فصل: تفسير الآيات (23- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 26):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)}
ولما بين لهم ما يكون ممن تثاقل عن أمر الله، لأن الملك لا يطرق احتمالاً في شيء إلا وهو واقع فرقاً بين كلامه وكلام غيره، فكيف بملك الملوك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، بين حالهم الذي أنتج لهم ذلك، فقال ملتفتاً عنهم إيذاناً بالغضب مخاطباً لمن جبل على الشفقة على خلق الله والرحمة لهم إعلاماً له بأن هؤلاء قد تحتم شقاؤهم فليسوا بأهل للشفاعة فيهم ولا للأسى عليهم: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين لعنهم الله} أي طردهم أشد الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم؛ ثم سبب عن لعبهم قوله تعالى: {فأصمهم} عن الانتفاع بما يسمعون {وأعمى أبصارهم} عن الارتفاق بما يبصرون، فليس سماعهم سماع ادكار، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع لهم ولا إبصار.
ولما أخبر بذلك فكان ربما سأل من لا يعي الكلام حق وعيه عن السبب الموجب للعن المسبب للصم والعمى، أجابه بقوله منكراً موبخاً مظهراً لتاء التفعل إشارة إلى أن المأمور به صرف جميع الهمة إلى التأمل: {أفلا يتدبرون} أي كل من له أهلية التدبر بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير {القرآن} بأن يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس تفكر من ينظر في أدبار الأمور وماذا يلزم من عواقبها ليعلموا أنه لا عون على الإصلاح في الأرض وصلة الأرحام والإخلاص لله في لزوم كل طاعة والبراءة من كل معصية مثل الأمر بالمعروف من الجهاد بالسيف وما دونه، وربما دل إظهار التاء على أن ذلك من أظهر ما في القرآن من المعاني، فلا يحتاج في العثور عليه إلى كبير تدبر- والله أعلم.
ولما كان الاستفهام إنكارياً فكان معناه نفياً، فهو لكونه داخلاً على النفي نفي له فصار إثباتاً، فكان كأنه قيل: هل يجددون التدبر تجديداً مستمراً لترق قلوبهم به وتنير بصائرهم له، فيكفوا عن الإفساد والتقطيع، عادله بقوله مشبهاً للقلوب بالصناديق دالاً على ذلك التشبيه بذكر ما هو مختص بالصناديق من الأقفال: {أم على قلوب} من قلوب الغافلين لذلك، ونكرها لتبعيضها وتحقيرها بتعظيم قسوتها {أقفالها} أي الحقيقة بها الجديرة بأن تضاف إليها، فهي لذلك لا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ولا تزداد إلا غباوة وعناداً، لأنها لا تقدر على التدبر، قال القشيري: فلا تدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب، والباب إذا كان مقفلاً فكما لا يدخل فيه شيء فلا يخرج ما فيه، فلا كفرهم يخرج ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل- انتهى. والإضافة تشعر بأن بعض المتولين على قلوبهم أقفال، لكن ليست متمكنة فيها، فهو سبحانه يفتحها بالتوبة عليهم إذا أراد، وأما الأولون فلا صلاحية لهم، وفي هذه الآية أعظم حاث على قبول أوامر الله لاسيما الجهاد في سبيله وأشد زاجر عن الإعراض عنه لأن حاصلها أنه لعن من أعرض عنه لكونه لا يتدبر القرآن مع وضوحه ويسره ليعلم فوائد الجهاد الداعية إليه المحببة فيه، فكان كأن قلبه مقفل، والآية من الاحتباك: ذكر التدبر أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والأقفال ثانياً دليلاً على ضدها أولاً، وسره أنه ذكر نتيجة الخير الكافلة بالسعادة أولاً وسبب الشر الجامع للشقاوة ثانياً.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأقفال قلوبهم، بين منشأ ذلك، فقال مؤكداً تنبهاً لمن لا يهتم به على أنه مما ينبغي الاهتمام بالنظر فيه ليخلص الإنسان نفسه منه، وتكذيباً لمن يقال: إن ذلك حسن: {إن الذين ارتدوا} أي عالجوا نفوسهم في منازعة الفطرة الأولى في الرجوع عن الإسلام، وهو المراد بقوله: {على أدبارهم} أي من أهل الكتاب وغيرهم، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها، فوقعوا في الضلال فكفروا.
