فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 20):

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}
ولما أخبر عن هذا المحق والتقتير بعد ما كانوا فيه من ذلك الملك الكبير، هول أمره مقدماً للمفعول دلالة على أنه مما يهتم غاية الاهتمام بتعرفه فقال: {ذلك} أي الجزاء العظيم العالي الرتبة في أمر المسخ {جزيناهم} بما لنا من العظمة {بما كفروا} أي غطوا الدليل الواضح.
ولما كان من العادة المستقرة عند ذوي الهمم العوال، العريقين في مقارعة الأبطال، المبالغة في جزاء من أساء بعد الإحسان، وقابل الإنعام بالكفران، لما أثر في القلوب من الحريق مرة بعد مرة، وكرة في أثر كرة، أجرى الأمر سبحانه على هذا العرف، فقال مشيراً إلى ذلك بصيغة المفاعلة عادّاً لغير جزائهم بالنسبة إليه عدماً، تهديداً يصدع القلوب ويردع النفوس، ويدع الأعناق خاضعة والرؤوس: {وهل يجازى} أي هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب من مجاز ما على سبيل المبالغة {إلا الكفور} أي المبالغ في الكفر، وقراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {نجازي} بالنون على أسلوب ما قبله من العظمة ونصب {الكفور} وقال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى- كأنه يشير إلى أن عقاب المسيء لأجل عمله فهو مفاعلة، وأما ثواب المطيع فهو فضل من الله لا لأجل عمله، فإن عمله نعمة من الله، وذلك لا ينافي المضاعفة، قال القشيري: كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال واتصال من التوفيق وطيب من القلب ومساعدة من الوقت فيرتكب زلة أو يسيء أدباً أو يتبع شهوة، ولا يعرف قدر ما هو فيه فيغير عليه الحال، فلا وقت ولا حال، ولا طرب ولا وصال، يظلم عليه النهار، وكانت لياليه مضيئة ببدائع الأنوار.
ولما أتم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة، أتبعه مواضعه السكان فقال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة، ونبه بنزع الجار على عمارة جميع تلك الأراضي بالبناء والانتفاع فقال: {بينهم} أي بين قرى أهل سبأ {وبين القرى} اي مدناً كانت أو دونها {التي باركنا} أي بركة اعتنينا بها اعتناء من يناظر آخر بغاية العظمة {فيها} أي بأن جعلناها محال العلم والرزق بالأنبياء وأصفياء الأولياء وهي بلاد الشام {قرى ظاهرة} أي من أرض الشام في أشراف الأرض وما صلب منها وعلا، لأن البناء فيها أثبت، والمشي بها أسهل، والابتهاج برؤية جميع الجنان وما فيها من النضرة منها أمكن. فهي ظاهرة للعيون بين تلك الجنان، كأنها الكواكب الحسان، مع تقاربها بحيث يرى بعضها من بعض وكثرة المال بها والمفاخر والنفع والمعونة للمارة؛ قال البغوي: كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام.
ولما كانت مع هذا الوصف ربما كان فيها عسر على المسافر لعدم الموافقة في المقيل والمبيت، أزال هذا بقوله: {وقدرنا فيها السير} أي جعلناه على مقادير هي في غاية الرفق بالمسافر في نزوله متى أراد من ليل أو نهار على ما جرت به عوائد السفار، فهي لذلك حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان: {سيروا} والدليل على تقاربها جداً قوله: {فيها} ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد، مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله: {ليالي} وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله: {وأياماً} أي في أي وقت شئتم، ودل على عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل ملم بقوله: {آمنين} أي من خوف وتعب، أو ضيعة أو عطش أو سغب.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله: {فقالوا} على وجه الدعاء: {ربنا} أي أيها المربي لنا {باعد} أي أعظم البعد وشدده- على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال، وهذا بمعنى قراءة الباقين غير يعقوب {باعد} المقتضية لمده وتطويله {بين أسفارنا} أي قرانا التي نسافر فيها، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ونحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق السلاح ونستجيد المراكب، وكان بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ يعقوب {ربنا} بالرفع على أنه مبتدأ {باعد} فعلاً ماضياً على أنه خبر فازدرى تلك النعمة الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك القرى متواصلة {وظلموا} حيث عدوا النعمة نقمة، والإحسان إساءة {أنفسهم} تارة باستقلال الديار، وتارة باستقلال الثمار، فسبب ذلك تبديل ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الأنس وهو معنى {فجعلناهم} أي بما لنا من العظمة {أحاديث} أي يتواصفها الناس جيلاً بعد جيل لما لها من الهول {ومزقناهم} أي تمزيقاً يناسب العظمة، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا {كل ممزق} أي تمزيق كما يمزق الثوب، بحيث صاروا مثلاً مضروباً إلى هذا الزمان، يقال لمن شئت أمرهم: تفرقوا أيدي سبا.
ولما كان كل من أمريهم هذين في العمارة والخراب أمراً باهراً دالاً على أمور كثيرة، منها القدرة على الساعة التي هي مقصود السورة بالنقلة من النعيم إلى الجحيم والحشر إلا ما لا يريد الإنسان كما حشر أهل سبأ إلى كثير من أقطار البلاد كما هو مشهور في قصتهم، قال منبهاً على ذلك مستأنفاً على طريق الاستنتاج، مؤكداً تنبيهاً على إنعام النظر فيه، لما له من الدلالة على صفات الكمال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات} أي دلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات بالخسف والمسخ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها دليل على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية، لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً، واللذة ألماً، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة.
ولما كان الصبر حبس النفس عن أغراضها الفاسدة وأهويتها المعمية، وكانت مخالفة الهوى أشد ما يكون على النفس وأشق، وكانت النعم تبطر وتطغي، وتفسد وتلهي، فكان عطف النفوس إلى الشكر بعد جماحها بطغيان النعم صعباً، وكانت قريش قد شاركت سبأ فيما ذكر وزادت عليهم برغد العيش وسهولة إتيان الرزق بما حببهم به وبلدهم إلى العباد بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع آمن البلد وجلالة النسب وعظيم المنصب كما أشار إليه قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة} [النحل: 112] قال تعالى محذراً لهم مثل عقوبتهم: {لكل صبار شكور} أي من جميع بني آدم، مشيراً بصيغة المبالغة إلى ذلك كله، وأن من لم يكن في طبعه الصبر والشكر لا يقدر على ذلك، وأن من ليس في طبعه الصبر فاته الشكر.
ولما كان المعنى: آيات في أن تخالفوا إبليس فلا تصدقوا ظنه في احتناكهم حيث قال: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً} [الإسراء: 62] قال مؤكداً لإنكار كل أحد أن يكون صدق ظن إبليس فيه: {ولقد} أي كان في ذلك آيات مانعة من اتباع الشيطان والحال أنه قد {صدق}. ولما كان في استغوائهم غالباً لهم في إركابهم ما تشهد عقولهم بأنه ضلال، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي على ذرية آدم عليه السلام.
ولما كان في سياق الإثبات لعظمة الله وما عنده من الخير وما له من التصرف التام الداعي ذلك إلى الإقبال إليه وقصر الهمم عليه، عبر بقوله تعالى: {إبليس} الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده- والإبلاس- وهو اليأس من كل خير- ليكون ذلك أعظم في التبكيت والتوبيخ {ظنه} أي في قوله: {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} [الإسراء: 62] {ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك} [الحجر: 39] {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17] فكأنه لما قال ذلك على سبيل الظن تقاضاه ظنه الصدق فصدقه في إعمال الحيلة حتى كان ذلك الظن- هذا على قراءة الجماعة بالتخفيف، وأما على قراءة الكوفيين بالتشديد فالمعنى أنه جعل ظنه الذي كان يمكن تكذيبه فيه قبل التحقق صادقاً، بحيث لا يمكن أحداً تكذيبه فيه، ولذلك سبب سبحانه عنه قوله: {فاتبعوه} أي بغاية الجهد بميل الطبع والاستلذاذ الموجب للنزوع والترامي بعضهم في الكفران وبعضهم في مطلق العصيان.
ولما كان المحدث عنهم جمعي الناس، عرف به الاستثناء المعرف لقلة الناجين فقال: {إلا فريقاً} أي ناساً لهم القدرة على تفريق كلمة أهل الكفر وفض جمعهم وإن كانوا بالنسبة إليهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود {من المؤمنين} أي العريقين في الإيمان، فكانوا خالصين لله مخلصين في عبادته، وأما غيرهم فمالوا معه، وكان منهم المقل ومنهم المكثر بالهفوات والزلات الصغائر والكبائر.

.تفسير الآيات (21- 23):

{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}
ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه، نفاه بقوله: {وما} أي والحال أنه ما {كان} أصلاً {له عليهم} أي الذين اتبعوه ولا غيرهم، وأعرق فيما هو الحق من النفي بقوله: {من سلطان} أي تسلط قاهر لشيء من الأشياء بوجه لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً، ذليلاً خائفاً مدحوراً، قال القشيري: هو مسلط، ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه {إلا} أي لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا وملكناه قيادهم بقهرنا؛ وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال: {لنعلم} أي بما لنا من العظمة {من يؤمن} أي يوجد الإيمان لله {بالآخرة} أي ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تميزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب {ممن هو منها} أي من الآخرة {في شك} فهو لا يتجدد له بها إيمان أصلاً، لأن الشك ظرف له محيط به، وإنما استعار {إلا} موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي.
