فصل: تفسير الآيات (33- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 34):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية، فلم تدع شيئاً من العجمة، فظهر كالشمس أنه لابد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه، وخوّفهم ما هم صائرون إليه، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال: {يأ أيها الناس} أي عامة، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال: {اتقوا ربكم} أي والذي لا إله لكم غيره، لأنه لا محسن إليكم غيره، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر.
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال: {واخشوا يوماً} لا يشبه الأيام، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه.
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال: {لا يجزي} أي يغني فيه، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها، وأما هناك فتزول الأسباب، وينجلي غمام الارتياب، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب.
ولما كانت شفقة الوالد- مع شمولها لجميع أيام حياته- أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال: {والد} كائناً من كان {عن ولده} أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد، وتجدد عنده العطف والرقة، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده.
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال: {ولا مولود} أي مولود كان {هو جاز عن والده} وإن علم أنه بعضه {شيئاً} من الجزاء، وفي التعبير ب {هو} إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال: أنه يخيط، ولا يصح خياط لأن ذلك ليس من صنعته، ولا من شأنه.
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول: هل هذا اليوم كائن حقاً؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له: {إن وعد الله} الذي له جميع معاقد العز والجلال {حق} يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله، وعظيم قدرته وكماله، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم- أيها العرب كافة- لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار، وعانى فيه الشدائد الكبار، فلما ثبت أمره، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات، تسبب عنه قوله: {فلا تغرنكم} مؤكداً لعظم الخطب {الحياة الدنيا} أي بزخرفها، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور، والخداع الظاهر والغرور، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير: {ولا يغرنكم بالله} الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم {الغرور} أي الكثير الغرور المبالغ فيه، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها، ويلهيكم به من تعظيم قدرها، وينسيكموه من كيدها وغدرها، وتعبها وشرها، وأذاها وضرها، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم، فلا تعدونه معاداً، فلا تتخذون له زاداً، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة.
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له: {إن الله} أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال {عنده} أي خاصة، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور، ولو قيل لديه لأوهم التعبير بلدي التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن لدى أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها {علم الساعة} أي وقت قيامها، لا علم لغيره بذلك أصلاً.
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها، وكشف بعض أمرها، عبر تعالى بالعلم، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها، وأشكالها وألوانها، وسائر شأنها، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم، وتغاير صورهم وأطوالهم، وتباين ألسنتهم وأعمالهم، إلى غير ذلك من الأمور، وعجائب المقدور، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين، هذا إلى موجهم من شدة الزحام، والكروب العظام بعضاً في بعض. يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات، وانكدار ما فيها من النيرات، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم، كثرة، كيف وقد أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال، ونسف الأبنية والروابي والتلال، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه.
{المفتاح الثاني}: آية الله في خلقه على قيام الساعة، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه، ومقاديره وأشكاله، وأغصانه وأفنانه، وروائحه وطعومه، ومنافعه وطبائعه- إلى غير ذلك من شؤونه، وأحواله وفنونه، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها.
ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال: {وينزل الغيث} بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب كل وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله.
{المفتاح الثالث}: علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها، وتشكيلها وتقديرها، على وصفي الذكورة والأنوثة، مع الوضوح أو الإشكال، والوحدة أو الكثرة، والتمام أو النقص- إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع، والأخلاق والشمائل، والأكساب والصنائع، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن- وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم، ومحيي الرمم. ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب، وكثرة الممارسة، عبر العلم فقال: {ويعلم ما في الأرحام} من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء.
{المفتاح الرابع}: الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل، وغير ذلك من الصحة والعلل، في اختلاف الأمور، وعجائب المقدور، في الخيور والشرور، مما لا يحيط به إلا مبدعه، وغارزه في عباده وودعه، ولكون الإنسان- مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له- لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي- كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام- أن مادة درى تدور على الدوران، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر، فهي أخص من مطلق العلم فقال: {وما تدري نفس} أي من الأنفس البشرية وغيرها {ما} وأكد المعنى ب (ذا) وتجريد الفعل فقال: {ذا تكسب غداً} أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى، فصار على طريق الحصر، وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً.
{المفتاح الخامس}: مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران، وعز وهوان، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول، والصعود والنزول، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه.
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند: {وما تدري} وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال: {نفس} أي من البشر وغيره {بأيّ أرض تموت} ولم يقل: بأي وقت، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة} الآية»، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال: «خمس لا يعلمهن إلا الله {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب}» إلى آخر السورة، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية، وتارة ليس فيها ذكر للعلم، وأخرى يذكر فيها، ويسند إليه سبحانه، ولكن لا على وجه الحصر، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه، وعلم سر قوله: {بأيّ أرض} دون أيّ وقت، كما في بعض طرق الحديث.
ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه: {إنّ الله} أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال {عليم} أي شامل العلم للأمور كلها، كلياتها وجزئياتها، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم، فانطبق الدليل على الدعوى- والله الموفق.
ولما أثبت العلم على هذا الوجه، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله: {خبير} أي يعلم خبايا الأمور، وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها، كل عنده على حد سواء، فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم، باختلاف هذا النظام، على ما فيه من الإحكام، فقد انطبق آخر السورة- بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة- على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لاسيما الإيقان بالآخرة، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً، فسبحانه من هذا كلامه، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه، ولا إله غيره وهو اللطيف.

.سورة السجدة:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}
{الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك} أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء وشواهده، ثم أتبع ذلك بقوله: {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع} وهو تمام لقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله} ولقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ولقوله: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} ولقوله: {اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم، ولجأتم إليه عند احتياجكم؟ ثم أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع، ولا تغني عنه إجابة، فقال: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذكر فأعرض فقال: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} وتعلق الكلام إلى آخر السورة- انتهى.
ولما كان هذا الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله، كان- كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع- كأنه قيل: هل آمنوا به؟ {أم يقولون} مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل {افتراه} أي تعمد كذبه.
ولما كان الجواب: إنهم ليقولون: افتراه، وكان جوابه: ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز، ترتب عليه قوله: {بل هو الحق} أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله، كائناً {من ربك} المحسن إليك بإنزاله وإحكامه، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم حقيقته حق الفهم سواه.
ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صلى الله عليه وسلم صريحاً، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان: {لتنذر قوماً} أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به {ما أتاهم من نذير} أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله: {من قبلك} أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم. وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام، وذلك كما قال تعالى:
{وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] أي شريعته ودينه، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر- نبه على ذلك أبو حيان. ويمكن أن يقال: ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً، لأنهم ما خالفوه، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً.
ولما ذكر علة الإنزال، أتبعها علة الإنذار فقال: {لعلهم يهتدون} أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه: «أبي وأبوك في النار» وقال: «لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم» في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار.