فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 11):

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
ولما كان تطاول الإقامة على شيء موجباً للإلف له، والإلف قتال لما يوجب من الإصرار على المألوف لمحبته «وحبك للشيء يعمي ويصم» قال جواباً لمن يتوقع الجواب عما أثمرته حالهم: {لقد حق القول} أي الكامل في بابه وهو إيجاب العذاب بملازمة الغفلة {على أكثرهم فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيئ.
ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة، وكان ذلك أمراً عجباً، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه- وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر- وأنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال، فقال: {إنا جعلنا} أي بما لنا من العظمة، وأكده لما لهم من التكذيب {في أعناقهم أغلالاً} أي من ظلمات الضلالات كل عنق غل، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تثنى على الحديد فكاد يغطيه فصار- والعنق فيه- كأنه فيها وهي محيطة به.
ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال: {فهي} أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل {إلى الأذقان} جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانعة من مطاطأة الرأس. ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال: {فهم} أي بسبب هذا الوصول {مقمحون} من أقمح الرجل- إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم: قمح البعير- إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء، قال في الجمع بين العباب والمحكم: قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة، قال أبو حيان: ميتة أحدهم ليدفنها:
ونحن على جوانبها قعود ** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الرازي في اللوامع: والمقمح: الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير، وقال القزاز: والمقمح: الشاخص بعيينه الرافع رأسه. أبو عمرو: والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح: أخذك الشيء في راحتك ثم تقمحه في فيك أي تبتلعه، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة- انتهى. وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع الرأس وغض الطرف أو شخوصه إذا عسر عليه الابتلاع- والله أعلم فهذا تمثيل لرفعهم رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً وشماخة بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لم يتأخروا صلافة وتيهاً، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن يقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه، فهم ذلك كالبعير القامح، إنما منعه من الماء مع شدة عطشه مانع عظيم أقمحه، ولكنه خفي أمره فلم يعلم ما هو، ولذلك بنى الاسم للمفعول إشارة إلى أنهم مقهورون على تفويت حظهم من هذا الأمر الجليل.
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال: {وجعلنا} أي بعظمتنا. ولما كان المقصود حجبهم عن خير مخصوص، وهو المؤدي إلى السعادة الكاملة لا عن كل ما ينفعهم، أدخل الجار فقال: {من بين أيديهم} أي الوجه الذي يمكنهم علمه {سداً}. ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال: {ومن خلفهم} أي الوجه الذي هو خفي عنهم، وأعاد السد تأكيداً لإنكارهم ذلك وتحقيقاً لجعله فقال: {سداً} أي فصارت كل جهة يلتفت إليها منسدة، فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ولا الخلوص إليه، فلذلك قال: {فأغشيناهم} أي جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة {فهم} أي بسبب ذلك {لا يبصرون} أي لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم ببصر ظاهر وبصيرة باطنة أصلاً. ولما منعوا بذلك حس البصر، أخبر عن حس السمع فقال: {وسواء} أي مستو ومعتدل غاية الاعتدال من غير نوع فرق؛ وزاد في الدلالة على عدم عقولهم بالتعبير بأداة الاستعلاء إيذاناً بأنهم إذا امتنعوا مع المستعلي كانوا مع غيره أشد امتناعاً فقال: {عليهم ءأنذرتهم} أي ما أخبرناك به من الزواجر المانعة من الكفر {أم لم تنذرهم} ثم بيّن أن الذي استوى حالهم فيه بما سببه الإغشاء عدم الإيمان، فقال مستانفاً: {لا يؤمنون}.
ولما بيّن ما كان السبب المانع لهم من الإبصار، علم أن السبب المانع من السمع مثله، لأن المخبر عزيز، فهو إذا فعل شيئاً كان على وجه لا يمكن فيه حيلة. ولما أخبر أن الأكثر بهذه الصفة، استشرف السامع إلى أمارة يعرف بها الأقل الناجي لأنه المقصود بالذات فقال جواباً له: {إنما تنذر} أي إنذاراً ينتفع به المنذر فيتأثر عنه النجاة، فالمعنى: إنما يؤمن بإنذارك {من اتبع الذكر} أي أجهد نفسه في اتباع كل ما يذكر بالله من القرآن وغيره ويذكر به صاحبه ويشرف {وخشي الرحمن} أي خاف العام الرحمة خوفاً عظيماً، ودل لفت الكلام عن مظهر العظمة إلى الوصف بالرحمانية على أن أهل الخشية يكفيهم في الاتعاظ التذكير بالإحسان {بالغيب} أي بسبب ما يخبر به من مقدوراته الغائبة لاسيما البعث الذي كان اختصاصها بغاية بيانه بسبب كونها قلباً من غير طلب آية كاشفة للحجاب بحيث يصير الأمر عن شهادة لا غيب فيه، بل تجويزاً لما يجوز من انتقامه ولو بقطع إحسانه، لما ثبت له في سورة فاطر من القدرة والاختيار، ويخشاه أيضاً خشية خالصة في حال غيبته عمن يرائيه من الناس، فهؤلاء هم الذين ينفعهم الإنذار، وهو المتقون الذين ثبت في البقرة أن الكتاب هدى لهم، وغيرهم لا سبيل إلى استقامته، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنه ليس عليك إلا الإنذار، إن الله عليم بما يصنعون، فمن علم منه هذه الخشية أقبل به، ومن علم منه القساوة رده على عقبه بما حال دونه من الغشاوة- والله الموفق.
ولما دل السياق على أن هذا نفع نفسه، تشوف السامع إلى معرفة جزائه، فقال مفرداً الضمير على النسق الماضي في مراعاة لفظ {من} دلالة على قلة هذا الصنف من الناس بأجمعهم في هذه السورة الجامعة بكونها قلباً لما تفرق في غيرها: {فبشره} أي بسبب خشيته بالغيب {بمغفرة} أي لذنوبه وإن عظمت وإن تكررت مواقعته لها وتوبته منها، فإن ذلك لا يمنع الاتصاف بالخشية. ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال: {وأجر كريم} أي دارّ عظيم هنيء لذيذ متواصل، لا كدر فيه بوجه.

.تفسير الآيات (12- 16):

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}
ولما بين الأصل الثاني هو الرسالة وأتبعها ثمرتها المختومة بالبشارة، وكان الأصل الثالث في الإيمان- وهو البعث- سبباً عظيماً في الترقية إلى اعتقاد الوحدانية التي هي الأصل الأول، وكان أكثر الخائفين منه سبحانه مقتراً عليهم في دنياهم منغضة عليهم حياتهم، علل هذه البشارة إعلاماً بأن هذا الأجر في هذه الدار بالملابس الباطنة الفاخرة من المعارف والسكينة والبركات والطمأنينة، وبعد البعث بالملابس الطاهرة الزاهرة المسببة عن الملابس الدنيوية الباطنة الخفية من غير أهلها، بشارة لهم ونذارة للقسم الذي قبلهم بقوله، مقدماً للبعث لما ذكر من فائدته، لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بعظمة هذه المقاصد وبأنه لا يحمي لهؤلاء الخلص مع قلتهم ومباينتهم للأولين مع كثرتهم إلا من له العظمة الباهرة: {إنا نحن} أي بما لنا من العظمة التي لا تضاهى {نحيي} أي بحسب التدريج الآن وجملة في الساعة {الموتى} أي كلهم حساً بالبعث ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلم الجهل {ونكتب} أي من صالح وغيره شيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال {ما قدموا} من جميع أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم جملة عند نفخ الروح {وآثارهم} أي سننهم التي تبقى من بعدهم صالحة كانت أو غير صالحة، ونجازي كلاً بما يستحق في الدار الآخرة التي الجزاء فيها لا ينقطع، فلا أكرم منه إذا كان كريماً.
ولما كان ذلك ربما أوهم الاقتصار على كتابة ما ذكر من أحوال الآدميين أو الحاجة إلى الكتابة، دل على قدرته على ما لا تمكن القدرة عليه لأحد غيره في أقل قليل مما ذكر، فكيف بما فوقه، فقال ناصباً عطفاً لفعليه وهي {تكتب}: {وكل شيء} أي من أمر الأحياء وغيرهم {أحصيناه} أي قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وكتبناه {في إمام} أي كتاب هو أهل لأن يقصد {مبين} أي لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال على أحد أراد علمه منه، فلله هذه القدرة الباهرة والعظمة الظاهرة والعزة القاهرة، فالآية من الاحتباك: دل فعل الإحصاء على مصدره وذكر الإمام على فعل الكتابة.
ولما انتهى الكلام إلى هنا، وكان مقصود السورة كما سلف إثبات الرسالة لإنذار يوم الجمع، وكان الإنذار غاية، وكانت الغايات هي المقاصد بالذات، وكانت غاية الإنذار اتباع الذكر، فكان ذلك غاية الغاية، كان الكلام على المتبعين أولى بالتقديم على أنه يلزم من الكلام فيهم الكلام في أضدادهم وهم المعرضون الذين حق عليهم القول والكلام على اليوم المنذر به، فلذلك ضرب المثل الجامع لذلك كله، ومر إلى أن صور البعث تصويراً لم يتقدم مثله، ثم عطف بآية الطمس وما بعدها على القسم المعرض، ثم رجع إلى الكلام على الرسول والكتاب.
