فصل: تفسير الآيات (52- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (52- 58):

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: أفهذا الذي جاء يسلبنا عبيدنا بني إسرائيل خير عندكم مني؟ نسق عليه قوله: {أم أنا خير} مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء، ونقل ابن الجوزي وغيره من المفسرين عن سيبويه وأستاذه الخليل أنها معادلة لتقريرهم بالإبصار، فكأنه قال: أفلا تبصرون ما ذكرتكم به فترون لعدم إبصاركم أنه خير مني أم أنا خير منه لأنكم لا تبصرون، وكان هو أحق بهذه النصيحة منهم فإنه أراهم الطريق الواضحة إلى الضلال والموصلة إليه من غير مشقة ولا تعب بقوله: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء، فيكون ذلك احتباكاً تقديره: أفلا تبصرون ما نبهتكم عليه، فذكر الإبصار أولاً دليلاً على حذف مثلها ثانياً والخيرية ثانياً دليلاً على حذف مثلها أولاً، وحقر من عظمة الآتي له بتلك الآيات صلى الله عليه وسلم لئلا يسرع الناس إلى اتباعه لأن آياته- لكونها من عند الله- كالشمس بهجة وعلواً وشهرة فقال: {من هذا} فكنى بإشارة القريب عن تحقيره، ثم وصفه بما يبين مراده فقال: {الذي هو مهين} أي ضعيف حقير قليل ذليل، لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً {ولا يكاد يبين} أي لا يقرب من أن يعرب عن معنىً من المعاني لما في لسانه من الحبسة فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان يستجلب القلوب ويدهش الألباب فيكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله، فقد كان موسى عليه الصلاة والسالم أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله الذي أرسله له وأمره إياه ولكن الخبيث أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لأتباعه لأن موسى عليه الصلاة والسلام ما دعا بإزالة حبسته بل بعقدة منها.
ولما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية، والتحلي بحلي الملوك، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله: {فلولا} ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء، عبر به فقال: {ألقي} أي من أيّ ملق كان {عليه} من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة {أسورة} جمع أسورة- قاله الزجاج، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية، والسوار: ما يوضع في العصم من الحلية {من ذهب} ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات {أو جاء معه} أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم {الملائكة} أي هذا النوع، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: {مقترنين} أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به، واستصغر موسى عليه الصلاة والسلام وعابه بالفقر والغي فسلطه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه- أفاده القشيري.
ولما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً، وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال: {فاستخف} أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب {قومه} الذين لهم قوة عظيمة، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم {فأطاعوه} بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره وهو منقوض على تقدير متانته بأن موسى صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه وسلم أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله ومهما طلبوه منه أجابهم إليه، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات إلا المشاكلة في خباثة الأرواح، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر: {إنهم كانوا} أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا {قوماً} أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا {فاسقين} أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً، وكأن مدة محاولة الكليم عليه الصلاة والسلام لهم كانت قريبة، فلذلك عبر بالفاء في قوله: {فلما آسفونا} أي فعلوا معناه ما يغضب إغضاباً شديداً بإغضاب أوليائنا كما في الحديث القدسي «مرضت فلم تعدني» لنكثهم مرة بعد مرة وكرة في إثر كرة {انتقمنا منهم} أي أوقعنا بهم على وجه المكافأة لما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج {فأغرقناهم} في اليم {أجمعين} إهلاك نفس واحدة لم يفلت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم، وهذا لا يكون في العادة إلا بعد علاج كثير أو اعتناء كبير.
ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله، كانوا سبباً لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى: {فجعلناهم} أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه {سلفاً} متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} [القصص: 41]: {ومثلاً} أي حديثاً عجيباً سائراً مسير المثل {للآخرين} الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم، ومن أراد النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر، وجعل له منهم مثلاً يجترئ به على شره، ويقوى على خبثه ومكره، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلاً له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم، ويجعل الخير إهلاكهم مثلاً له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم، يقول أحدهم: أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم، ونقول نحن: إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه، وظن عزه وامتناعه، كدأب آل فرعون، ويقول من أريد به الشر: ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته، وبلوغ النهاية من صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره، ولقد ضل به قوم وأضلوا، وحلوا لمن داناهم عرى الدين فزلوا، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه، وغروا الضعفاء بأن قالوا: إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى: {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83] {وإن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار، وقوله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين} [القصص: 40] {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} وقوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} إلى أن قال {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} [ص: 14] غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفاً ومثلاً للآخرين، فمن أراد به خيراً يسر له مثل خير احتذى به، ومن أراد به شراً أضله بمثل سوء اقتدى به، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا: {ولما ضرب ابن مريم} أي ضربه ضارب منهم {مثلاً} لآلهتهم {إذا قومك} أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه {منه} أي ذلك المثل {يصدون} أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض، فيعرضون به عن إجابة دعائك، يقال: صد عنه صدوداً: أعرض، وصد يصد ويصل: ضج- قاله في القاموس، فلذلك قال ابن الجوزي: معناهما جميعاً- أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها- يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون، قال ابن برجان: والكسر أعلى القراءتين- انتهى.
وذلك أن قريشاً قالوا كما مضى في الأنبياء {إنا وما نعبد في جهنم} مقتض أن يكون عيسى كذلك، وأن نستوي نحن وآلهتنا به، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا- إلى آخر ما قالوا وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في ما لما لا يعقل، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكياً عنهم: {وقالوا أآلهتنا} التي نعبدها من الأصنام والملائكة {خير أم هو} أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه.
ولما اشتد التشوف إلى جوابهم، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى: {ما ضربوه} أي ما ضرب الكفار: ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازاً، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام {لك إلا جدلاً} أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان إلا في أصنامهم، ولأن الخصوص في كلامهم شائع، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه، فلم يقتدوا قط بما ألزموا به أنه لازم {بل هم قوم} أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه {خصمون} أي شديدو الخصام قادرون على اللدد، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي إمامة رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ الآية».

.تفسير الآيات (59- 63):

{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)}
ولما تضمن هذا أنه غير مهان، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال: {إن} أي ما {هو} أي عيسى عليه الصلاة والسلام {إلا عبد} وليس هو بإله {أنعمنا} أي بما لنا من العظمة والإحسان {عليه} أي بالنبوة والإقدار على الخوارق {وجعلناه} بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته {مثلاً} أي أمراً عجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني {لبني إسرائيل} الذين هم أعلم الناس به، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره، وقال: هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان، فنال من الله الرضوان، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام: مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وقال ابن برجان: خصهم- أي بني إسرائيل- بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه، ثم قال: وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته- انتهى، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة.
ولما كان التقدير: فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً؟ لا أنيس بها، عطف عليه قوله: {ولو} معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال: {نشاء لجعلنا} أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {منكم} أي جعلاً مبتدئاً منكم، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية {ملائكة في الأرض يخلفون} أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون المعنى: لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو.
ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضاً، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقاً، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: {وإنه} أي عيسى عليه الصلاة والسلام {لعلم للساعة} أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة، فهو سبب للعلم بالأمرين: عموم الإعدام وعموم القيام.
ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم- لكونهم أهل الكتاب- عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النصارى مثلهم في ذلك، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمراً مقطوعاً به عند الفريقين، أما النصارى فيقولون: إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا، وأما اليهود فيقولون: إنه إلى الآن لم يأت، ويأتي بعد، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتاً عظيماً جداً، فصارت كأنها مشاهدة، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى مواجهتهم مؤكداً في مقابلة إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة: {فلا تمترن} أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل {بها} أي بسببها، يقال: مرى الشيء وامتراه: استخرجه، ومراه مائة سوط: ضربه، ومراه حقه، أي جحده، والمرية بالضم والكسر: الجدل والشك {واتبعون} أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم {هذا} أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره {صراط} أي طريق واسع واضح {مستقيم} أي لا عوج فيه.
ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد، فقال دالاً على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد: {ولا يصدنكم} أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي {الشيطان} ولما كان كأنه قيل ما له يصدنا عن سبيل ربنا؟ ذكر العلة تحذيراً في قوله: {إنه لكم} أي عامة، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته: {عدو مبين} أي واضح العداوة في نفسه مناد بها، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب، عداوة ناشئة عن الحسد، فهي لا تنفك أبداً.
ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلاً لبني إسرائيل، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال، وأمر باتباع الهادي، ونهى عن اتباع المضل، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة، فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى: {وجعلناه مثلاً}: {ولما جاء عيسى} أي إلى بني إسرائيل بعد موسى عليهما الصلاة والسلام: {بالبينات} أي من الآيات المسموعة والمرئية، {قال} منبهاً لهم: {قد جئتكم} ما يدلكم قطعاً على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضاً {بالحكمة} أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال.
ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به، فكان التقدير: لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمراً خاصاً هو من أحكم الحكمة فقال: {ولأبين لكم} أي بياناً واضحاً جداً {بعض الذي تختلفون} أي الآن {فيه} ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بياناً يرده إلى المحكم، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه، وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم ما لا لبس فيه، والمتشابه ما يكون ملبساً، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم، أو يعجز فيقول: الله أعلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر كله، فهو فعال لما يشاء، وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى، سبب عنه قوله تعالى: {فاتقوا الله} أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه {وأطيعون} فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه، فإني لا آخذ شيئاً إلا عنه، ولا أتلقى إلا منه، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى، وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.