فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 50):

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}
ولما تقدمت هذه الأوصاف الحسنى، وكان تطبيق ثمراتها عليها في الذروة، من العلو، وكان الشاهد هو البينة، فكان كأنه قيل: فأقم الأدلة النيرة، وادع وأنذر كل من خالف أمرك، وكان المقام لخطاب المقبلين، طوى هذا المقدر لأنه للمعرضين، ودل عليه بقوله عاطفاً عليه: {وبشر المؤمنين} أي الذين صح لهم هذا الوصف. فإنك مبشر {بأن لهم} وبين عظمة هذه البشرى بقوله: {من الله} أي الذي له جميع صفات العظمة {فضلاً كبيراً} أي من جهة النفاسة ومن جهة التضعيف من عشرة أمثال الحسنة إلى ما لا يعلمه إلا الله.
ولما أمره سبحانه بما يسر نهاه عما يضر، فقال ذاكراً ثمرة النذارة: {ولا تطع الكافرين} أي المشاققين {والمنافقين} أي لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلته إليك من الإنزال، وغيره كراهة شيء من مقالهم أو فعالهم في أمر زينب أو غيرها، فإنك نذير لهم، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله مصرحاً بما اقتضاه ما قبله: {ودع} أي اترك على حالة حسنة بك وأمر جميل لك {أذاهم} فلا تراقبه في شيء، ولا تحسب له حساباً أصلاً، واصبر عليه فإنه غير ضائرك لأن الله دافع عنك لأنك داع بإذنه.
ولما كان ترك المؤذي، والإعراض عنه استسلاماً في غاية المشقة، ذكره بالدواء فقال: {وتوكل على الله} أي الملك الأعلى في الانتصار لك منهم وإبلاغ جميع ما يأمرك به وفي جميع أمرك لأن الله متم نورك ومظهر دينك والاكتفاء به من ثمرات إنارته لك بجعلك سراجاً، ولما كان الوكيل قد لا ينهض بجميع الأمور، قال معلماً بأن كفايته محيطه: {وكفى} وأكد أمر الكفاية بإيجاد الباء في الفاعل تحقيقاً لكونه فاعلاً كما مضى في آخر سورة الرعد فقال: {بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، وميز النسبة بالفاعل في الأصل لزيادة التأكيد في تحقيق معنى الفاعل فقال: {وكيلاً} فمن اكتفى به أنار له جميع أمره.
ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفات إلى أحد غيره، وكان من المعلوم أنه لابد في ذلك من محاولات ومنازعات، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق، أمر سبحانه بالتوكل عليه، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهرة. فقال ناهياً لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين قاطعاً لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيه: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {إذا نكحتم} أي عاقدتم، أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية {المؤمنات} أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن.
ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطئ، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطئ بالنكاح، أشار إليه بحرف التراخي فقال: {ثم طلقتموهن} أي بحكم التوزيع، وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال: زلة علم- وتلا هذه الآية.
ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقاً، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطئ لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة، أدخل الجار فقال: {من قبل أن تسموهن} أي تجامعوهن، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببه. ولما كانت العدة حقاً للرجال قال: {فما لكم} ولما كانت العدة واجبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهن} وأكد النفي بإثبات الجار في قوله: {من عدة} ودل على اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال: {تعتدونها} أي تتكلفون عدها وتراعونه، وروي عن ابن كثير من طريق البزي شاذاً بتخفيف الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المطلقة.
ولما كان هذا الحكم- الذي معناه الانفصال- للمؤمنات اللاتي لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال، كان ذلك للكتابيات من باب الأولى، وفائدة التقييد الإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات بل ولا عن الصالحات من المؤمنات. ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر عنها، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك، سبب عما مضى قوله: {فمتعوهن} ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها لتدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى كما دخلت الأولى وجوباً {وسرحوهن} أي أطلقوهن ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة {سراحاً جميلاً} بالإحسان قولاً وفعلاً من غير ضرار بوجه أصلاً ليتزوجهن من شاء.
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه: تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها، والفرس أي ركوبه، والخمر أي شربها، ولحم الخنزير أي أكله، والبحر أي ركوبه، والثور أي الحرث به، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله، ولا يصرف عنه إلا بمشعر، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص- انتهى.
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك}.
ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.
ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الإعمال فقال: {اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في عمله سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد؛ روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} الآية، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر. كنت من الطلقاء قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، وأتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي}.
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال لك كان ربما وقع في بعض الأوهام كما قال الزجاج أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر {أحللنا} مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعنا لابد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي بليغ الستر فهو أن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً.

.تفسير الآيات (51- 52):

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}
ولما ذكر هاتين الصفتين، أتبعهما ما خففه عنه من أمرهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم مما كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله، فقال في موضع الاستئناف، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة: {ترجي} بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر {من تشاء منهن} أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية لعطفك {وتؤي} أي تضم وتقرب بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع وبغير جماع تخصيصاً له بذلك عن سائر الرجال {إليك من تشاء} وسيب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن: يا نبي الله! اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت. ودعنا على حالنا، فنزلت.
ولما كانت ربما مال إلى من فارقها، بين تعالى حكمها فقال: {ومن ابتغيت} أي مالت نفسك إلى طلبها {ممن عزلت} أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة {فلا جناح عليك} أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد النكاح أو القسم.
ولما كانت المفارقة من حيث هي- ولاسيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها- أنها تكره الرجعة، أخبر سبحانه أن نساءه صلى الله عليه وسلم على غير ذلك فقال: {ذلك} أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة، لما لك من الشرف {أدنى} أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في القرآن المعجز، إلى {أن تقر أعينهن} أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه- هذا إن كان من القرار بمعنى السكون، ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر، لأن المسرور تكون عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فلذلك يقال للصديق: أقر الله عينك، وللعدو: أسخن الله عينك {ولا يحزن} أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك {ويرضين} لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام من الإعجاز {بما آتيتهن} أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها.
ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع أكد فقال: {كلهن} أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار، وزاد ذلك تأكيداً لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله عطفاً على نحو {فالله يعلم ما في قلوبهم}: {والله} أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يعلم} أي علماً مستمراً لتعلق {ما في قلوبكم} أي أيها الخلائق كلكم، فلابد إن علم ما في قلوب هؤلاء.
ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره من ودهن ذلك، لكونه صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب، زاده ترغيبا بقوله: {وكان الله} أي أزلاً وأبداً {عليماً} أي بكل شيء ممن يطيعه ومن يعصيه {حليماً} لا يعاجل من عصاه، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه، وحلمه مقتض للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديد، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره، روى البخاري في التفسير عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {ترجي من تشاء منهن} الآية، قلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً.
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال: {لا يحل لك النساء} ولما كان تعالى شديد العناية به صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال: {من بعد} أي من بعد من معك من هؤلاء التسع- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بمت تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية {إنا أحللنا لك أزواجك} وفي رواية أخرى من بعد {اللاتي أحللنا لك} بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها.
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال: {ولا أن تبدل بهن} أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله: {من} أي شيئاً من {أزواج} أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها.
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد معنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل {تبدل}: {ولو أعجبك حسنهن} أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله: {إلا ما ملكت يمينك} أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أو ولده إبراهيم عليه السلام.
ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال: {وكان الله} أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى، ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً.