فصل: تفسير الآيات (123- 130):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (123- 130):

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)}
ولما كان إلياس أعظم المتجردين من أتباعهما المجددين لما درس من أحكام التوراة، وكان ترك أحكامها مع ما وصفت به من البيان وما دعت إليه من الاستقامة في غاية من الضلال تكاد أن لا يصدق مثلها أشار إلى الزيغ عنه بياناً لأن القلوب بيده سبحانه فقال مؤكداً: {وإن إلياس} أي الذي كان أحد بني إسرائيل عند جميع المفسرين إلا ابن مسعود وعكرمة، وهو من سبط لاوي، ومن أولاد هارون عليه السلام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو عم اليسع عليهم السلام، وأرسلناه إلى من كان منهم في أرض بعلبك ونواحيها، فلما لم يرجعوا إليه نزعنا عنه الشهوات الإنسانية وخلقناه بالأوصاف الملكية، ولا يبعد أن يكون الداعي إلى تسميته بهذا الاسم ما سبق في علم الله أنه ييأس ممن يدعوهم إلى الله فيكون ممن يأتي يوم القيامة وما معه إلا الواحد أو الاثنان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان: البخاري في الرقاق والطب، ومسلم في الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما: «عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه رهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد»، فجعل سبحانه اسمه مناسباً لأمره في قومه بيأسه منهم حين فر إلى الجبال من شرهم، ويأسهم من القدرة على قتله، فإنهم اجتهدوا في ذلك حتى أعياهم، وأدل دليل على هذا المعنى قراءة ابن عامر بخلاف عنه بوصل الهمزة في الدرج وفتحها في الابتداء، وإن قال العلماء كما حكاه السمين في إعرابه: إن ذلك من تلاعب العرب بالأسماء العجمية، قطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى، يعني فخاطبهم سبحانه بما ألفوه من لسانهم {لمن المرسلين} أي إلى من بدل أمر التوارة ونابذ ما دعت إليه {إذ قال لقومه} منكراً عليهم ما من حقه الإنكار بقوله: {ألا تتقون} أي يوجد منكم تقوى وخوف، فإن ما أنتم عليه يقتضي شراً طويلاً، وعذاباً وبيلاً، وما أنتم عليه من السكون والدعة يقتضي أنه لا خوف عندكم أصلاً، وذلك غاية الجهل والاغترار بمن تعلمون أنه لا خالق لكم ولا رازق غيره.
ولما كان هذا الإنكار سبباً للإصغاء، كرره مفصحاً بسببه فقال: {أتدعون بعلاً} أي إلهاً ورباً، وهم صنم كان لهم في مدينة بعلبك كان من ذهب طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه، فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها، وهم أربعمائة ويعلمونها الناس، ويحتمل أن يكون علماً على الصنم المذكور فيكون المفعول الثاني منوياً، وحذف ليفهم الدعاء الذي لا دعاة يشبهه وهو الدعاء بالإلهية، ومن قرأ شاذاً {بعلاء} بوزن حمراء فهو إشارة إلى كثرة حث امرأة الملك على عبادة بعل وقتل إلياس عليه السلام، وطاعة زوجها لها في ذلك- كما حكاه البغوي، فاستحق التأنيث لذلك، فأنث لكثرة ملابستها له، والجنسية علة الصنم.
ولما كان دعاؤهم إياه للعبادة بينه بقوله: {وتذرون} ومادة وذر تدور على ما يكره، فالمعنى: وتتركون ترك المهمل الذي من شأنه أن يزهد فيه، ولو قيل: وتدعون- تهافتاً على الجناس لم يفد هذا وانقلب المراد. ولما كان الداعي لا يدعو إلا بكشف ضر أو إلباس نفع، فكان لا يجوز أن يدعو إلا من يقدر على إعدام ما يشاء وإيجاد ما يريد، قال منبهاً لهم على غلطهم في الفعل والترك: {أحسن الخالقين} أي وهو من لا يحتاج في الإيجاد والإعدام إلى أسباب فلا تعبدونه.
ولما كان الإنسان يعلم يقيناً أنه لم يرب نفسه إلا بالإنشاء من العدم ولا بما بعده، وكان الإحسان أعظم عاطف للإنسان، قال مبيناً لمن أراد مذكراً لهم بإحسانه إليهم وإلى من يحامون عنهم، ويوادون من كان يوادهم بالتربية بعد الإنشاء من العدم الذي هو أعظم تربية مفخماً للأمر ومعظماً بالإبدال في قراءة الجماعة بالرفع: {الله} فذكر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات تنبيهاً على أنه الأول المطلق الذي لم يكن شيء إلا به {ربكم} أي المحسن إليكم وحده. ولما كانوا ربما أسندوا إيجادهم إلى من قبلهم غباوة منهم أو عناداً قال: {ورب آبائكم الأولين} أي الذين هم أول لكم، فشمل ذلك آباءهم الأقربين، ومن قبلهم إلى آدم عليه السلام.
ولما كان من أعظم المقاصد- كما مضى- التسلية والترجية، سبب عن دعائه قوله: {فكذبوه} ولما كانت الترجية مستبعدة، سبب عن التكذيب قوله مؤكداً لأجل تكذيبهم: {فإنهم لمحضرون} أي مقهورون على إقحامنا إياهم فيما نريد من العذاب الأدنى والأكبر، وذكرهم بالسوء واللعن على مر الآباد وإن كرهوا {إلا عباد الله} أي الذين علموا ما لهم من مجامع العظمة فعملوا بما علموا فلم يدعوا غيره فإنهم لم يكذبوا؛ ثم وصفهم بما أشار إليه من الوصف بالعبودية والإضافة إلى الاسم الأعظم فقال: {المخلصين} أي لعبادته فلم يشركوا به شيئاً جلياً ولا خفياً، فإنهم ناجون من العذاب.
ولما جاهد في الله تعالى وقام بما يجب عليه من حسن الثناء، جازاه سبحانه فقال: عاطفاً على {فإنهم لمحضرون} {وتركنا عليه} أي من الثناء الجميل وجميع ما يسره: {في الآخرين} أي كل من كان بعده إلى يوم الدين. ولما كان السلام اسماً جامعاً لكل خير لأنه إظهار الشرف والإقبال على المسلم عليه بكل ما يريد، أنتج ذلك قوله: {سلام} ولما كان في اسمه على حسب تخفيف العرب له لغات إحداهما توافق الفواصل، فكان لا فرق في تأدية المعنى بين الإتيان بما اتفق منها، وكان ما كثرت حروفه منها أضخم وأجل وأفخم، وكان السياق بعد كثير من مناقبه لنهاية المدحة، كان الأحسن التعبير بما هو أكثر حروفاً وهو موافق للفواصل ليفيد ذلك تمكينه في الفضائل ولتحقق أنه اسم أعجمي لا عربي مشتق من الياس وإن أوهمت ذلك قراءة ابن عامر بوصل همزته فقال: {على آل ياسين} ومن قرأ آل يس فيجوز أن يكون المراد في قراءته ما أريد من القراءة الأخرى لأن أهل اللغة قالوا: أن الآل هو الشخص نفسه، ويس إما لغة في إلياس أو اختصرت اللغة الثانية التي هي إلياسين فحذف منها الهمزة المكسورة مع اللام، ويجوز أن يكون المراد بآله أتباعه، ويكون ذلك أضخم في حقه لما تقدم مما يدعو إليه السياق، ويجوز أن يقصد بهذه القراءة جميع الأنبياء المذكورين في هذه السورة الذين هو أحدهم، أي على الأنبياء المذكورين عقب سورة يس دلالة على ما دعت إليه معانيها من الوحدانية والرسالة والبعث وإذلال العاصي وإعزاز الطائع المجرد لنفسه في حب مولاه عن جميع العوائق، القاطع للطيران إليه أقوى العلائق، وخص بهذا هذه القصة لأنها ختام القصص المسلم فيها على أهلها.

.تفسير الآيات (131- 135):

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)}
ولما أظهر سبحانه شرف إلياس عليه السلام أو الأنبياء الذين هو أحدهم، علله مؤكداً له تنبيهاً على أنه لابد من إعلاء النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على كل من يناويهم وإن كذبت بذلك قريش فقال: {إنا كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي الذين هو من أعيانهم؛ ثم علل الحكم بإحسانه مؤكداً لما مضى في مثله بقوله: {إنه من عبادنا} أي الجديرين بالإضافة إلينا {المؤمنين} ويستفاد من التأكيد أيضاً التنبيه على رسوخ قدمه في الإيمان وأنه بحيث تشتد الرغبة ويقوى النشاط في الإخبار به على ذلك الوجه.
ولما أتم ما أراد سبحانه من أمور المحسنين من ذرية إبراهيم عليه السلام المرسلين إلى ذريته في التسلية، والترجية وقدمهم لأن المنة عليهم منه عليه، والإنسان بابنه أسر منه بقريبه، وهم الذين أظهر الله بهم وما ترك عليه، من لسان الصدق في الآخرين. أتبعهم قصة ابن أخيه مع أهل بلاد الأردن من غير قومهم، فقال مؤكداً للتنبيه على نصر المؤمنين وإن كانوا في القلة والذلة على حال لا يظن انجباره وتكذيباً لليهود المكذبين برسالته أو الشاكين فيها: {وإن لوطاً} أي الذي جرد نفسه من مألوفها من بلاده وعشائره بالهجرة مع عمه إبراهيم عليهما السلام {لمن المرسلين} ولما كان جل المقصود تبشير المؤمنين وتحذير الكافرين، وكان مخالفه كثيراً، وكان هو غريباً بينهم، قال في مظهر العظمة: {إذ نجيناه} أي على ما لمخالفيه من الكثرة والقوة، ولم يذكرهم لأنهم أكثر الناس انغماساً في العلائق البشرية والقاذورات البهيمية التي لا تناسب مراد هذه السورة المنبني على الصفات الملكية {وأهله أجمعين} ولما كان الكفر قاطعاً للسبب القريب كما أن الإيمان واصلاً للسبب البعيد قال: {إلا عجوزاً} أي وهي امرأته فإن كفرها قطعها عن الدخول في حكم أهله فجردوا عنها، كائنة {في الغابرين} أي الباقين في غبرة العذاب ومساءة الانقلاب.

.تفسير الآيات (136- 142):

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}
ولما ذكر نجاته وابتدأ بها اهتماماً بالترجية قال مخوفاً معبراً بأداة البعد إفادة مع الترتيب لعظيم رتبة ما دخلت عليه: {ثم دمرنا} أي أهلكنا بما لنا من العظمة {الآخرين} أي فجردنا الأرض من قاذوراتهم ونزهنا البلاد المقدسة منهم ومن أرجاس فعلاتهم، فلم نبق منهم أحداً ولا احتجنا في إهلاكهم إلى استئذان أحد. ولما كان المقصود من مثل هذا تحذير المخالفين، وكان تجار قريش يرون البقعة التي كانت فيها أماكن قوم لوط، وهي البحيرة المعروفة، ولا يعتبرون بهم، عدّوا منكرين للمرور عليهم فأبرز لهم الكلام في سياق التأكيد فقيل: {وإنكم} أي فعلنا بهم هذا والحال أنكم يا معشر قريش {لتمرون عليهم} أي مواضع ديارهم في تجاراتكم إلى الشام {مصبحين} أي داخلين في الصباح الوقت الذي قلبنا مدائنهم عليهم فيه، ونص عليه للتذكير بحالهم فيه.
ولما كان لليل منظر في الهول غير منظر النهار قال: {وبالليل} ولما كان أمرهم كافياً للعاقل في التقوى، أنكر عليهم تماديهم فيما كان سبب أخذهم من تكذيب الناصح فقال: {أفلا تعقلون} أي يكون لكم عقول فتعتبروا بحالهم، فتخافوا مثل مآلهم، قتصدقوا رسولكم فإنكم أجدر منهم بالأخذ لأنه منكم وأنتم تعرفون من شرف أصله وكريم قوله وفعله ما لا يعرفه أولئك من رسولهم.
ولما أكمل سبحانه ما أراد من أمور من كان على أيديهم هلاك في الدنيا أو في الآخرة، ختم بمن آل أمر قومه إلى سلامة وإيمان ونعمة وإحسان تغليباً للترجية على التأسية والتعزية فقال مؤكداً لأن ما يأتي من ذكر الاباق وبما أوهم شيئاً في أمره: {وإن يونس} أي أحد أنبياء بني إسرائيل وهو يونس بن متى عليه السلام، حكى البغوي في قصة إلياس عليه السلام أنه لما أرسله الله تعالى إلى سبطه من بني إسرائيل الذين كانوا في مدينة بعلبك، فكذبوه وأراد ملكهم قتله فاختفى في تلك الجبال، اشتاق إلى الناس فنزل فمكث عند امرأة من بني إسرائيل وهي أم يونس بن متى عليه السلام، وكان يونس إذ ذاك رضيعاً ثم رجع إلى الجبال فمات يونس عليه السلام، فأتت أمه إلى تلك الجبال، فما زالت تطوف حتى ظفرت بإلياس عليه السلام، فسألته أن يدعو لابنها فيحييه الله، فقال لها: إني لم أومر بهذا، وإنما أنا عبد مأمور، فجزعت فزاد جزعها وتضرعها إليه، فرق لها ورحمها وسار معها فوصل إلى بيتها بعد أربعة عشر يوماً من حين مات، وهو مسجى في ناحية البيت، فدعا الله فأحياه لها، وعاد إلياس عليه السلام إلى جبله {لمن المرسلين}.
ولما كان من أعظم المقاصد التسلية على استكبارهم عن كلمة التوحيد وقولهم: أنه شاعر مجنون، ذكر من أمر يونس عيله السلام ما يعرف منه صعوبة أمر الرسالة وشدة خطبها وثقل أمرها وشدة عنايته سبحانه بالرسل عليهم السلام وأنه ما اختارهم إلا عن علم فهو لا يقولهم وإن اجتهدوا في دفع الرسالة ليزدادوا ثباتاً لأعبائها وقوة في القيام بشأنها فقال: {إذ أبق} أي هرب حين أرسل من سيده الذي تشرفه الله بالرسالة ضعفاً عن حملها لأن الاباق الهرب من السيد إلى حيث يظن أنه يخفى عليه {إلى الفلك} أي البيت الذي يسافر فيه على ظهر البحر.
ولما كان فعله على صورة فعل المشاحن وكان قصده الإيغال في البعد والإسراع في النقلة قال: {المشحون} أي الموقر ملأ، فلا سعة فيه لشيء آخر يكون فيه، فليس لأهله حاجة في الإقامة لحظة واحدة لانتظار شيء من الأشياء فحين وضع رجله فيه ساروا، فاضطرب عليهم الأمر وعظم الزلزال حتى أشرف مركبهم على الغرق على هيئة عرفوا بها أن ذلك لعبد أبق من سيده، فإن عند أهل البحر أن السفينة لا يستقيم سيرها وفيها آبق- نقله الكرماني وغيره عن ابن عباس رضي الله الله عنهما، فسبب لهم ذلك المساهمة أي المقارعة كما هو رسمهم في مثل ذلك الأمر فاستهموا فساهم، أي قارع يونس عليه السلام معهم؛ قال البغوي: والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة. ولما آل وقوع القرعة عليه إلى رميه من السفينة من محل علو إلى أسفل، عبر عن ذلك بما يدل على الزلق الذي يكون من علو إلى سفل فقال مسبباً عن المساهمة: {فكان من المدحضين} أي الموقعين في الدحض، وهو الزلق، فنزل عن مكان الظفر بأن وقعت القرعة فرموه في البحر {فالتقمه} أي ابتلعه كما تبتلع اللقمة {الحوت} أي المعروف من جهة أنه لا حوت أكبر منه، فكأنه لا حوت غيره {وهو} أي والحال أن يونس عليه السلام {مليم} أي داخل في الملامة.

.تفسير الآيات (143- 148):

{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}
ولما وقع ما وقع فتجرد عن نفسه وغيرها تجرداً لم يكن لأحد مثل مجموعه لا جرم، زاد في التجرد بالفناء في مقام الوحدانية فلازم التنزيه حتى أنجاه الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فلولا أنه كان} أي خلقاً وخلقاً {من المسبحين} أي العريقين في هذا المقام، وهو ما يصح إطلاق التسبيح في اللغة عليه من التنزيه بالقلب واللسان والأركان بالصلاة وغيرها لأن خلقه مطابق لما هيئ له من خلقه، فهو لازم لذلك في وقت الرخاء والدعة والخفض والسعة، فكيف به في حال الشدة، وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على الصلاة {للبث في بطنه} أي حيّاً أو بأن يكون غذاء له فتختلط أجزاؤه باجزائه {إلى يوم يبعثون} أي هو والحوت وغيرهما من الخلائق، وعبر بالجمع لإفادة عموم البعث، ولو أفرد لم يفد بعث الحيوانات العجم، ولو ثنى لظن أن ذلك له وللحوت خاصة لمعنى يخصها فلا يفيد بعث غيرهما، وقيل: للبث حيّاً في بطنه، وفي الآية إشارة إلى حديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وحث على الذكر وتعظيم لشأنه.
ولما كان التقدير: ولكنه لما كان ذكاراً لله في حال الرخاء ذكرناه في حال الشدة، فأنجيناه من بطنه، وأخرجناه منه سالماً، وكان ذلك أمراً باهراً للعقل، أبرزه في مظهر العظمة فقال: {فنبذناه} أي ألقيناه من بطن الحوت إلقاء لم يكن لأحد غيره. وكان ذلك علينا يسيراً {بالعراء} أي المكان القفر الواسع الخالي عن ساتر عن نبت أو غيره، وذلك بساحل الموصل، وقال أبو حيان: قذفه في نصيبين من ناحية الموصل: {وهو سقيم} أي عليل جداً مما ناله من جوف الحوت بحيث أنه كان كالطفل ساعة يولد وهو إذ ذاك محمود غير مذموم بنعمة الله التي تدراكته، فكان مجتبى ومن الصالحين {وأنبتنا} أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير.
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان. ولما كان الدباء عن النجم، وكان قد أعظمها سبحانه لأجله، عبر عنها بما له ساق فقال: {شجرة} ولما كانت هذه العبارة مفهمة لأنها مما له ساق، نص على خرق العادة بقوله: {من يقطين} أي من الأشجار التي تلزم الأرض وتقطن فيها وتصلح لأن يأوي إليها ويقطن عندها حتى يصلح حاله، فإنه تعالى عظمها وأخرجها عن عادة أمثالها حتى صارت عليه كالعريش، واليقطين: كل ما يمتد وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء ولا يقوم على ساق كالبطيخ والقثاء، والمراد به هنا- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما شجرة القرع لعظم ورقها وبرد ظلها ونعومة ملمسها وأن الذباب لا يقربها، قال أبو حيان: وماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أصلاً، وقال غيره: فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده، وهو من قطن بالمكان- إذا أقام به إقامة زائل لا ثابت.
