فصل: تفسير الآيات (31- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 34):

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)}
ولما أجمل فصل وبين أو بدل بعد أن هول، فقال بادئاً بمن كان عذابهم مثل عذابهم، ودأبهم شبيهاً بدأبهم: {مثل دأب} أي عادة {قوم نوح} أي فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المحاولة والمقاومة لما يريدونه {وعاد وثمود} مع ما بلغكم من جبروتكم. ولما كان هؤلاء أقوى الأمم، اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال: {والذين} وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال: هذه عادة الدهر، فقال: {من بعدهم} أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم.
ولما كان التقدير: أهلكهم الله وما ظلمهم، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال: {وما الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم، ونكر تعميماً فقال: {يريد ظلماً} أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم {للعباد} لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره، وطوع مشيئته وأمره، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد، وإلا كان كفه ظلماً للمبغي عليهم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه، ومكسوراً من حاكمه، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض- كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل، ومظاهر الكرم الفضل قال: {ويا قوم} ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال: {إني أخاف} وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال: {عليكم} ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال: {يوم التناد} أي أهواله وما يقع فيه، فينادي الجبار سبحانه بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان} وينادونه بلى يا ربنا وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع وينادي ذلك العبد: ألا سمعاً وطاعة وينادي الفائز: ألا نعم أجر العاملين وينادي الخائب: ألا بئس منقلب الظالمين وينادي أصحاب الأعراف وأهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة وينادي الكل حين يذبح الموت، ويدعى كل أناس بإمامهم، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس، وترتفع الأصوات بالضجيج، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور، وتنادي ألسن النيران: أي الجبارون أين المتكبرون، وتنادي الجنة، أين المشمرون في مرضاة الله والصابرون، فيا له يوماً يذل فيه العصاة العتاة ويعز المنكسرة قلوبهم من أجل الله وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير- إذا هرب ونفر، وهو كقوله: {يوم يفر المرء من أخيه} [عبس: 34] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا. ولما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً: {يوم تولون مدبرين} أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى: {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17] وينادي المنادي {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن: 33].
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: {ما لكم من الله} أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: {من عاصم} أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: {ومن يضلل اللهُ} أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان- بما أشار إليه الفلك {فما له من هاد} أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري: فمن مات على شيء فهو مجبول عليه.
ولما كان حاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه: {ولقد جاءكم} أي جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد، ومن أنهم على طبائعهم لاسيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم: {يوسف} أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل زمن موسى عليه السلام: {بالبينات} أي الآيات الظاهرات ولاسيما في أمر يوم التناد {فما زلتم} بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم {في شك} أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن {مما جاءكم به} من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله: {حتى إذا هلك} وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة {قلتم} أي من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى: {لن يبعث الله} أي الذي له صفات الكمال.
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي يوسف عليه السلام {رسولا} وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.
ولما كان كأنه قيل: هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله؟ أجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن {يضل} وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده {الله} أي بما له من صفات القهر {من هو مسرف} أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر.
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال: {مرتاب} أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة.

.تفسير الآيات (35- 39):

{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)}
ولما ظهر ظهوراً لا يحتمل شكاً بما أتى به موسى عليه السلام من البينات أن شكهم في رسالة الماضي وجزمهم في الحكم بنفي رسالة الآتي أعظم ضلال وأنه من الجدال الذي لا معنى له إلا فتل المحق عما هو عليه من الحق إلى ما عليه المجادل من الضلال، وصل بذلك قوله على سبيل الاستنتاج ذماً لهم بعبارة تعم غيرهم: {الذين} أي جدال من {يجادلون} أي يقاتلون ويخاصمون خصاماً شديداً {في آيات الله} أي المحيطة بأوصاف الكمال لاسيما الآيات الدالة على يوم التناد، فإنها أظهر الآيات على وجوده سبحانه وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل.
ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً، وهو بما أمر به قال: {بغير سلطان} أي تسليط ودليل {أتاهم} أي من عند من له الأمر كله {كبر} أي عظم هو، أي الجدال المقدر مضافاً قبل {الذين} وبين ما أبهم من هذا العظم بتمييز محول عن الفاعل فقال: {مقتاً عند الله} أي الملك الأعظم {وعند الذين آمنوا} أي الذين هم خاصته.
ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب، فكان التقدير: أولئك طبع الله على قلوبهم، وصل به استنئافاً قوله: {كذلك} أي مثل هذا الطبع العظيم {يطبع} أي يختم ختماً فيه العطب {الله} أي الذي له جميع العظمة {على كل قلب} ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله: {متكبر} أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله {جبار} أي ظاهر الكبر قويّه قهار وقراءة الباقين بالإضافة مثلها سراء في أن السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب، وهي أبين من القراءة الشاذة بتقديم القلب على كل لأن تقديم كل نص في استغراق أفراد القلوب ممن اتصف بهذا الوصف، ومن المقطوع به أن آحاد القلوب موزعة على آحاد الأشخاص لأنه لا يكون لشخص أكثر من قلب بخلاف ما إذا قدم القلب فإنه قد يدعي أن الشخص الواحد، وأن السور لأجل جمعه لأنواع الكبر والجبروت فيكون المعنى: على قلب شخص جامع لكل فرد من أفراد التكبر والتجبر- والله الموفق.
ولما ذكر الطبع المذكور، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تيهاً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه، فصار به ضحكة لكل من سمعه هذا إن كان ظن أنه يصل إلى ما أراد وإن كان قصد بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل، فقال تعال: {وقال فرعون} أي بعد قول المؤمن هذا، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً: {يا هامان} وهو وزيره {ابنِ} وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله: {لي صرحاً} أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد.
قال البغوي: لا يخفى على الناظر وإن بعد. وأصله من التصريح وهو الإظهار، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق، فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي فقال: {لعلي أبلغ الأسباب} أي التي لا أسباب غيرها لعظمها.
ولما كان بلوغها أمراً عجيباً، أورده على نمط مشوق عليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنها، ليتشوف السامع إلى بيانها، بقوله: {أسباب السماوات} أي الأمور الموصلة إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه.
ولما ذكر هذا السبب، ذكر المسبب عنه فقال: {فاطًّلع} أي فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} فيكون كما ترى عطفاً على {أبلغ} ونصبه حفص عن عاصم على الجواب تنبيهاً على أن ما أبرزه الخبيث في عداد الممكن إنما هو تمني محال غير ممكن في العادة.
ولما كان من جملة إرادته بذلك مع إيقاف قومه إلى وقت ما عن المتابعة أن يخيلهم بأن يقول: طلعت فبحثت عما قال موسى فلم أقف له على صحة، قدم لهم قوله مبيناً لحاله إذ ذاك لما ظن من ميل قلوبهم إلى تصديق موسى عليه السلام: {وإني لأظنه} أي موسى {كاذباً} فترك الكلام على احتمال أن يريد في الرسالة أو في الإلهية. ولما كان هذا أمراً عجيباً، وهو كون أحد يظن أنه يخيل للعقول أنه يصعد إلى السماء، وأن الإله الذي هو غني عن كل شيء وقد كان ولا شيء معه يكون في السماء، أو في محل من المحال، فإن كل حال في شيء يحتاج إلى محله، وكل محتاج عاجز ولا يصلح العاجز للإلهية لو لم يجئ عن الله لما كان أهلاً لأن يصدق، فكان التقدير: عمله فرعون لأنا زيناه له، عطف عليه زيادة في التعجيب: {وكذلك} أي ومثل ذلك التزيين العظيم الشأن اللاعب بالألباب. ولما كان الضار هو التزيين لا المزين الخاص، بناه للمفعول فقال: {زين} أي زين المزين النافذ الأمر، وهو لله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه، والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي خلق الله تعالى {لفرعون سوء عمله} في جميع أمره، فاقبل عليه راغباً فيه مع بعده من عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك، وأطاعه فيه وقومه {وصُد} بنفسه ومنع غيره على قراءة الفتح، ومنعه الله- على قراءة الكوفيين ويعقوب بالضم {عن السبيل} أي التي لا سبيل في الحقيقة غيرها، وهو الموصلة إلى الله تعالى.
ولما كان هذا السياق بحيث يظن منه الظان أن لفرعون نوع تصرف، نفى ذلك بقوله: {وما كيد} واعاد الاسم ولم يضمره لئلا يخص بخيثية من الحيثيات فقال: {فرعون} أي في إبطال أمر موسى عليه السلام {إلا في تباب} أي خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه، وما تعطاه إلا لأنه محمول عليه ومقهور فيه، كما كشف عنه الحال، فدل ذلك قطعاً على أنه لو كان له أدنى تصرف يستقل به لما أنتج فعله الخسار.
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات: الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه: {وقال الذي آمن} أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ: {يا قوم} أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم {اتبعون} أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان {أهدكم سبيل} أي طريق {الرشاد} أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولابد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح.
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله {يا قوم} كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال: {إنما هذه الحياة} وحقرها بقوله: {الدنيا} إشارة إلى دناءتها وبقوله: {متاع} إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال: {وإن الآخرة} لكونها المقصودة بالذات {هي دار القرار} التي لا تحول منها أصلاً دائم كل شيء من ثوابها وعقابها، فهي للتلذذ والانتفاع والترفه والاتساع لمن توسل إلى ذلك بحسن الاتباع أو للشقاوة والهلاك، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الأصفهاني: قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن.
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك: ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً.