فصل: تفسير الآيات (14- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 16):

{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}
ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم، وكان ذلك مفهماً لأنهم فارقوا أهل الطاعة، وكان ذلك موهماً لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل، قال عاطفاً على ما تقديره: فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا: {وما تفرقوا} أي المشركين من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم {إلا} وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال: {من بعد ما جاءهم} أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً {العلم} أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان كل ذلك بياناً لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاءكم له.
ولما كان ترك طريق العلم عجباً ومستبعداً، قال مبيناً أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى: {بغياً} أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل حظوظ الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلاً بل تكون إرادته تابعة لأمر مولاه.
ولما كان مطلق البغي منافياً لمكارم الأخلاق، فكان ارتكابه عجباً، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها، بل كان خاصاً بها، فقال: {بينهم}.
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة، قال عاطفاً على ما تقديره: فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبداً: {ولولا كلمة} أي لا تبديل لها {سبقت} أي في الأزل بتأخيرهم إلى آجالهم. ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعاً له فيزدادوا لذلك شرفاً، وأفرده بالذكر تنبيهاً على ذلك فقال مؤنساً له صلى الله عليه وسلم بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في امته، وزاد ذلك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه: {من ربك} أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم، سبقت الكلمة بإمهالهم {إلى أجل مسمى} ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة {لقضي} على أيسر وجه وأسهله {بينهم} حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق.
ولما أخبر عن حال المتقدمين، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره، وإنكار أن يكون عنده نوع شك، قال على وجه يعم غيرهم، مؤكداً تنبيهاً على ذلك: {وإن الذين} ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل، بني للمفعول قوله: {أورثوا الكتاب} أي الكامل الخاتم، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات، فورثوا كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال: {من بعدهم} أي المتفرقين، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان {لفي شك منه} أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون: إنه سحر وشعر وكهانة، ونحو ذلك، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم {مريب} أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه هذا على أن المراد كتابنا، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولما ثبت بهذا زيغهم عن أوامر الكتاب الآتي من الله، سبب عنه أمره صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحد مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسبباً عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل بضدها: {فلذلك} أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب.
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه، قدم قوله: {فادع} إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية. ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه، قال: {واستقم} أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه {كما أمرت} ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم.
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى، قال: {ولا تتبع} أي تعمداً {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه.
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أمره بما يخالف حالهم فقال: {وقل} أي لجميع أهل الفرق، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق: {آمنت بما} أي بكل شيء. ولما كان أكمل الناس إيماناً أكثرهم استحضاراً لأوصاف الكمال من الجلال والجمال، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال: {أنزل الله} أي الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله، بل كل كتاب ثبت أنه نزل على رسول ثبت رسالته بالمعجزة فأنا به مؤمن وإليه داعٍ كما اقتضاه كمال القوة النظرية، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي: حدثنا أبو بكر- هو ابن الأنباري- حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان حدثنا صحاب بن الحارث أنا بشر بن عمارة عن محمد بن سوقة قال: أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان؟ قال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعاب: تبصرة الفطنة وتاويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف بالعبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، والعدل على أربع شعب: على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم، فمن فهم جمع العلم، ومن حلم لم يضل في الحكم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط أمره، وعاش في الناس. والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين، ومن صدق في المواطن فقد قضى الذي عليه، ومن شنئ المنافقين غضب لله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه، قال: فقام الرجل فقبل رأسه.
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال: {وأمرت} أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ {لأعدل} أي لأجل أن أعدل {بينكم} أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعى إليه كمال القوة العملية، ثم علل ذلك بقوله: {الله} أي الذي له الملك كله {ربنا وربكم} أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده.
ولما كان الرب واحداً، انتج عنه قوله: {لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا {ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال، فهو منزه عن الأغراض، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك: {لا حجة} أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه {بيننا وبينكم} لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فلا فائدة بعده للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف، وإدارة كؤوس الحتوف، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه للخلائق على أنه كلامه، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملاً بفضيلة الشجاعة.
ولما كان هذا موضع أن يقال: أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده، أجاب بقوله مظهراً غير مضمر تعظيماً للأمر: {الله} أي الذي هو أحكم الحاكمين {يجمع بيننا} أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال، وفي الآخرة على كل حال {فهو يحكم بيننا} {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة.
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره، بين أن الأمر فيه على غير ذلك، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمنه كان المبدأ: {وإليه} أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات {المصير} حساً ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة- لتصرف الغير فيها- إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمراً طارئاً يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة.
ولما كان التقدير: فالذين رجعوا إليه طوعاً في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم، عطف عليه قوله مبتدئاً بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار: {والذين يحاجّون} أي يوردون تشكيكاً على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججاً، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب {في الله} أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال.
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمراً ملزماً لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال، قال معلماً إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود، ومنبهاً بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه: {من بعدما} ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال: {استجيب له} أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور، ولم يبق إلا العناد، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله: {لا حجة بيننا وبينكم}.
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج، قال معبراً بمبتدأ ثان مفرداً للحجة إشارة إلى ضعفها: {حجتهم} أي التي زعموها حجة، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبراً عن الأول فقال: {داحضة} أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن {عند} للأمور الظاهرة المألوفة، وصفة التربية للعطف والرفق، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولاسيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب، فالمعنى أن دحوضها ظاهراً جداً ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر، فأين هذا مما لو قيل لدى عليم قدير فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم، فمهما جردوه عن الهوى، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب {وعليهم} زيادة على قطع الإحسان {غضب} أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد، فهم مطرودون عن بابه، مبعودون عن جنابه، مهانون بحجابه. ولما أفهم التعبير ب على ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام، بل كان مفهماً التهكم والملام فقال: {ولهم} أي مع ذلك {عذاب شديد} لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه.

