فصل: تفسير الآيات (33- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 38):

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)}
ولما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك: {جنات} أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها، فكان كأنه هو الثواب {عدن} أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها {يدخلونها} أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل {الذين} ومن قال ل {عبادنا} خص الدخول بالمقتصد والسابق- هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطؤوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال: {يحلّون فيها} أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي {من أساور} ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبيناً لنوع الأساور: {من ذهب ولؤلؤاً} ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين: {ولباسهم فيها حرير}.
ولما كان المقتصد والسابق يحزنون لكمالهم وشدة شفقتهم على الظالم إذا قوصص، جمع فقال معبراً بالماضي تحقيقاً له: {وقالوا} أي عند دخولهم: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الذي لم تمام القدرة {الذي أذهب} أي بدخولنا هذا {عنا الحزن} أي هذا النوع بكماله، فلا نحزن على شيء كان فاتنا، ولا يكون لنا حزن أبداً لأنا صرنا في دار لا يفوت فيها شيء أصلاً ولا ينفى.
ولما كانوا عالمين بما اجترحوه من الزلات أو الهفوات أو الغفلات التي لولا الكرم لأدتهم إلى النار، عللوا ما صاروا إليه معها بقولهم، مؤكدين إعلاماً بما عندهم من السرور بالعفو عن ذنوبهم، وأن ما أكدوه حقيق بأن يتغالى في تأكيده لما رأوا من صحته وجنوا من حلو ثمرته: {إن ربنا} أي المحسن إلينا مع إساءتنا {لغفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين {شكور} أي على ما وهبه للعبد من حسن طاعته ووفقه له من الأعمال الحسنة فجعله به سابقاً، ثم وصفوه بما هو شكر له فقالوا: {الذي أحلنا دار المقامة} أي الإقامة ومكانها وزمانها التي لا يريد النازل بها على كثرة النازلين بها- ارتحالاً منها، ولا يراد به ذلك، ولا شيء فيها يزول فيؤسف عليه.
وكان المالك المطلق لا يجب عليه شيء ولا استحقاق لمملوكه عليه بوجه قال: {من فضله} أي بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منّاً منه سبحانه، لو لم يبعثنا عليها وييسرها لنا لما كانت.
ولما تذكروا ما شاهدوه في عرصات القيامة من تلك الكروب والأهوال، والأنكاد والأثقال، التي أشار إليها قوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الآية، استأنفوا قولهم في وصف دار القرار: {لا يمسنا} أي في وقت من الأوقات {فيها نصيب} أي نصب بدن ولا وجع ولا شيء {ولا يمسنا فيها لغوب} أي كلال وتعب وإعياء وفتور نفس من شيء من الأشياء، قال أبو حيان: هو لازم من تعب البدن. فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها:
علينا لا تنزل الأحزان شاحتها ** لو مسها حجر مسته سراء

ولما بيّن ما هم فيه من النعمة، بيّن ما لأعدائهم من النقمة، زيادة في سرورهم بما قاسوه في الدنيا من تكبرهم عليهم وفجورهم فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات {لهم نار جهنم} أي بما تجهموا أولياء الله الدعاء إليهم. ولما كانت عادة النار إهلاك من دخلها بسرعة، بيّن أن حالها على غير ذلك زيادة في نكالهم وسوء مآلهم فقال مستأنفاً: {لا يقضى} أي لا يحكم وينفذ ويثبت من حاكم ما {عليهم} أي بموت {فيموتوا} أي فيتسبب عن القضاء موتهم، وإذا راجعت ما مضى في سورة سبحان من قوله: {فلا يملكون كشف الضر عنكم} [الإسراء: 56] وما يأتي إن شاء الله تعالى في المرسلات من قوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 36] علمت سر وجوب النصب هنا لأنه لو رفع لكان المعنى أن موتهم ينبغي إن قضي عليهم أو لم يقض وذلك محال.
ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال: {ولا يخفف عنهم} وأعرق في النفي بقوله: {من عذابها} أي جهنم. ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا العذاب خاص بالذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم من الكفار قال: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي} أي بما لنا من العظمة- على قراءة الجماعة بالنون {كل كفور} أي به صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء عليهم السلام وإن لم نره لأن ثبوت المعجزة يستوي فيها المسع والبصر، وبنى أبو عمرو الفعل للمفعول إشارة إلى سهولته وتيسره ورفع {كل}.
ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال: {وهم} أي فعل ذلك بهم والحال أنهم {يصطرخون فيها} أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح. ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله: {ربنا} أي يقولون: أيها المحسن إلينا {أخرجنا} أي من النار {نعمل صالحاً} ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً {غير الذي كنا} أي بغاية جهدنا {نعمل} فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً: {أو لم} أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى؟ أو لم {نعمركم} أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ {ما} أي زماناً {يتذكر فيه} وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر.
ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال: {من تذكر} إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد، والزمان المشار إليه قيل: إنه ستون سنة- قاله ابن عباس رضي الله عنهم، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. وأقلهم من يجوز ذلك».
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى: أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم: {وجاءكم النذير} أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول.
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال: {فذقوا} أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله: {فما} وكان الأصل: لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال: {للظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها {من نصير} أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم.
ولما كان سبحانه عالماً بما نفى وما أثبت، علل ذلك مقرراً سبب دوام عذابهم وأنه بقدر كفرانهم كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] بقوله مؤكداً إشارة إلى أنه لا يجب تمرين النفس عليه لما له من الصعوبة لوقوف النفس مع المحسوسات: {إن الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {عالم غيب} ولما كانت جهة العلو أعرق في الغيب قال: {السماوات والأرض} فأنتج ذلك قوله مؤكداً لأنه من أعجب الغيب لأنه كثيراً ما يخفى على الإنسان ما في نفسه والله تعالى عالم به، أو هو تعليل لما قبله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي قبل أن يعلمها أربابها حين تكون غيباً محضاً، فهو يعلم أنكم لو مدت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً، ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وأنه لا مطمع في صلاحكم، ولذلك يأمر الملك أن يكتب عند نفخ الروح في الولد أنه ما شقي أو سعيد قبل أن يكون له خاطر أصلاً، وربما كان في غاية ما يكون من الإقبال على الخير فعلاً ونية، ثم يختم له بشر، وربما كان على خلاف ذلك في غاية الفساد، لا يدع شركاً ولا غيره من المعاصي حتى يرتكبها وهو عند الله سعيد لما يعلم من نيته بعد ذلك حين يقبل بقلبه عليه فيختم له بخير فيكون من أهل الجنة، وأما الخواطر بعد وجودها في القلوب فقد يطلع عليها الملك والشيطان.

.تفسير الآيات (39- 41):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به، وإتقان صنعه يدل على تمام قدرة صانعه، وتمام قدرته ملزوم لتمام علمه، قال: {هو} أي وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم {الذي جعلكم} أي أيها الناس {خلائف} جمع خليفة، وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به، والخلفاء جمع خليف- قال الأصبهاني، وقال القشيري: أهل كل عصر خليفة عمن تقدمهم، فمن قوم هم لسلفهم جمال، ومن قوم هم أراذل وأندال، الأفاضل زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة.
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان، وهم في الأصل قطعة يسيرة من ترابها فقال: {في الأرض} أي فيما أنتم فيه منها لا غيره تتصرفون فيه بما قدرتم عليه، ولو شاء لم يصرفكم فيه، فمن حقه أن تشكروه ولا تكفروه.
ولما ثبت أن ذلك نعمة منه، عمرهم فيه مدة يتذكر فيه من تذكر، تسبب عنه قوله: {فمن كفر} أي بعد علمه بأن الله هو الذي مكنه لا غيره، واحتقر هذه النعمة السنية {فعليه} أي خاصة {كفره} أي ضرره. ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور، بيّن حاله بقوله مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له {ولا} أي والحال لأنه لا {يزيد الكافرين} أي المغطين للحق {كفرهم} أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهو راسخون فيه غير متمكنين عنه، ولذا لم يقل: لا يزيد من كفر قد يكون كفره غير راسخ فيسلم {عند ربهم} أي المحسن إليهم {إلا مقتاً} أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار.
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها، وكان ذكرها إنما هو تصوير له بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم الخسارة المالية تسفيلاً لهممهم زيادة في توبيخهم: {ولا يزيد الكافرين} أي العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خساراً} أي في الدنيا والآخرة في المال والنفس وهو نهاية ما يفعله الماقت بالممقوت.
ولما بيّن أنه سبحانه هو الذي استخلفهم، أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى الله عليه وسلم بما يضطرهم إلى الإعتراف به فقال: {قل أرءيتم} أي أخبروني {شركاءكم} أضافهم إليهم لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه، وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالشوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدهم لهم شركاء بقوله: {الذين تدعون} أي تدعونهم شركاء {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان التقدير: بأي شيء جعلتموهم شركاء في العبادة، ألهم شرك في الأرض، بنى عليه قوله مكرراً لإشهادهم عجز شركائهم ونقص من عبدوه من دونه: {أروني ماذا} أي الذي أو أيّ شيء {خلقوا من الأرض} أي لتصح لكم دعوى الشركة فيهم، وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا، ولعل استفهامهم عن رؤية شركائهم تنبيه على أنهم من الامتهان والحقارة بحيث يراهم كل من يقصد رؤيتهم ويعلم أنه لا خلق لهم، والله تعالى، بخلاف ذلك في كل من الأمرين، مترد برداء الكبر محتجب بحجاب الجلال والعز، وكل أحد يعلم أنه خالق لكل مخلوق، فكيف يكون من لا يخلق كمن يخلق.
ولما نبههم بهذا الأمر الذي ساقه المعلم بأنه لا ينبغي لعاقل أن يدعي شركة لشيء حتى يعلم الشركة وإن جهل عين المشارك فيه، قال مؤكداً لذلك موسعاً لهم في المحال، زيادة في تبكيتهم على ما هم فيه من الضلال: {أم لهم شرك} أي وإن كان قليلاً {في السماوات} أي أروني ما خلقوا في السماوات، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً مثله أولاً عليه.
ولما أتم التبكيت بالاستفهام عن المرئي، أتبعه التوبيخ بالاستفهام عن المسموع، مؤذناً بالالتفات إلى التكلم بمظهر العظمة بشديد الغضب فقال: {أم آتيناهم} أي الشركاء أو المشركين بهم بما لنا من العظمة {كتاباً} أي دالاً على انه من عندنا بإعجازه أو غير ذلك من البراهين القاطعة ثبتت لهم شركة {فهم} أي المشركون {على بينة} أي حجة ظاهرة، وبينات- على القراءة الأخرى، أي دلائل واضحات بما في ذلك الكتاب من ضروب البيان {منه} أي ذلك الكتاب على أنا أشركناهم في الأمر حتى يشهدوا لهم هذه الشهادة التي لا يسوغون مثلها في إثبات الشركة لعبد من عبيدهم في أحقر الأشياء فكيف يسوغونها في انتقاص الملك الذي لا خير عندهم إلا منه غير هائبين له ولا مستحين منه.
ولما كان التقدير: لم يكن شيء من ذلك فليسوا على بيان، بل على غرور، قال منبهاً لهم على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم مخبراً أنهم لا يقدرون على الإتيان بشيء مما به يطالبون وأنه ليس لهم جواب عما عنه يسألون، وأكده لأجل ظنهم أن أمورهم في غاية الإحكام، {بل أن} أي ما {يعد الظالمون} أي الواضعون للأشياء في غير مواضعها {بعضهم بعضاً} أي الأتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تشفع وتضر ولا تنفع {إلا غروراً}.
ولما بين حقارة الأصنام وكل ما أشركوا به النسبة إلى جلال عظمته، وكانوا لا يقدرون على ادعاء الشركة في الخلق في شيء من ذلك، وكان ربما أقدم على ادعائه معاند منهم أو من غيرهم، وكان الناس قد توصلوا إلى معرفة شيء من التغيرات الفلكية كالشروق والغروب والخسوف، وكانوا لا علم لهم بشيء من الزلازل والزوال، قال مبيناً عظمته سبحانه بعد تحقير أمر شركائهم معجزاً مهدداً لهم على إقدامهم على هذا الافتراء العظيم مبيناً للنعمة بعدم المعاجلة بالهلاك، وأكده لأن من الناس المكذوب به وهم المعطلة، ومنهم من عمله- وإن كان مقراً- عمل المكذب وهو من ينكر شيئاً من قدرته كالبعث: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {يمسك السماوات} أي على كبرها وعلوها {والأرض} أي على سعتها وبعدها عن التماسك على ما يشاهدون إمساكاً مانعاً من {أن تزولا} أي بوجه عظيمة وزلزلة كبيرة، أو زوالاً لا تماسك معه لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق سبحانه.
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان، أتبعه ما هو أبين منه، فقال معبراً بأداة الإمكان: {ولئن زالتا} أي بزلزلة أو خراب {إن} أي ما {أمسكهما} وأكد استغراق النفي بقوله: {من أحد} ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل، أثبت الجار فقال: {من بعده} أي بعد إزالته لهما، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة.
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب، وكان كأنه قيل: هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول: {إنه كان} أي أزلاً وأبداً {حليماً} أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله: {غفوراً} أي محاء لذنوب من رجع إليه، وأقبل بالاعتراف عليه، فلا يعاقبه ولا يعاتبه.