فصل: تفسير الآيات (36- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (36- 39):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}
ولما كان الله سبحانه قد قدم قوله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} الآية، فعلم قطعاً أنه تسبب عنها ما تقديره: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة لأن يكون له ولي غير النبي صلى الله عليه وسلم، فطوى ذلك للعلم به، واستدل على مضمون الآية وما قبلها بقصة الأحزاب، وأتبعها نتيجة ذلك مما ذكر تأديب الأزواج له صلى الله عليه وسلم وتهذبيهن لأجله وتطهير أهل بيته وتكريمهم حتى ختم سبحانه بالصفات العشر التي بدأها بالإسلام الذي ليس معه شيء من الإباء، وختمها بأن ذكر الله يكون ملء القلب والفم وهو داعٍ إلى مثل ذلك لأنه سبب الإسلام، عطف على مسبب آية الولاية ما يقتضيه كثرة الذكر من قوله: {وما كان}.
ولما كان الإيمان قد يدعى كذباً لخفاء به، قال: {لمؤمن} أي من عبد الله بن جحش وزيد وغيرهما {ولا مؤمنة} أي من زينب وغيرها، فعلق الأمر بالإيمان إعلاماً بأن من اعترض غير مؤمن وإن أظهر الإيمان بلسانه {إذا قضى الله} أي الملك الأعظم الذي لا ينبغي لعاقل التوقف في أمره {ورسوله} الذي لا يعرف قضاؤه إلا به {أمراً} أي أيّ أمر كان.
ولما كان المراد كل مؤمن، والعبارة صالحة له، وكان النفي عن المجموع كله نفياً عما قل عنه من باب الأولى، قال: {أن تكون} أي كوناً راسخاً على قراءة الجماعة بالفوقانية، وفي غاية الرسوخ على قراءة الكوفيين بالتحتانية {لهم} أي خاصة {الخيرة} مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس {من أمرهم} أي الخاص بهم باستخارة لله ولا بغيرها ليفعلوا خلاف ذلك القضاء، فإن المراد بالاستخارة ظن ما اختاره الله، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم قطعي الدلالة على ما اختاره الله تعالى، وفي هذا عتاب لزينب رضي الله عنها على تعليق الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم عند ما خطبها لنفسه الشريفة على الاستخارة، وعلى كراهتها عند ما خطبها لزيد مولاه، ولكنها لما قدمت بعد نزول الآية خيرته صلى الله عليه وسلم في تزويجها من زيد رضي الله عنهما على خيرتها، عوضها الله أن صيرها لنبيه صلى الله عليه وسلم ومعه في الجنة في أعلى الدرجات، فالخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى، فمن فعل غير ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عصاه عصى الله لأنه لا ينطق إلا عنه {ومن يعص الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {ورسوله} أي الذي معصيته معصيته لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم {فقد ضل} وأكده المصدر فقال: {ضلالاً} وزاده بقوله: {مبيناً} أي لا خفاء به، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صلى الله عليه وسلم في كل ما يختاره وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلفاً بقول الشاعر حيث قال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ** ما من يهون عليك ممن يكرم

ولما كان قد أخبره سبحانه- كما رواه البغوي وغيره عن سفيان بن عيينة عن علي ابن جدعان عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- أن زينب رضي الله عنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها، وأخفى في نفسه ذلك تكرماً وخشية من قاله الناس أنه يريد نكاح زوجة ابنه، وكان في إظهار ذلك أعلام من أعلام النبوة، وكان مبنى أمر الرسالة على إبلاغ الناس ما أعلم الله به أحبوه أو كرهوه، وأن لا يراعي غيره، ولا يلتفت إلى سواه وإن كان في ذلك خوف ذهاب النفس، فإنه كافٍ من أراد بعزته، ومتقن من أراد بحكمته، كما أخذ الله الميثاق به من النبيين كلهم ومن محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان من المعلوم أن التقدير: اذكر ما أخذنا منك ومن النبيين من الميثاق على إبلاغ كل شيء أخبرناكم به ولم ننهكم من إفشائه وما أخذنا على الخلق في كل من طاعتك ومعصيتك، عطف عليه قوله: {وإذ تقول} وذلك لأن الأكمل يعاتب على بعض الكمالات لعلو درجته عنها وتحليه بأكمل منها من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وبين شرفه بقوله: {للذي أنعم الله} أي الملك الذي له كل كمال {عليه} أي بالإسلام وتولى نبيه صلى الله عليه وسلم إياه بعد الإيجاد والتربية، وبين منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وأنعمت عليه} أي بالعتق والتبني حين استشارك في فراق زوجه الذي أخبرك الله أنه يفارقها وتصير زوجتك: {أمسك عليك زوجك} أي زينب {واتق الله} أي الذي له جميع العظمة في جميع أمرك لاسيما ما يتعلق بحقوقها ولا تغبنها بقولك: إنها تترفع عليّ- ونحو ذلك {وتخفي} أي والحال أنك تخفي، أي تقول له مخفياً {في نفسك} أي مما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عن طلاق زيد {ما الله مبديه} أي بحمل زيد على تطليقها وإن أمرته أنت بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهو دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عن طلاق زيد لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه لأنه لا يبدل القول لديه، روى البخارى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآيات نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما.
ولما ذكر إخفاءه ذلك، ذكر علته فقال عاطفاً على {تخفي}: {وتخشى الناس} أي من أن تخبر بما أخبرك الله به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لاسيما اليهود والمنافقون {والله} أي والحال أن الذي لا شيء أعظم منه {أحق أن تخشاه} أي وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به لشيء يشق عليك حتى يفرق لك فيه أمر، قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية.
ولما علم من هذا أنه سبحانه أخبره بأن زيداً سيطلقها وأنها ستصير زوجاً له من طلاق زيد إياها، سبب عنه قوله عاطفاً عليه: {فلما قضى زيد منها وطراً} أي حاجة من زواجها والدخول بها، وذلك بانقضاء عدتها منه لأنه به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسها، وإلا لراجعها {زوجناكها} ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها، تشريفاً لك ولها، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس، ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي، فانطلق زيد رضي الله عنه حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون فذكره، سيأتي. وقال البغوي: قال الشعبي: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأني أنكحينك الله في السماء، وأن السفير لجبريل عليه السلام.
ولما ذكر سبحانه التزويج على ما له من العظمة، ذكر علته دالاً على أن الأصل مشاركة الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وأن لا خصوصية إلا بدليل فقال: {لكي لا يكون على المؤمنين} أي الذين أزالت عراقتهم في الإيمان حظوظهم {حرج} أي ضيق {في أزواج أدعيائهم} أي الذين تبنوا بهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة {إذا قضوا منهن وطراً} أي حاجة بالدخول بهن ثم الطلاق وانقضاء العدة.
ولما علم سبحانه أن ناساً يقولون في هذه الواقعة أقوالاً شتى، دل على ما قاله زين العابدين بقوله: {وكان أمر الله} أي من الحكم بتزوجيها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله به كراهية لسوء القالة واستحياء من ذلك، وكذا كل أمر يريده سبحانه {مفعولاً} لأنه سبحانه له الأمر كله لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما أنتج هذا التسهيل لما كان استصعبه صلى الله عليه وسلم والتأمين مما كان خافه، عبر عن ذلك بقوله مؤكداً رداً على من يظن خلاف ذلك: {ما كان على النبي} أي الذي منزلته من الله الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره من الخلق {من حرج فيما فرض} أي قدر {الله} بما له من صفات الكمال وأوجبه {له} لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك، فكيف برأس المؤمنين، فصار منفياً عنه الحرج مرتين خصوصاً بعد عموم تشريفاً له وتنويهاً بشأنه.
ولما كان مما يهون الأمور الصعاب المشاركة فيها فكيف إذا كانت المشاركة من الأكابر، قال واضعاً الأسم موضع مصدره: {سنة الله} أي سن الملك الذي إذا سن شيئاً أتقنه بما له من العزة والحكمة فلم يقدر أحد أن يغير شيئاً منه {في الذين خلوا} وكأنه أراد أن يكون أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام أولى مراد بهذا، تبكيتاً لملبسي أتباعهم فأدخل الجار فقال: {من قبل} أي من الأنبياء الأقدمين في إباحة التوسيع في النكاح لهم، وهو تكذيب لليهود الذين أنكروا ذلك، وإظهار لتلبيسهم.
ولما كان المراد بالنسبة الطريق التي قضاها وشرعها قال معلماً بأن هذا الزواج كان أمراً لابد من وقوعه لإرادته له في الأزل فلا يعترض فيه معترض ببنت شفة يحل به ما يحل بمن اعترض على أوامر الملك، ولأجل الاهتمام بهذا الإعلام اعترض به بين الصفة الموصوف فقال: {وكان أمر الله} أي قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره من كل ما يستحق أن يأمر به ويهدي إليه ويحث عليه، وعبر عن السنة بالأمر تأكيداً لأنه لابد منه {قدراً} وأكده بقوله: {مقدوراً} أي لا خلف فيه، ولابد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه، وهو مؤيد أيضاً لقول زين العابدين وكذا قوله تعالى واصفاً للذين خلوا: {الذين يبلغون} أي إلى أمهم {رسالات الله} أي الملك الأعظم سواء كانت في نكاح أو غيره شقت أو لا {ويخشونه} أي فيخبرون بكل ما أخبرهم به ولم يمنعهم من إفشائه، ولوّح بعد التصريح في قوله: {وتخشى الناس}: {ولا يخشون أحداً} قلَّ أو جلَّ {إلا الله} لأنه ذو الجلال والإكرام.
ولما كان الخوف من الملك العدل إنما هو من حسابه كان التقدير: فيخافون حسابه، أتبعه قوله: {وكفى بالله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {حسيباً} أي مجازياً لكل أحد بما عمل وبالغاً في حسابه الغاية القصوى، وكافياً من أراد كفايته كل من أراده بسوء.

.تفسير الآيات (40- 46):

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)}
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال: {ما كان} أي بوجه من الوجوه مطلق كون {محمد} أي على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل: من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها- ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع ما كان قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم- على جميعهم الصلاة والسلام.
ولما كان بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة أنه {رسول الله} الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوفير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوه الرجال قال: {وخاتم النبيين} أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبياً، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه مبلغ الرجال، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له، روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابنه إبراهيم: «لو عاش لكان صديقاً نبياً»، وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه: لو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه، ولكن لا نبي بعده.
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان- مع أنه رسول الله- ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولداً له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل

رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ** فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل

وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ- أي لفظ هذه الآية- ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، وقال: أن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه، من أنواع الهذيان، لا يمنع الحكم بتكفيره، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم السقيم

وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً صلى الله عليه وسلم، ولولا هو لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقرره لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم، كان التقدير: لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلاً {وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام- انتهى. وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال، وكان قد وعد من توكل عليه بأن يكفيه كل مهم، ودل على ذلك بقصة الأحزاب وغيرها وأمر بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم وتقدم بالوصية التامة في تعظيمه إلى أن أنهى الأمر في إجلاله، وكانت طاعة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كل وجه حتى يكون مسلوب الاختبار معه، فيكون بذلك مسلماً لا يحمل عليها إلا طاعة الله، وكانت طاعة الله كذلك لا يحمل عليها إلا دوام ذكره، قال بعد تأكيد زواجه صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله عنها بأنه هو سبحانه زوجه إياها لأنه قضى أن لا بنوة بينه وبين أحد من رجال أمته توجب حرمة زوج الولد: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اذكروا} أي تصديقاً لدعواكم ذلك {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {ذكراً كثيراً} أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها بألسنتكم، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم حق تعظيمه، واعتقاد كماله في كل حال، وأنه لا ينطق عن الهوى، لتحوزوا مغفرة وأجراً عظيماً، كما تقدم الوعد به.
ولما كان ثبوت النبوة بينه وبين أحد من الرجال خارماً لإحاطة العلم، وجب تنزيهه سبحانه عن ذلك فقال: {وسبحوه} أي عن أن يكون شيء على خلاف ما أخبر به، وعن كل صفة نقص بعد ما أثبتم له كل صفة كمال {بكرة وأصيلاً} أي في أول النهار وآخره أي دائماً لأن هذين الوقتين إما للشغل الشاغل ابتداء أو انتهاء أو للراحة، فوجوب الذكر فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، تم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله. وهما أيضاً مشهودان بالملائكة ودالان على الساعة: الثاني قربها بزوال الدنيا كلها، والأول على البعث بعد الموت، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر، لأن المواظبة عليهما- لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري في وقتيهما من الشغل بالراحة وغيرها- دالة على غاية المحبة للمثول بالحضرات الربانية حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى، ويؤكد هذا الثاني تعبيره بلفظ الصلاة في تعليل ذلك بدوتم ذكره لنا سبحانه بقوله: {هو الذي يصلي عليكم} أي بصفة الرحمانية متحنناً، لأن المصلي منا يتعطف في الأركان {وملائكته} أي كلهم بالاستغفار لكم وحفظكم من كثير من المعاصي والآفات ويتردد بعضهم بينه سبحانه وبين الأنبياء بما ينزل إليهم من الذكر الحافظ من كل سوء فقد اشتركت الصلاتان في إظهار شرف المخاطبين.