ولما دل سبحانه على ما له من القدرة الكاملة بالأفعال الهائلة من كل من الإماتة والإحياء الحسيين والمعنويين إبداء وإعادة، وكان ضرب الأمثال بالمشاهدات ألصق شيء بالبال، وأقطع للمراء والجدال، وأكتشف لما يراد من الأحوال، قال عاطفاً على {فبشره} مبيناً للأصل الثالث الذي هو الأول بالأصالة المقصود بالذات، وهو التوحيد، ضامّاً إليه الأصلين الاخرين، ليكون المثل جامعاً، والبرهان به واضحاً ساطعاً: {واضرب لهم} أي لأجلهم بشارة بما يرجى لهم عند إقبالهم، ونذارة لما يخشى عليهم عند إعراضهم وإدبارهم {مثلاً} أي مشاهداً في إصرارهم على مخالفة الرسول وصبره عليهم ولطفه بهم، لأنا ختمنا على قلوبهم على الكفران مع قربهم منك في النسب والدار، وفوز غيرهم لأنا نورنا قلوبهم مع البعد في النسب والدار بالإيمان وثمراته الحسان، لأنهم يخشون الرحمن بالغيب، ولا يثبتون على الغباوة والريب.
ولما ذكر المثل، أبدل منه قوله: {أصحاب القرية} التي هي محل الحكمة واجتماع الكلمة وانتشار العلم ومعدن الرحمة. ولما كان الممثل به في الحقيقة إنما هو إخبارها بأحوال أهلها لأنها وجه الشبه، وكانت أخبارها كثيرة في أزمنة مديدة، وعين المراد بقوله: {إذ} وهي بدل اشتمال من القرية مسلوخة من الظرفية. ولما كان الآتي ناحية من بلد وإن عظم يعد في العرف آتياً لذلك البلد، أعاد الضمير على موضع الرسالة تحقيقاً له وإبلاغاً في التعريف بمقدار بعد الأقصى فقال: {جاءها} أي القرية لإنذار أهلها {المرسلون} أي عن الله لكونهم عن رسوله عيسى عليه السلام أرسلهم بأمره لإثبات ما يرضيه سبحانه ونفي ما يكرهه الذين هم من جملة من قيل في فاطر إنهم جاؤوا بالبينات وبالزبر، والتعريف إما لكونهم يعرفون القرية ويعرفون أمرها، وإما لأنه شهير جداً فهم بحيث لو سألوا أحداً من أهل الكتاب الذين يعتنون بها أخبرهم به، لأنه قد عهد منهم الرجوع إليهم بالسؤال ليبينوا لهم- كما زعموا- مواضع الإشكال.
ولما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى صراط المستقيم، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية، أبدل من قوله: {إذ جاءها} تفصيلاً لذلك المجيء قوله، مسنداً إلى نفسه المقدس لكونه أعظم في التسلية: {إذ أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة. ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال: {إليهم اثنين} أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالهما إليهم كأن قالا: نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله {فكذبوهما} أي مع ما لهما من الآيات، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون آية فكانت نوراً في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.
ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه، وأعون على ما يراد منه، سبب عن ذلك قوله حاذفاً المفعول لفهمه من السياق، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له: {فعززنا} أي فأوقعنا العزة، وهي القوة والشدة والغلبة، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتكذيب فحصل ما أردنا من العزة- بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف {بثالث} أرسلناه بما أرسلناهما به {فقالوا} أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم: {إنا إليكم} أي لا إلى غيركم {مرسلون قالوا} أي أهل القرية: {ما أنتم} أي وإن زاد عددكم {إلا} ولما نقض الاستثناء النفي زال شبهة ما تلبس فزال عملها فارتفع قوله: {بشر مثلنا} أي فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلاً دوننا، ولما كان التقدير: فما أرسلتم إلينا بشيء، عطفوا عليه قوله: {وما أنزل الرحمن} أي العام الرحمة، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته تقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا، وأعرقوا في النفي بقولهم: {من شيء}.
ولما كان الإتيان على ما ذكر محتملاً للغلط ونحوه، قالوا دافعين لذلك: {إن} أي ما {أنتم إلا تكذبون} أي حالاً ومآلاً {قالوا} أي الرسل: {ربنا} أي الذي لو لم يكن لنا وازع عن الكذب عليه إلا إحسانه إلينا لكان كافياً {يعلم} أي ولذلك يظهر على أيدينا الآيات، ويحمينا ممن يكيدنا، وهذه العبارة تجري مجرى القسم، وكذا نحو {شهد الله}. ولما واجهوهم بهذا التكذيب المبالغ في تأكيده زادوا في تأكيد جوابه فقالوا: {إنا إليكم} أي خاصة {لمرسلون} ما أتيناكم غلطاً ولا كذباً، فالأول ابتداء أخبار، وهذان جوابا إنكار، فأعطى كلاًّ ما يستحق.

.تفسير الآيات (17- 24):

{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}
ولما قرروا ذلك عندهم، اتبعوه بدليله وبالإعلام بأن وبال التكذيب لا يلحقهم منه ضرر، إشارة لهم إلى الإنذار من عذاب الملك الجبار فقالوا: {وما علينا} أي وجوباً من قبل من أرسلنا، وهو الله تعالى الذي له الأمر كله {إلا البلاغ المبين} أي المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات وغيرها، فلولا أنه يعلم لما أمكننا شيء من ذلك كما أن آلهتكم لما لم يكن لها علم لم يقدروا على بيان في أمرها بشيء، وإذ قد ثبت علم مرسلنا برسالتنا فهو الشاهد لنا بما يظهر على أيدينا وكفى به شهيداً.
ولما كان حلول الصالحين بين الناس يكون تارة نعمة وأخرى نقمة باعتبار التصديق والتكذيب والإساءة والإحسان، فكان قد حصل لهؤلاء الذين كذبوا هؤلاء الرسل بلاء لتكذيبهم لهم من جدب الأرض وصعوبة الزمان، ونحو ذلك من الامتحان، ذكر ما أثره ذلك عند أهل القرية فقال: {قالوا} ولما كانوا لما يرون عليهم من الآيات وظاهر الكرامات مما يشهد ببركتهم ويمن نقيبتهم بحيث إذا ذموهم توقعوا تكذيب الناس لهم، أكدوا قولهم: {إنا تطيرنا} أي حملنا أنفسنا على الطيرة والتشاوم تطيراً ظاهراً- بما أشار إليه الإظهار بخلاف ما في النمل والأعراف {بكم} بنسبة ما حل بنا من البلاء إلى شومكم، لأن عادة الجهال التيمن بما مالوا إليه ويسندون ما حل بهم من نعمة إلى يمنة والتشاوم بما كرهوه، ويسندون ما أصابهم من نقمة إلى شومه؛ ثم إنهم استأنفوا استئناف النتائج قولهم على سبيل التأكيد إعلاماً بأن ما أخبروا به لا فترة لهم عنه وإن كان مثلهم مستبعداً عند العقلاء: {لئن لم تنتهوا} أي عن دعائكم هذا {لنرجمنكم} أي لنشتمنكم أو لنرمينكم بالحجارة حتى تنتهوا أو لنقتلنكم شر قتلة. ولما كان الإنسان قد يفعل ما لا يؤخذ أثره فقالوا معبرين بالمس دون الإمساس: {وليمسنكم منا} أي عاجلاً لا من غيرنا كما تقولون أنتم في تهديدكم إيانا بما يحل بنا ممن أرسلكم {عذاب أليم} حتى تنتهوا عنا لنكف عن إيلامكم {قالوا} أي الرسل: {طائركم} أي شومكم الذي أحل بكم البلاء {معكم} وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم.
ولما كان لم يبد منهم غير ما يقتضي عند النظر الصحيح التيمن والبركة، وهو التذكير بالله الذي بيده الخير كله، أنكروا عليهم تطيرهم منهم على وجه مبين أنه لا سبب لذلك غيره فقالوا: {أئن ذكرتم} أي الأجل إن حصل لكم تذكير بالله تطيرتم بنا؟ ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه، أضربوا عنه منبهين لهم على أن موضع الشوم إسرافهم لا غير فقالوا: {بل} أي ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير سبب للتطير بل {أنتم قوم} أي غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون {مسرفون} أي عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى، فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إن شاء، وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب، قدم مكان المجيء على فاعله بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال: {وجاء من أقصا} أي أبعد- بخلاف ما مر في سورة القصص؛ ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية كما تقدم وقال: {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم لبعد الأطراف وجمع الأخلاط. ولما بين الفاعل بقوله: {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المنكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله: {يسعى} أي يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه، بينه قوله: {قال} واستعطفهم بقوله: {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله: {اتبعوا المرسلين} أي في عبادة الله وحده وكل ما يأمرونكم به؛ ثم نبههم على الداعي إلى اتباعهم والمانع من الإعراض عنهم بقوله، معداً الفعل دلالة على شدة اهتمامه به: {اتبعوا} أي بغاية جهدكم {من لا يسئلكم} أي في حال من الأحوال {أجراً} ولما كان أفرد الضمير نظراً إلى لفظ {من} دلالة على وجوب الاتباع لمن اتصف بهذا الأمر الدال على الرسالة وإن كان واحداً، جمع بياناً للأولوية بالتظافر والتعاضد والاتفاق في الصيانة والبعد عن الدنس، الدال على اتحاد القصد الدال على تحتم الصدق فقال: {وهم مهتدون} أي ثابت لهم الاهتداء لا يزايلهم، ما قصدوا شيئاً إلا أصابوا وجه صوابه، فتفوزوا بالدين الموجب للفوز بالآخرة، ولا يفوتكم شيء من الدنيا، فأتى بمجامع الترغيب في هذا الكلام الوجيز.
ولما أفهم السياق أنه قال: فإني اتبعتهم في عبادة الله، بنى عليه قوله جواباً لمن يلومه على ذلك وترغيباً فيما اختاره لنفسه وتوبيخاً لمن يأباه: {وما} أي وأيّ شيء {لي} في أني {لا أعبد الذي فطرني} أي وإليه أرجع، فله مبدئي ومعادي، وما لكم لا تعبدون الذي فطركم {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} كذلك فهو يستحق العبادة شكراً لما أنعم به في الابتداء وخوفاً من عاقبته في الانتهاء فالآية من الاحتباك: حذف وإليه أرجع أولاً لما دل عليه ثانياً، وإنكاره عليهم ثانياً بما دل عليه أولاً من إنكاره على نفسه استجلاباً لهم بإظهار الإنصاف، والبعد عن التصريح بالخلاف، وفيه تنبيه لهم على موجب الشكر، وتهديد على ارتكاب الكفر.
ولما أمر صريحاً ونهى تلويحاً، ورغب ورهب، ووبخ وقرع، وبين جلالة من آمن به ومن كانوا سبباً في ذلك، أنكر على من يفعل غيره بالإنكار على نفسه، محقراً لمن عبدوه من دون الله وهو غارقون في نعمه، فقال مشيراً بصيغة الافتعال إلى أن في ذلك مخالفة للفطرة الأولى: {ءأتخذ} وبين علو رتبته سبحانه بقوله: {من دونه} أي سواء مع دنو المنزلة؛ وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال: {آلهة} ثم حقق ذلك بقوله مبيناً بأداة الشك أن النفع أكثر من الضر ترغيباً فيه سبحانه: {إن يردن} إرادة خفيفة بما أشار إليه حذف الياء، أو شديدة بما أشار إليه إثباتها، ظاهرة بما دل عليه تحريكها، أو خفية بما نبه عليه إسكانها.
ولما ذكرهم بإبداعه سبحانه له إرشاداً إلى أنهم كذلك، صرح بما يعمهم فقال: {الرحمن} أي العام النعمة على كل مخلوق من العابد والمعبود، وحذرهم بقوله: {بضر} وأبطل أنهى ما يعتقدونه فيها بقوله: {لا تغن عني} أي وكل أحد مثلي في هذا {شفاعتهم} أي لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد {شيئاً} من إغناء.
ولما دل بإفراد الشفاعة على عدهم عدماً ولو اتحدت شفاعتهم وتعاونهم في آن واحد، دل بضمير الجمع على أنهم كذلك سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين فقال: {ولا ينقذون} أي من مصيبته إن دعا الأمر إلى المشاققة بما أراده فإنه بمجرد إرادته يكون مراده، إنفاذاً ضعيفاً- بما أشار إليه من حذف الياء، ولا شديداً- بما دل عليه من أثبتها ظاهراً خفياً، ثم استأنف ما يبين بعد ذلك عن فعل العقلاء الناصحين لأنفسهم بقوله مؤكداً له بأنواع التأكيد لأجل إنكارهم له بعدم رجوعهم عن معبوداتهم: {إني إذاً} أي إذا فعلت ذلك الاتخاذ {لفي ضلال} أي محيط بي لا أقدر معه على نوع اهتداء {مبين} أي واضح في نفسه لمن لم يكن مظروفاً له، موضح لكل ناظر ما هو فيه من الظلام.