فصل: تفسير الآيات (69- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (69- 72):

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال: {وأشرقت} أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة {الأرض} أي التي أوجدت لحشرهم، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لاسيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال: {بنور ربها} أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً، وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة.
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ. ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين {وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال: {بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطناً وظاهراً {لا يظلمون} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً.
ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم، وليس نصاً في شمول الحكم لكل عمل، نص عليه بقوله، ذاكراً الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثواباً والقبيحة إن كان عقاباً، والفرق بينه وبين العقل المؤسس على الشهوة وقوة الداعية: {ووفيت كل نفس} ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى، جعل الموفي نفس العمل فقال: {ما عملت} أي من الحسنات، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير «والله أعلم بما يعملون».
ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصاً في العلم قال: {وهو أعلم} أي من العاملين والشهداء عليهم {بما يفعلون} أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا. فالآية من الاحتباك: ذكر ما عملت أولاً يدل على ما فعلت ثانياً، وذكر ما يفعلون ثانياً يدل عليه ما يفعلون أولاً، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظلم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازى عليه بل الله يعلمه.
ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير، قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب فقال: {وسبق} أي بأمر يسير من قبلنا بعد إقامة الحساب سوقاً عنيفاً {الذين كفروا} أي غطوا أنوار عقولهم، فالتبست عليهم الأمور فضلوا {إلى جهنم} أي الدركة التي تلقاهم بالعبوسة كما تلقوا الأوامر والنواهي والقائمين بها بمثل ذلك، فإن ذلك لازم لتغطية العقل {زمراً} أي جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض- قاله أبو عبيد- أصنافاً مصنفين، كل شخص مع من يلائمه في الطريقة والزمرة، مأخوذة من الزمر وهو صوت فيه التباس كالزمر المعروف لأن ذلك الصوت من لازم الجمع.
ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاًّ على صغاره، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق: {حتى إذ جاءوها} أي على صفة الذل والصغار، وأجاب {إذا} بقوله: {فتحت أبوابها} أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام.
ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة، فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه قال: {وقال لهم خزنتها} إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً: {ألم يأتكم رسل} ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى قال واصفاً لرسل: {منكم} أي لتسهل عليكم مراجعتهم.
ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس قال آتياً بصفة أخرى معبراً بالتلاوة التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير: {يتلون} أي يوالون {عليكم آيات} ولما كان أمر المحسن أخف على النفس فيكون أدعى إلى القبول قالوا: {ربكم} أي بالبشارة إن تابعتم. ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر قالوا: {وينذرونكم لقاء يومكم} ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص قالوا: {هذا} إشارة إلى يوم البعث كله، أي من الملك الجبار إن نازعتم، فالآية من الاحتباك: ذكر الرب أولاً دلالة على حذف الجبروت ثانياً والإنذار ثانياً دليلاً على البشارة أولاً {قالوا بلى} أي قد أتونا وتلوا علينا وحذرونا.
ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه مع كونه يسيراً من أعجب العجب، بينوا موجبه بقولهم: {ولكن حقت} أي وجبت وجوباً يطابقه الواقع، لا يقدر معه على الانفكاك عنه {كلمة العذاب} أي التي سبقت في الأزل علينا- هكذا كان الأصل، ولكنهم قالوا: {على الكافرين} تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم للأنوار التي أتتهم بها الرسل.
ولما فرغوا من إهانتهم بتبكيتهم، أنكوهم بالأمر بالدخول، وعبر بالمبني للمفعول إشارة ألى أنهم وصلوا إلى أقصى ما يكون من الذل بحيث إنهم يمتثلون قول كل قائل جل أو قل، فقيل في جواب من كأنه قال: ماذا وقع بعد هذا التقريع؟: {قيل} أي لهم جواباً لكلامهم: {ادخلوا أبواب جهنم} أي طبقاتها المتجهمة لداخليها. ولما كان الإخبار بالخلود حين الدخول أوجع لهم قالوا: {خالدين} أي مقدرين الخلود {فيها} ولما كان سبب كفرهم بالأدلة هو التكبر، سبب عن الأمر بالدخول قوله معرى عن التأكيد لأنه يقال في الآخرة ولا تكذيب فيها يقتضي التأكيد ولم يتقدم منهم هنا كذب كالنحل بل اعتراف وتندم {فبئس مثوى} أي منزل ومقام {المتكبرين} أي الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم، فلذلك تعاطوا أسبابها.

.تفسير الآيات (73- 75):

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}
ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال: {وسيق} وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني.
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: {الذين اتقوا} أي لا جميع المؤمنين {ربهم} أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تجتمعون يوم القيامة» فذكر الحديث حتى قال: «قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين {إلى الجنة زمراً} أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك- إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: {حتى إذا جاءوها} ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: {وفتحت} أي والحال أنها قد فتحت {أبوابها} أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب {إذا} بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: {وقال لهم خزنتها} أي حين الوصول: {سلام عليكم} تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها. ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: {طبتم} أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: {فادخلوها} فأنتج ذلك {خالدين} ولعل فائدة الحذف لجواب {إذا} أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد.
ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي جميع الداخلين: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا: {لله} أي الملك الأعظم {الذي صدقنا وعده} في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة {وأورثنا} كما وعدنا {الأرض} التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا {نتبوأ} أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير: {من الجنة} أي كلها {حيث نشاء} لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً، ولا يشتهي إلا مكانه. ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله: {فنعم} أجرنا- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {أجر العاملين} ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى} معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى: {وإن القوة لله جميعاً} [البقرة: 165] {الملائكة} القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق {حافين} أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله. من الخف وهو الجمع، والحفة وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال: {من حول العرش} أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة. محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال {من} يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال: {ربهم} أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية فقال: {وقضى بينهم} أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات. ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: {بالحق} بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: {وقيل} أي من كل قائل: آخر الأمور كلها {الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: {لله} ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم: {رب العالمين} أي الذي ابتدأهم، أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.