.تفسير الآيات (17- 20):

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}
ولما جزم سبحانه بما توعدهم بعد بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم، نبه على أنه كذلك، مبيناً ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب، بقوله لافتاً القول إلى الاسم الأعظم تنبيهاً على عظمة المخبر عنه: {الله} أي الذي له جميع الملك {الذي} وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال: {أنزل الكتاب} أي أوجد إنزاله هو لا غيره {بالحق} أي متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها.
ولما كان الكتاب آمراً بالعدل قالاً وحالاً، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة، قال مخصصاً معبراً بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند العقل وأبين من الميزان للحس: {والميزان} أي الأمر به مريداً به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في لا عدل بينكم مجازاً. ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذباً، وكان التقدير بما هدى إليه السياق تسلية له صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم: فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقق العدل فيهما بهما فاز، ومن أهمل ذلك خاب فدحضت حجته وسقطت عند ربع منزلته وما يدريك لعل من جار يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر، عطف عليه قوله موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيماً للأمر: {وما يدريك} يا أكمل الخلق {لعل الساعة} التي أشير إليها في هذه الآية بقوله: {عند ربهم} بعد أن صرح بها في غير آية. ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت، ذكرها فقال: {قريب} فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب، أو على حذف مضافة أي مجيئها، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الأعمال ظهوراً لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى، ويخزي من جار وجفا.
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها، فإنه لابد من كونها {يستعجل بها} أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها {الذين لا يؤمنون بها} أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته.
ولما دل على جهل الكافرين، دل على أضدادهم فقال: {والذين آمنوا} وإن كانوا في أول درجات الإيمان {مشفقون} أي خائفون خوفاً عظيماً {منها} لأن الله هداهم بإيمانهم، فصارت صدورهم معادن المعارف، وقلوبهم منابع الأنوار، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار. ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه، قال: {ويعلمون أنها الحق} إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها، فهم لا يستعجلون بها، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده أولاً. قال ابن كثير: وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه: يا محمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من صوته: «هاؤم» فقال: متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه: «ويحك أنها كائنة فما أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت» قال ابن كثير: فقوله في الحديث: «المرء مع من أحب» متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها- انتهى، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو.
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم: {ألا إن الذين يمارون} أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة الشديدة طلباً لظهور شك غيرهم من: مريت الناقة- إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لتستخرج ما عساه يكون فيها من اللبن {في الساعة} أي القيامة وما تحتوي عليه {لفي ضلال} أي ذهاب جائر عن الحق {بعيد *} جداً عن الصواب، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف، وكان هذا عين اللطف، فأنه الوصول إلى الشيء بضده، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق، أنتج ذلك قوله: {الله} أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد {لطيف} أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه، قال القشيري: اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية، وقال الرازي في اللوامع: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي {بعباده} انتهى.
أما بالمؤمن فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء، وأن يكون الخوف أغلب.
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق، فإنه يوسع على من لا حيلة له، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف: {يرزق من يشاء} مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه.
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال: {وهو القوي} أي فلا يضيق عطاؤه بشيء {العزيز *} فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل: هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا، وبدأ برزق الروح لشرفه: {من كان} أي من شريف أو دنيء {يريد} ولما كان مدار مقصد السورة على الدين، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال: {حرث الآخرة} أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد. ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه: {نزد له} أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها {في حرثه} بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة، وطوى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر {ومن كان} أي من قوي أو ضعيف {يريد حرث الدنيا} أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة {نؤته منها} ما قسمناه له، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله {وما} أي والحال أن طالب الدنيا ما {له في الآخرة من نصيب *} أصلاً، روى أبيّ بن كعب رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم- وقال: صحيح الإسناد- والبيهقي، وذلك لأن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف: مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال {ويريدون وجهه} طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس- انتهى، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره.