فصل: تفسير الآيات (51- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (51- 55):

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}
ولما كان حاصل ما مضى من هذا القص الذي هو أحلى من الشراب، وأغلى من الجوهر المنظم في أعناق الكواعب الأتراب، لأنه سبحانه نصر الرسل على أممهم حين هموا بأخذهم، فلم يصلوا إليهم ثم أهلكهم الله هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فعذبهم أشد العذاب، وكذلك نصر موسى عليه السلام والمؤمن الذي دافع عنه، وكان نصر اهل الله قاطبة خفياً، لأنهم يُبتلون ثم يكون لهم العاقبة، فكان أكثر الجامدين وهم أكثر الناس يظن أنه لا نصره لهم، قال الله تعالى لافتاً القول إلى مظهر العظمة، لأن النصرة عنها تكون على سبيل الاستنتاج مما مضى مؤكداً تنبيهاً للأغبياء على ما يخفى عليهم: {إنا} أي بما لنا من العظمة {لننصر رسلنا} أي على من ناوأهم {والذين آمنوا} أي اتسموا بهذا الوصف وإن كانوا في أدنى رتبة.
ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم تكون رتبتها دنية فقال: {في الحياة الدنيا} بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون لهم، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم {ويوم يقوم الأشهاد} أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين، جمع شهيد كشريف وأشراف، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها، لما لهم من الحضور التام، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجمع القلة، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وإنما عبر بذلك إشارة إلى أهل الحكم بصفات الجبروت للقسط، فيرفع أولياءه بكل اعتبار، ويهين أعداءهم كل إهانة.
ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس، أتبعه ما أوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان، فقال مبدلاً مما قبله: {يوم لا ينفع الظالمين} الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها {معذرتهم} أي اعتذارهم وزمانه ومكانه- بما أشار إليه كون المصدر ميمياً ولو جل- بما أشار إليه قراءة التذكير للفعل فعلم بذلك أنهم لا يجدون دفاعاً بغير الاعتذار وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] أو بالقدر {ربنا غلبت علينا شقوتنا} [المؤمون: 106] {ولهم} أي خاصة {اللعنة} أي البعد عن كل خير، مع الإهانة بكل ضير {ولهم} أي خاصة {سوء الدار} وهي النار الحاوية لكل سوء- هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم، وقد علم من هذا أن لأعدائهم- وهم الرسل وأتباعهم- الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار، فظهرت بذلك أعلام النصرة، وصح ما أخبر به من تمام القدرة.
ولما كان التقدير: فلقد نصرنا موسى رسولنا مع إبراق فرعون وإرعاده، عطف عليه قوله دالاً على الكرامة والرحمة، مؤكداً لإزالة ما استقر في النفوس من أن ملوك الدنيا لا يغلبهم الضعفاء: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العزة {موسى الهدى} أي في الدين اللازم منه أن يكون له العاقبة وإن تناهت ضخامة من يعانده، لأنه ضال عن الهدى، والضال هالك وإن طال المدى، وذلك بما آتيناه من النبوة والكتاب.
ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عاماً قال: {وأورثنا} أي بعظمتنا {بني إسرائيل} بعد ما كانوا فيه من الذل {الكتاب} أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به- وهو التوراة- إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم، حال كونه {هدى} أي بياناً عاماً لكل من تبعه {وذكرى} أي عظة عظيمة {لأولي الألباب} أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي، ومنهم من ضل، وذلك تحذير للاتباع، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع.
ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه، سبب عنه قوله: {فاصبر} أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد: {إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة، قال القشيري: الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى.
ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال: {واستغفر لذنبك} أي وهو كل عمل كامل لأن ذلك غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك، وسماه ذنباً من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال: {وسبح} أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً {بحمد ربك} أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر. ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال: {بالعشي والإبكار} فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل على الصلوات الخمس- نقله البغوي. وذلك لأن العشى من زوال الشمس، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

.تفسير الآيات (56- 61):

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)}
ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمراً بشغل غيرهما من باب الأولى، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما، وكان ذلك موجباً للاشتغال عن أعداء الدين رأساً، وكان ذلك أمراً على النفوس شاقاً علله بما يقتضي المداومة على الأعمال والإعراض عنهم لأن خذلانهم أمر قد فرغ منه فقال معللاً للمداومة على الطاعة: {إن الذين يجادلون} أي يناصبون بالعداوة لنقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهويناً لشأنهم فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا {بغير سلطان} أي أمر مسلط ودليل مسلك {أتاهم إن} أي ما {في صدورهم} بصدودهم عن سواء السبيل، وآذن ذكر الصدور دون القلوب لعظم الكبر جداً بأنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها {إلا كبر} أي عن اتباع الحق مع إشراق ضيائه واعتلاء لألائه إرادة إطفائه أو إخفائه، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد {ما هم ببالغيه} أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين تكبراً عن أن يكونوا تحت أوامره، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه، ولابد أن يظهر الدين بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخرين.
ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى: {فاستعذ} أي اطلب العوذ {بالله} المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي على ما له من البطون {هو} أي وحده {السميع} لكل ما يمكن أن يسمع. ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله: {البصير} الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم.
ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر، فقال مؤكداً تنزيلاً للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده: {لخلق السماوات} أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها {والأرض} على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها {أكبر} عند كل من يعقل من الخلق في الخلق {من خلق الناس} أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما، فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم {ولكن أكثر الناس} وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلاً، بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن، بل هم أنزل رتبة من البهائم، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهو كالمحسوس، فمن توقف فيه كان جماداً.
ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول: إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور: وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل: {وما يستوي} أي بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير} وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار.
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود، كالذهب الإبريز بين النقود، فقال: {والذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا {وعملوا الصالحات} كذلك فكانوا محسنين {ولا المسيء} أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات، ووقع التغاير في العطف لأن المراد- والله أعلم- نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي، عطف البصير بغير لا ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير، لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق، واقتصر على الواو في عطف {الذين آمنو} لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً، وينتفي التساوي بينهما لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء، وزيدت لا في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة، وأنها بالاختيار، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت لا هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع، والآية من الاحتباك: ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى: {قليلاً ما يتذكرون} أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر- بما دل عليه الإظهار- منكم قليل- على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب.
ولما ثبت بهذا كله تمام القدرة وانتفى ما توهمه من لا بصر له من الطبائع ثبت قطعاً قوله: {إن الساعة} أي القيامة التي يجادله فيها المجادلون {لآتية} وعزتي! للحكم بالعدل في المقارنة بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي أحد بين محسن عبيده ومسيئهم، فكيف يظن ذلك بأحكم الحاكمين الذي نشاهده يميت المسيء وهو في غاية النعمة والمعصية، والمحسن وهو في غاية البلاء والطاعة، والمظلوم قبل أن ينتصف من الظالم، ولهذا الأمر الظاهر قال: {لا ريب فيها} أي لا شك في إتيانها بوجه من الوجوه، لأفضي فيها بالعدل فأدخل فيها ناساً دار رحمتي، وآخرين نقمتي.
ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى: {ولكن أكثر الناس} أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت: {لا يؤمنون} أي لا يجعلون المخبر لهم بإتيانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس.
ولما كان التقدير: فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقال لعباده كلهم: آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار، عطف عليه قوله: {وقال ربكم} أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة: {ادعوني} أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وحدوني اغفر لكم. وعن الثوري أنه قيل له: ادع، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء: {أستجب} أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه {لكم} في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به، أو كشف مثله من الضر، أو إدخاره في الآخرة، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها، فكل ميسر لما خلق له، قال القشيري، وقيل: الدعاء مفتاح الإجابة، وأسنانه لقمة الحلال- انتهى- والآية بمعنى آية البقرة {أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} [آية: 186].
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل: ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله: {إن الذين يستكبرون} أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله: {عن عبادتي} أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء {سيدخلون} بوعد لا خلف فيه {جهنم} فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة {داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك: ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً. ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم {الله} أي المحيط بصفات الكمال {الذي جعل لكم} لا غيره {الّيل} أي مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة {والنهار مبصراً} لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك: حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل: للراحة لمن أرادها، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها.
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {لذو الفضل} أي عظيم جداً باختياره {على الناس} أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع. ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال: {ولكن أكثر الناس} أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب {لا يشكرون} فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز من الوجود، وبهم ثانياً الجن والإنس- والله أعلم.