ولما كان النظر إلى الترجية أعظم، ختم بها إشارة إلى أنه لا يميته صلى الله عليه وسلم حتى يقر عينه بأمته كثرة طواعية ونعمة فقال: {وأرسلناه} أي بعظمتنا التي لا يقوم لها شيء. ولما لم يتعلق الغرض بتعيين المرسل إليهم، وهل هم الذين أبق عنهم أولاً؟ قال: {إلى مائة ألف} والجمهور على أنهم الذين أرسل إليهم أولاً- قال أبو حيان. ولما كان العدد الكثير لا يمكن ناظره الوقوع فيه على حقيقة عدده، بل يصير- وإن أثبت الناس نظراً- يقول: هم كذا يزيدون قليلاً أو ينقصونه، وتارة يجزم بأنهم لا ينقصون عن كذا، وأما الزيادة فممكنة، وتارة يغلب على ظنه الزيادة، وهو المراد هنا، قال: {أو يزيدون} لأن الترجية في كثرة الأتباع أقر للعين وأسر للقلب، وإفهاماً لأن الزيادة واقعة، وهؤلاء المرسل إليهم هم أهل نينوى وهم من غير قومه، فإن حدود أرض بني إسرائيل الفرات، ونينوى من شرقي الفرات بعيدة عنه جداً.
ولما تسبب عن إتيانه إليهم انشراح صدره بعد ما كان حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال: {فآمنوا} أي تجريداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية. ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال: {فمتعناهم} أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها {إلى حين} أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل.
ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء قال مترجمه: نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي: كانت كلمة الرب على يونان بن متى، يقول له: قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى ترسيس هارباً من قدام الرب، والرب طرح ريحاً عظيمة في البحر، فكان في البحر موج عظيم، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلهه، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له: لماذا أنت نائم؟ قم فادع إلهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك، وقال الرجل لصاحبه: تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان، فقالوا له: أخبرنا ما هذا الشر؟ وماذا هو عملك، ومن أين أنت، ومن أيّ شعب أنت، وأيتها أرضك؟ فقال لهم يونان: أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً، فقالوا له: ماذا صنعت؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلهه هرب، فلما أخبرهم قالوا: ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا؟ قال لهم يونان: خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم، ودعوا إلى الرب وقالوا: أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب، وكل ما شئت تصنع، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر، فاستقر البحر من أمواجه، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال: دعوت الرب في حزني فأجابني، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر، والأنهار أحاطت بي، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت، أنا بحق قلت: إني قد تباعدت من قدام عينيك، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي، وفي أسفل البحر احتبس رأسي، وإلى أسفل الجبال هبطت، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر، إذا اغتمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح، والذي نذرته أوفيه للرب! فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس، وأتى الكلام الرب إليه المرة الثانية، وقال له: قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب، ونينوى كانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام، وتبدّأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال: من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب، فآمن أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه ونزع تاجه، واكتسى مسح شعر، وجلس على الرماد، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه: وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون، وماء فلا يشربون، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء، وعن الاختطاف الذي في يده، وقالوا: من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم، وحزن يونان حزناً شديداً، وتكره من ذلك جداً، وصلى قدام الرب وقال: أيها الرب! ألم تكن هذه كلمتي، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف، طويل صبرك وكثيرة نعمتك، وترد السوء الآن يا رب! انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي من الحياة، فقال له: جداً حزنت يا يونان، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة، وأمر الله الرب أصل القرع، ونبت وارتفع على رأس يونان، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع.
وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع، وحميت الشمس في رأس يونان، واغتم وسال الموت لنفسه وقال: إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني، لأني لم أكن أخبر من إياي، وقال الرب ليونان: جداً حزنت على أصل القرع، فقال يونان: جدّاً أحزن حتى الموت، قال له الرب: أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه، الذي في ليلة نبت، وفي ليلة يبس، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمينهم من شمالهم وكثرة من الغدائر- انتهى. ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته، فكان منه ما كان، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة- والله الموفق.