فصل: تفسير الآيات (9- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 12):

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)}
ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بأنه مرسل، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير: أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزله الله عليه ويترك هذا البشير النذير صلى الله عليه وسلم، عادل به قوله: {أم عندهم} أي خاصة دون غيرهم {خزائن رحمة} ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية، فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم لأنه أضخم لشأنه، وأفخم لمقداره ومكانه: {ربك} أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا {أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرف: 32] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه، المفيض على من يشاء، ما يشاء، قال: {العزيز الوهاب} أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد، وله صفة الإفاضة متكررة الآثار على الدوام، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى.
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال: {أم لهم} أي خاصة {ملك السماوات والأرض} ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال: {وما بينهما} أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله: {فليرتقوا} أي يتكلفوا الرقي إن كان لهم ذلك {في الأسباب} أي الطرق الموصلة إلى السماء ليستووا على العرش الذي هو أمارة الملك فيدبروا العالم فيخصوا من شاؤوا بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء.
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقاقهم، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به: {جند ما} أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض، قال أبو حيان: ويجوز أن تكون {ما} صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن {ما} الصفة تستعمل لهذين المعنيين. وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند: {هنالك} أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً: {مهزوم} أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة {من الأحزاب} أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة، وللرسل عليهم السلام العاقبة، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان: فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر، ثم انبسط صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة.
ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال: {كذبت} ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل: {قبلهم} أي مثل تكذيبهم. ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال: {قوم نوح} واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا.
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض، أتبعهم بهم، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال: {وعاد} مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض، وهجم عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه.
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه، حتى ادعى الألهية في زمانه، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً وإن كان بالماء ظاهراً وذلك أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطرق، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت، فانطبق البحر على فرعون وآله، فقال تعالى: {وفرعون} ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشكيكاً لضعفاء المسلمين.
ولما نص على كفره، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال: {ذو الأوتاد} أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر، قال أبو حيان: وأصله من البيت المطنب بأوتاده- قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية.

.تفسير الآيات (13- 18):

{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}
ولما كانت ثمود أضخم الناس بعدهم بما لهم من إتقان الأبنية في الجبال والسهول والتوسع بعمارة الحدائق وإنباط العيون وغير ذلك من الأمور، مع مناسبتهم لهم في رؤية الآيات المحسوسة الظاهرة العظيمة أتبعهم بهم فقال: {وثمود} واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها، ولم يكن لهم في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم.
ولما كان الحامل لثمود على المعصية الموجبة العذاب النساء لأن عاقر الناقة ما اجترأ على عقرها إلا لامرأة منهم جعلت له على عقرها زواجها، وكان الموجب لعذاب قوم لوط إتيان الذكور، فالجامع بينهم الشهوة الفرج مع الطباق بالذكور والإناث، مع أن عذاب ثمود برجف ديارهم، وعذاب قوم لوط بقلع مدائنهم وحملها ثم قلبها، أتبعهم بهم فقال معبراً بما يدل على قوتهم مضيفاً لهم إلى نبيهم عليه السلام لأنهم عدة مداين ليس لهم اسم جامع كقوم نوح عليه السلام: {وقوم لوط} أي الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وشقاقهم حتى ضربوا بالعشا وطمس الأعين، ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولا التمكن مما أرادوا ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم، بل توعدوه بطلوع النهار.
ولما ذكر أهل المدر، أتبعهم طائفة من أهل الوبر يقاربونهم في الاستعصاء بالشجر، مع أن عذابهم بظلة النار كما كان لقوم لوط عليه السلام حجارة من نار فقال: {وأصحاب لئيْكَةِ} ثم عظم أمرهم تهويناً لأمر قريش وردعاً لهم بالحث على استحضار عذابهم فقال: {أولئك} أي العظماء في التجند والاجتماع على من يناوونه {الأحزاب} أي الذين أقصى رتب هؤلاء في المخالفة أن يكونوا مثل حزب منهم.
ولما كان في معرض المعارضة لتألبهم وشقاقهم، وتجمعهم على المناواة باطلاً واتفاقهم، ولما كانوا لما عندهم من العناد وحمية الجاهلية ربما أنكروا أن يكون هلاك هؤلاء الأحزاب لأجل التكذيب، وقالوا: هو عادة الدهر في الإهلاك والتخالف في أسباب الهلاك، قال مؤكداً بأنواع التأكيد: {إن} أي ما {كل} من هذه الفرق كان لهلاكه سبب من الأسباب {إلا} أنه {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسوله، فإن من كذب رسولاً واحداً مع ثبوت رسالته فقد استهان بمن أرسله، وذلك ملزوم لتكذيب جميع من يرسله لتساوي أقدام المعجزات التي ثبتت رسالتهم بها في إيجاب التصديق {فحق} أي فتسبب عن ذلك التكذيب أنه حق {عقاب} أي ثبت عليه فلم يقدر على التخلص منه بوجه من الوجوه والعدول إلى إفراد الضمير مع أسلوب التكلم لأن المقام للتوحيد كما مضى وهو أنص على المراد، وتقدم السر في حذف الياء رسماً في جميع المصاحف، وقراءة عند أكثر القراء وفي إثباتها في الحالين ليعقوب وحده.
ولما كان السياق للشقاق والإذعان للذكر الذي هو الموعظة ذات الشرف:
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم

كان الحال مقتضياً للعقوبة بخلاف ما في ق فإن السياق لإنكارهم البعث وصحة النذارة وإثبات المجد، فكان الوعيد في ذلك كافياً.
ولما كان التقدير: فلقد أعقبنا كلاًّ من أولئك الأحزاب لما حق عليهم العقاب بنوع من الأنواع لا شك فيه عند أحد ولا ارتياب، عطف عليه قوله: {وما} ولما كانت قريش في شدة العناد والتصميم على الكفر والاستكبار عن الإذعان للحق وتعاطي جميع أسباب العذاب كأنهم ينتظرونه ويستعجلونه، عبر بما يدل على الانتظار. ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم والقطع بصحة ما يقول كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون، جرد فعل الانتظار فقال: {ينظر} وحقرهم بقوله: {هؤلاء} أي الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق، وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب الذين تحزبوا على جندنا فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا ومعروف من أيامنا بأصناف العذاب، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئاً ولم يضر جندنا ضعفهم ولا قلتهم {إلا صيحة} وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كافٍ في إهلاكهم فقال {واحدة} ولما كان السياق للتهديد فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم، بينه بقوله: {ما لها} أي الصيحة {من فواق} أي مزيد أيّ شيء من جنسها يكون فوقها، يقال: فاق أصحابه فوقاً وفواقاً، علاهم، وقرأه حمزة بالضم فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها من غير تأخر أصلاً، فإن الفواق كغراب ما يأخذ المحتضر عند النزاع، والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة لأنه لا صيحة فوقها، ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه وتحقير أعلى شيء من أمرهم ويجوز أن تكون القرءاتان من فواق الحلب، قال الصغائي: والفواق والفواق أي بالضم والفتح: ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سريعة يرضعها الفصيل لتدر قال في القاموس: أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع، فالمعنى: ما لها من رجوع كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة، أو ما لها من انفصال وافتراق بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس وأقصره زمناً كما هي عادة الأصوات المألوفة يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعاً يصير به وقعه ضعيفاً فاتراً، واعتماده على مخرجه رخواً، بل هي صماء على نمط واحد لا تفجأ أحداً إلا مات إلا من ثبته الله تعالى، ويجوز أن يكون من فواق المحتضر، أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت، وهذا موافق لقولهم: ما لها من نظرة وراحة- والله أعلم.
ولما عجب منهم بما مضى، وأبطل شبههم وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضاً قريباً، أتبع ذلك تعجيباً أشد من الأول فقال: {وقالوا} أي استهزاء غير هائبين ما هددناهم به ولا ناظرين في عاقبته: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {عجل لنا} أي إحساناً إلينا {قطنا} أي نصيباً من العذاب الذي توعدنا به وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك وأحصيت فيه أعمالنا، وأصله من قط الشيء- إذا قطعه، ومنه قط القلم، وأكثر استعماله في الكتاب.
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة، أسقطوا حرف الجر وقالوا: {قبل يوم الحساب} فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء، وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى من غير دليل فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره، واشتقاقه من القط وهو القطع، فالقط النصيب والصك وكتاب المحاسبة لأنه قطعه من الورق، والحساب قطعة من الأمور وهو يقطع فيه بما هو له والساعة- لأنها قطعة من الزمان وتقطقط الرجل: ركب رأسه أي تبع هواه الذي هو قطعة من أمره، وجاءت الخيل قطاقط أي قطعاً وجماعات في تفرقة، والقط: القطع، والقطط: القصير الجعد، والطقطقة: حكاية صوت الحجارة، فكأنهم قالوا: عجل من ذلك ما يكون مقطوعاً به لا شك فيه ويسمع صوته على غاية الشدة فيهلك ويفرق بين الأحباب ويكتب في كل صك، ويتلى خبره في سائر الأحقاب، فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلاً، فسبحان الحليم الذي أكرمنا ورحمنا بنبي الرحمة، فلم يعجل لنا النقمة، وأقبل بقلوبنا إليه، وقصر هممنا بعد أن كانت في أشد بعد عليه. ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً- الزبى، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب، والكلام البعيد عن الصواب، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاء أو المبلغ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية: {اصبر} وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال: {على ما} وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال: {يقولون} أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية، فإنه ليس لنقص فيك، ولكنه لحكم تجل عن الوصف، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك: {واذكر عبدنا} أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا، وأبدل منه أو بقوله: {داود ذا الأيد} أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام، فكانت قوته في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام.
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات، بالإصعاد في مدارج الكمالات، ومعارج الإقبال، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات، علل قوته بقوله مؤكداً: {إنه أواب} أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله. ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه، وظهرت على يديه الخوارق، قال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات: {إنا} أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله: {معه} أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير ظاهراً لأحد بعده ولا قبله، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد، عبر بالفعل المضارع، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده: {يسبحن} ولم يقل: مسبحة أو تسبح لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله.
ولما كان في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال: {بالعشي} أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل. ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال: {والإشراق} أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه، وليس الإشراق طلوع الشمس، إنما هو صفاؤها وضوءها، وشروقها طلوعها، وروت أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها الضحى وقال لها: «هذه صلاة الإشراق» وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلاة الضحى في القرآن، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص، ثم قرأ هذه الآية. وإليها الإشارة أيضاً- والله أعلم- بصلاة الأوابين {واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب} {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب} {يا جبال أوبي معه} {والطير محشورة كل له أواب} روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال»، ولفظ الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال: «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال»، ولفظ عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال: «هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال» أي بركت من شدة الحر وإحراقه أخفافها، من الرمض- بالتحريك، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره، والرمضاء: الشديدة الحر.