ولما كان فعل الملائكة منسوباً إليه لأنه مع كونه الخالق له الآمر به قال: {ليخرجكم} أي بذلك {من الظلمات} أي الكائنة من الجهل الموجب للضلال {إلى النور} أي الناشئ من العلم المثمر للهدى، فيخرج بعضكم بالفعل من ظلمات المعاصي المقتضية للرين على القلب إلى نور الطاعات، فتكونوا بذلك مؤمنين {وكان} أي ازلاً وأبداً {بالمؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم ثابتاً خاصة {رحيماً} أي بليغ الرحمة يتوفيقهم لفعل ما ترضاه الإلهية، فإنهم أهل خاصته فيحملهم على الإخلاص في الطاعات، فيرفع لهم الدرجات في روضات الجنات.
ولما كان أظهر الأوقات في تمرة هذا الوصف ما بعد الموت، قال تعالى مبيناً لرحمتهم: {تحيتهم يوم يلقونه} أي بالموت أو البعث {سلام} أي يقولون له ذلك، «أنت السلام ومنك السلام فجئنا ربنا بالسلام» كما يقوله المحرم المشبه لحال من هو في الحشر فيجابون بالسلام الذي فيه إظهار شرفهم ويأمنون معه من كل عطب {وأعد} أي والحال أنه أعد {لهم} أي بعد السلامة الدائمة {أجراً كريماً} أي غدقاً دائماً لا كدر في شيء منه.
ولما وعظ المؤمنين فيه صلى الله عليه وسلم له بما أقبل بأسماعهم وقلوبهم إليه، وختم بما يوجب لهم الفوز بما عنده سبحانه، وكان معظم ذلك له صلى الله عليه وسلم فإنه رأس المؤمنين، أقبل بالخطاب عليه ووجهه إليه فقال منوهاً من ذكره ومشيداً من قدره بما ينتظم بقوله: {الذين يبلغون رسالات الله} الآية وما جرها من العتاب: {يا أيها النبي} أي الذي مخبره بما لا يطلع عليه غيره.
ولما كان الكافرون- المجاهرون منهم والمساترون- ينكرون الرسالة وما تبعها، أكد قوله في أمرها وفخمه فقال: {إنا أرسلناك} أي بعظمتنا بما ننبئك به إلى سائر خلقنا {شاهداً} أي عليهم ولهم مطلق شهادة، لأنه لا يعلم بالبواطن إلا الله، وأنت مقبول الشهادة، فأبلغهم جميع الرسالة سرهم ذلك أو ساءهم سرك فعلهم أو ساءك.
ولما كان المراد الإعلام برسوخ قدمه في كل من هذه الأوصاف، عطفها بالواو فقال: {ومبشراً} أي لمن شهدت لهم بخير بما يسرهم، وأشار إلى المبالغة في البشارة بالتضعيف لما لها من حسن الأثر في إقبال المدعو وللتضعيف من الدلالة على كثرة الفعل والمفعول بشارة بكثرة التابع وهو السبب لمقصود السورة، وكانت المبالغة في النذارة أزيد لأنها أبلغ في رد المخالف وهي المقصود بالذات من الرسالة لصعوبة الاجتراء عليها فقال: {ونذيراً} أي لمن شهدت عليهم بشر بما يسوءهم {داعياً} أي للفريقين {إلى الله} أي إلى ما يرضي الذي لا أعظم منه بالقول والفعل، وأعرى الدعاء عن المبالغة لأنه شامل للبشارة والنذارة والإخبار بالقصص والأمثال ونصب الأحكام والحدود، والمأمور به في كل ذلك الإبلاغ بقدر الحاجة بمبالغة أو غيرها فمن لم ترده عن غيه النذارة، وتقبل به إلى رشده البشارة، حمل على ذلك بالسيف.
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة، لا يقوم به أحد إلا بمعونة من الله عظيمة، أشار إلى ذلك بقوله: {بإذنه} أي بتمكينه لك من الدعاء بتيسير أسبابه، وتحمل أعبائه، وللمدعو من الإقبال والإتباع إن أراد له الخير.
ولما كان الداعي إلى الله يلزمه النور لظهور الأدلة قال: {وسراجاً} يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم المبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الأبصار. ولما كان المقام مرشداً إلى إنارته، وكان من السرج ما لا يضيء، وكان للتصريح والتأكيد شأن عظيم قال: {منيراً} أي ينير على من أتبعه ليسير في أعظم ضياء، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام، فعرف من التقييد بالنور أنه محط الشبه، وعبر به دون الشمس لأنه يقتبس منه ولا ينقص مع أنه من أسماء الشمس.