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت، أثبت الجار فقال: {من بعد ما تبين} غاية البيان الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور {لهم} بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين {الهدى} أي الذي أتاهم به رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى: {الشيطان} أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة {سول} أي حسن {لهم} بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل، بعد أن زين لهم سوء العمل، بتمكين الله له منهم، وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى {وأملى لهم} أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام، وأما على قراءة البصريين بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي- أي الممهل- لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم، وتسهيل الأماني والحلم، عن المعاجلة بالنقم، حتى اغتروا، وهي أيضاً موافقة لقوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} [القلم: 45]، وأما في قراءة أبي عمرو بفتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم.
ولما بين تسليطه الشيطان عليهم، بين سببه فقال: {ذلك} أي الأمر البعيد من الخير وما دل عليه صريح العقل {بأنهم} أي بسبب أن هؤلاء المتولين {قالوا للذين كرهوا ما} أي جميع ما {نزل الله} أي الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع تنزيلاً فيه إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها مع السهولة في النطق والعذوبة في السمع والملاءمة للطبع كما يشهد به كل ذوق من الأغبياء والأذكياء على تباينهم في مراتب الغباوة والذكاء، وإعجاز آخر لهم في رصانة المعنى وحكمته، وثالث في مطابقته للحال الذي اقتضى نزوله مطابقة يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، ورابع بنظمه مع ما نزل قبله من الآيات، لا على ترتيب النزول، بل على ما اقتضته الحكمة التي تتضاءل دونها الأفكار، وتولى خاسئة من جلالتها على الأدبار، بصائر أولي الأبصار، وهؤلاء المقول لهم هذا الكلام هم- والله أعلم- المصارحون بالكفر، قالوا لهم بعد هذه الأدلة من الإعجازات، وما تقدمها من الآيات البينات الواضحات: {سنطيعكم} بوعد صادق لا خلق فيه {في بعض الأمر} وهو القتال في سبيل الله الذي تقدم أنهم عند نزول سورة يذكر بها يصيرون كالذي يغشى عليه من الموت، فأنتم في أمان من أن نقاتلكم أبداً، فإنا إنما أسلمنا للأمان على دمائنا وأموالنا، والذي نحبه مما ينزل هو التأمين لمن أقر بكلمة الإسلام والقناعة منه بالظاهر والوعد العام بالتبسط في البلاد والتوسعة في الأرزاق ونحو ذلك، فكانوا بذلك كفرة فإن الدين لا يتجزأ، فمن أضاع من أصوله شيئاً فقد أضاعه كله، والتقييد بالبعض يفهم أنهم لا يطيعونهم في البعض الآخر، وهو إظهار الإسلام والتصور بصورة المسالمة، وذلك كله بأن الله تعالى جبلهم جبلة هيأهم فيها لمثل هذا، فلما قالوه مضيعين لما من عليهم من غريزة العقل استحقوا في مجاري عاداتنا لاختيارهم طاعة العدو- مع تعييب علم العواقب عنهم- أن يخذلوا ويسلط عليهم ليكون أخذهم في الظاهر ممن أطاعوه في الباطن، ولو أنهم استمسكوا بدينهم وكانوا مع أهله يداً على من سواهم لم يقدر عليهم عدو، ولا طرقتهم طارقة يكرهونها سوء.
ولما كان من له أدنى عقل لا يخون إلا إذا ظن أن خيانته تخفي ليأمن عاقبتها، صور قباحة ما ارتكبوه فقال: {والله} أي قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة {يعلم} على مر الأوقات {إسرارهم} أي كلها هذا الذي أفشاه عليهم وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم، ولعلهم لم يعلموه هم فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها ألسنتهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات.

.تفسير الآيات (27- 30):

{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}
ولما بين تعالى إحاطة علمه بهم، أتبعه إحاطة قدرته فقال تعالى مسبباً عن خيانتهم وهم في القبضة بما لا يخفى مما يريدون به صيانة أنفسهم عن القتل معبراً بالاستفهام تنبيهاً على أن حالهم مما يجازون به على هذا الاستحقاق له من البشاعة والقباحة والفظاعة ما يحق السؤال عنه لأجله فقال: {فكيف} أي حالهم {إذا توفتهم الملائكة} أي قبضت رسلنا وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة، فجازتها إلى دار الجزاء مقطوعة عن جميع أسبابهم وأنسابهم فلم ينفعهم تقاعدهم عن الجهاد في تأخير آجالهم، وصور حالهم وقت توفيهم فقال: {يضربون} أي يتابعون في حال التوفية ضربهم {وجوههم} التي هي أشرف جوارحهم التي جبنوا عن الحرب صيانة لها عن ضرب الكفار. ولما كان حالهم في جبنه مقتضياً لضرب الأقفاء، صوره بأشنع صوره فقال: {وأدبارهم} التي ضربها أدل ما يكون على هوان المضروب وسفالته ثم تتصل بعد ذلك آلامهم وعذابه وهوانهم إلى ما لا آخر له.
ولما كان كفران النعيم يوجب مع إحلال النعم إبطال ما تقدم من الخدم قال: {ذلك} أي الأمر العظيم الإهانة من فعل رسلنا بهم {بأنهم اتبعوا} أي عالجوا فطرهم الأولى في أن تبعوا عناداً منهم {ما أسخط الله} أي الملك الأعظم وهو العمل بمعاصيه من موالاة أعدائه ومناواة أوليائه وغير ذلك.
ولما كان فعل ما يسخط قد يكون مع الغفلة عن أنه يسخط، بين أنهم ليسوا كذلك فقال تعالى: {وكرهوا} أي بالإشراك {رضوانه} بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن سائر الطاعات أكره، لأن ذلك ظاهر غاية الظهور في أنه مسخط ففاعله مع ذلك غير معذور في ترك النظر فيه {فأحبط} أي فلذلك تسبب عنه أنه أفسد {أعمالهم} الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق من قرى الضيف والأخذ بيد الضعيف والصدقة والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.
ولما صور سبحانه ما أثرته خيانتهم بأقبح صوره، فبان به أنه ما حملهم على ما فعلوه إلا جهلهم وسفاهتهم، فأنتج إهانتهم بالتبكيت فقال عاطفاً على ما تقديره: أعلموا حين قالوا ما يسخطنا أنا نعلم سرهم ونجواهم، وإن قدرتنا محيطة بهم ليكونوا قد وطنوا أنفسهم على أنا نظهر للناس ما يكتمونه ونأخذهم أخذاً وبيلاً فيكونوا أجهل الجهلة: {أم} حسبوا لضعف عقولهم- بما أفهمه التعبير بالحسبان- هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما دل على الآفة التي أدتهم إلى ذلك فقال تعالى: {حسب الذين في قلوبهم} التي إذا فسدت فسد جميع أجسادهم {مرض} أي آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات بما دل عليه التأكيد في قوله سبحانه وتعالى: {أن لن يخرج الله} أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم على سبيل التجديد والاستمرار {أضغانهم} أي ميلهم وما يبطنونه في دواخل أكشاحهم من اعوجاجهم الدال على أحقادهم، وهي أنهم كاتمون عداوة في قلوبهم مصرون عليهم يترقبون الدوائر لانتهاز فرصتها، ليس الأمر كما توهموا بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم.
ولما علم من ذلك إحاطة علمه سبحانه وتعالى وشمول قدرته علم ما له سبحانه من باهر العظمة وقاهر العزة، فنقل الكلام إلى أسلوبها تنبيهاً على ذلك عاطفاً على ما تقديره: خابت ظنونهم وفالت آراؤهم فلنخرجن ما يبالغون في ستره حتى لا ندع منه شيئاً يريدون إخفاءه إلا كشفناه وأبديناه للناس وأوضحناه، فإنا نعلمهم ونعلم ذلك منهم من قبل أن نخلقهم، فلو نشاء لفضحناهم حتى يعرفهم الناس أجمعون، فلا يخفى منهم أحد على أحد منهم فقال تعالى: {ولو} ويجوز أن تكون واو للحال أي أم حسبوا ذلك والحال أنا لو {نشاء} أي وقعت منا مشيئة الآن أو قبله أو بعده. ولما كانوا لشدة جهلهم لا يتصورون أن سرائرهم كلها معلومة مقدور على أن يعلمها بشر مثلهم، أكد قوله: {لأريناكهم} أي رؤية تامة كاشفة لك الغطاء عنهم {فلعرفتهم} أي فتعقبت رؤيتك إياهم معرفتك لهم أنت بخصوصك {بسيماهم} أي بسبب علاماتهم التي نجعلها عالية عليهم غالبة لهم في إظهار ضمائرهم عليها لا يقدرون على مدافعتها بوجه، ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن.
ولما انقضى ما علق بالمشيئة مما كان ممكناً له في الماضي وغيره، عطف عليه ما يجزه له مما كشف من أمرهم في المستقبل فقال مؤكداً لاستبعاد من يستبعد ذلك منهم أو ممن شاركهم في مرض القلب من غيرهم فقال في جواب قسم محذوف دل عليه باللام: {ولتعرفنهم} أي بعد هذا الوقت معرفة تتجدد بحسب تجدد أقوالهم مستمرة باستمرار ضمائرهم الخبيثة وإسرارهم {في لحن القول} أي الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه ومذهبه وما يدل عليه ويلوح به من مثله عن حقائقه إلى عواقبه وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك، وقال ابن برجان: هو ما تنحوا إليه بلسانك أي تميل إليه ليفطن لك صاحبك وتخفيه على من لم يكن له عهد بمرادك، وعلى القول بالتحقيق فلحن القول ما يبدو من غرض الكلام وخفيات الخطاب وسياق اللفظ وهيئة السحنة حال القول وإن لم يرد المتكلم أن يظهره ولكنه على الأغلب يغلبه حالاً، فلا يقدر على كل كتمه وإن كان في تكليمه معتمداً على ذلك، وحقيقته حال يلوح عن السر وإظهار كلام الباطن يكاد يناقض كلام اللسان بحال خفية ومعان يقف عليها باطن التخاطب وقال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا ** واللحن يعرفه ذوو الألباب

وقال آخر:
عيناك قد دلتا عيناي منك على ** أشياء لولاهما ما كنت أدريها

وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على الفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح، وقال الأصبهاني: وقيل للمخطئ: لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب: وقال البغوي: للحن وجهان: صواب وخطأ، فالفعل من الصواب لحن يلحن لحناً فهو لحن- إذا فطن للشيء، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحناً فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، قال: فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه، وقال الثعلبي: وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في غزوة وفيها سبعة من المنافقين يشكرهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا على جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق ومثل ابن عباس رضي الله عنهم بقوله: ما لنا إن أطعنا من الثواب قال: ولا يقولون: ما لنا إن عصينا من العقاب.
ولما أخبر سبحانه أنه يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وأنه يجليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم في صور ما يخفونه من أقوالهم، وأكد ذلك لعلمه بشكهم فيه، واجههم بالتبكيت زيادة في إهانتهم عاماً لغيرهم إعلاماً بأنه محيط بالكل فقال عاطفاً على ما تقديره: فالله يعلم أقولكم: {والله} أي مما له من صفات الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها، علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدد بحسب تجددها مستمراً باستمرار ذلك.