ولما كان هذا ربما أوقع في وهم نقصاً في العلم أو في القدرة، قال مشيراً إلى أنه سبحانه يسره صلى الله عليه وسلم بتكثير هذا الفريق المخلص وجعل أكثره من أمته فقال: {وربك} أي المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك وإخسائه عن أمتك {على كل شيء} من المكلفين وغيرهم {حفيظ} أي حافظ أتم حفظ محيط به مدبر له على وجه العلو بعلمه الكامل وقدرته الشاملة، فلا يفعل الشيطان ولا غيره شيئاً إلا بعلمه وإذنه.
ولما أثبت سبحانه لنفسه ولذاته الأقدس من الملك في السماوات والأرض وغيرهما ما رأيت، واستدل عليه من الأدلة التي لا يمكن التصويب إليها بطعن بما سمعت، وكان المقصود الأعظم التوحيد فإنه أصل ينبني عليه كل خير قال: {قل} أي يا أعلم الخلق! بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا ما لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة: {ادعوا الذين زعمتم} أي أنهم آلهة كما تدعون الله لاسيما في وقت الشدائد، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وتألههم تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه، وليس المذكور في الآية مفعولاً ولا قائماً مقام المفعول لفساد المعنى؛ وبين حقارتهم بقوله: {من دون الله} أي الذي حاز جميع العظمة لشيء مما أثبته سبحانه لنفسه فليفعلوا شيئاً مثله أو يبطلو شيئاً مما فعله سبحانه.
ولما كان جوابهم في ذلك السكوت عجزاً وحيرة، تولى سبحانه الجواب عنهم، إشارة إلى أن جواب كل من له تأمل لا وقفة فيه بقوله، معبراً عنهم بعبارة من له علم بإقامتهم في ذلك المقام، أو لأن بعض من ادعيت إلهيته ممن له علم: {لا يمكلون} أي الآن ولا يتجدد لهم شيء من ذلك أصلاً.
ولما كان المراد المبالغة في الحقارة بما تعرف العرب قال: {مثقال ذرة} ولما أريد العموم عبر بقوله: {في السماوات} وأكد فقال: {ولا في الأرض} لأن السماء ما علا، والأرض ما سفل، والسماوات في العرش، والأرض في السماء، فاستغرق ذلك النفي عنهما وعن كل ما فيهما من ذات ومعنى إلى العرش، وهو ذو العرش العظيم.
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخالص عن شوب المشاركة، نفى المشاركة أيضاً بقوله مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه: {وما لهم فيهما} أي السماوات والأرض ولا فيما فيهما، وأعرق في النفي فقال: {من شرك} أي في خلق ولا مُلك ولا مِلك، وأكد النفي بإثبات الجار. ولما كان مما في السماوات والأرض نفوس هذه الأصنام وقد انتفى ملكهم لشيء من أنفسهم أو ما أسكن فيها سبحانه من قوة أو منفعة، فانتفى أن يقدروا على إعانة غيرهم، وكان للتصريح مزيد روعة للنفوس وهزة للقلوب وقطع للأطماع، حتى لا يكون هناك متشبت قويّ ولا واهٍ قال: {وما له} أي الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ظهير} أي معين على شيء مما يريده، فكيف يصح مع هذا العجز الكلي أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ويعبدوا كما يعبد.
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة، وكان المقصود منها أثرها لا عينها، نفاه بقوله: {ولا تنفع} أي في أيّ وقت من الأوقات {الشفاعة عنده} أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء {إلا لمن} ولما كانت كثافة الحجاب أعظم في الهيبة، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه: {أذن له} أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في أن يشفع فيه غيره، وقراءة الباقين بالبناء للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر، وهو أنه لا افتيات عليه بوجه من أحد ما، بل لا أن ينص هو سبحانه على الإذن، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً.
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل أين فلان ينخلع قلبه وربما أغمي عليه، فلذلك كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى: {حتّى} وهو غاية لنحو أن يقال: فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى {إذا فزع} أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه- هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء {عن قلوبهم} أي الشافعين والمشفوع لهم، فإن فعّل يأتي للإزالة كقذّيت عينه: إذا أزلت عنها القذى {قالوا} أي قال بعضهم لبعض: {ماذا قال ربكم} ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم.
ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه، أو عارضه فيه شخص من أعيان جنده فينتقض، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال: {قالوا الحق} أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه {وهو العلي} أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى، فلا يقول غير الحق من نقص علم {الكبير} أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان {فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا} للذي قال- {الحق وهو العلي الكبير} فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» وقال في التوحيد: وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما: «وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق» وروى هذا الحديث العيني في جزئه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي، وفيه: فلا ينزل على سماء إلا صفقوا، وفي آخره: ثم يقال: يكون العام كذا ويكون العام كذا، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دحروا، فقالت العرب: هلك من في السماء، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها، حتى نهتهم ثقيف، واستدلوا بثبات معلم النجوم، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة.