الناس بالبر، صلة للرحم وجوداً وكرماً {والمسكين} سواء كان ذا القربى أو لا {وابن السبيل} وهو المسافر كذلك، والحق الذي ذكر لهما الظاهر أنه يراد به النفل لا الواجب، لعدم ذكر بقية الأصناف، ودخل الفقير من باب الأولى.
ولما أمر بالإيتاء، رغب فيه فقال: {ذلك} أي الإيتاء العالي الرتبة {خير} ولما كان سبحانه أغنى الأغنياء فهو لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه لا رياء فيه، قال معرفاً أن ذلك ليس قاصراً على من خص بالخطاب بل كل من تأسى به نالته بركته {للذين يريدون} بصيغة الجمع، ولما كان الخروج عن المال في غاية الصعوبة، رغب فيه بذكر الوجه الذي هو أشرف ما في الشيء المعبر به هنا عن الذات وبتكرير الاسم الأعظم المألوف لجميع الخلق فقال: {وجه الله} أي عظمة الملك الأعلى، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم على كل ما سواه فيخلصون له {وأولئك} العالو الرتبة لغناهم عن كل فان {هم} خاصة {المفلحون} أي الذين لا يشوف فلاحهم شيء من الخيبة، وأما غيرهم فخائب، أما إذا لم ينفق فواضح، وأما من أنفق على وجه الرياء بالسمعة والرياء فإنه خسر ماله، وأبقى عليه وباله، وأما من أنفق على وجه الرياء الحقيقي فقد صرح به تعريفاً بعظيم فحشه صارفاً الخطاب عن المقام الشريف الذي كان مقبلاً عليه، تعريفاً بتنزه جنابه عنه، وبعد تلك الهمة العلية والسجايا الطاهرة النقية منه، إلى جهة من يمكن ذلك منهم فقال: {وما آتيتم} أي جئتم أي فعلتم- في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم- في قراءة غيره بالمد {من ربا} أي مال على وجه الربا المحرم أو المكروه، وهو أن يعطي عطية ليأخذ في ثوابها أكثر منها، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، وكره لعامة الناس. وعلى قراءة ابن كثير بالقصر المعنى: وما جئتم به من إعطاء بقصد الربا {ليربوا} أي يزيد ويكثر ذلك الذي أعطيتموه أو فعلتوه، أو لتزيدوا أنتم ذلك- على قراءة المدنيين ويعقوب بالفوقانية المضمومة، من: أربى {في أموال الناس} أي تحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها، فهو كناية عن أن الزيادة التي يأخذها المربي من أموالهم لا يملكها أصلاً {فلا يربوا} أي يزكوا وينمو {عند الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وكل صفات الكمال، وكل ما لا يربو عند الله فهو غير مبارك بل ممحوق لا وجود له، فإنه إلى فناء وإن كثر {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276].
ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال: {وما آتيتم} أي أعطيتم للإجماع على مدة لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة {من زكاة} أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال: {تريدون} أي بها {وجه الله} خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات.
ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال: {فأولئك} ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم {هم} أي خاصة {المضعفون} أي الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك الحفظ والبركة، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشرة أمثال إلى ما لا حصر له كما يقال: مقو وموسر ومسمن ومعطش- لمن له قوة ويسار وسمن في إبله وعطش ونحو ذلك.